“يوميا” الإنسان والتطور
3-11-2007
مقتطف وموقف من كتاب:
سلطان الأسطورة جوزيف كامبل
المتقطف: ص 130
كامبل:
“…. كان Black Elk “الأيل الأسود”، كان صبيا من قبيلة Sioux (من داكوتا الشمالية) وكان الصبى حينذاك فى حوالى التاسعة من عمره، وقد حدث هذا له قبل أن تواجه الفرسان الأمريكية القبيلة التى كانت أقوام شعب السهول الكبير .
الذى حدث أن الصبى مرض نفسيا، وتحكى عائلته قصة الشامان التقليدية، فقد بدأ الصبى يرتجف ثم أصبح لايتحرك من أسفل، وانزعجت عائلته عليه جداً وأرسلت إلى الشامان الذى كان عنده تجربة من هذا النوع فى صباه، وطلبوا منه أن يحضر كمحلل نفسى وأن ينزع الصبى من حالته، ولكن بدلا من أن يخلص الصبى من القوى الإلهية فإن الشامان حاول أن يجعله يتكيف مع هذه القوى، وأن يجعل القوى تتكيف معه ، وهذه مشكلة مختلفة عن مشاكل التحليل النفسى ، وأظن أن نيتشه هو الذى قال: “احذر فى إخراجك للشياطين أن تخرج أفضل شئ فيك” . هذه الآلهة التى واجهها الصبى ولنسمها “قوى” تم الاحتفاظ بها وبقيت الصلة معها بدلا من أن تنقطع، مثل هؤلاء الرجال يصبحون بعد ذلك هم الذين يقدمون النصيحة والهدايا لأقوامهم.
الموقف:
(1) حكى جوزيف كامبل هذه التجربة، لصديقه المقدّم (المحاور) “بيل موريز” وهو يحاول أن يجيب عن تساؤله عن “قدرة الشامان على مساعدة المرضى”، نتيجة لمرور الشامان نفسه بتجارب مماثلة سابقة، كان موريز يسأل فى الصفحة السابقة (129): “وهذا الشخص الذى حدثت له هذه التجربة النفسية، تجربة الصدمة وهذه النشوة، هل سيصبح المفسر للآخرين؟ فأجاب كامبل: إنه قد يصبح المفسر للتراث الميثولوجى للحياة .. (ثم حكى هذه القصة قصة الصبى الأيل الأسود)، وكامبل هنا لا يدافع عن موقف، ولا يدْعو لبديل، لكنه يدعونا للتأمل.
(2) نلاحظ أن اساس المعالج هنا هو خبرته السابقة بتجارب مشابهة وخروجه منها إيجابيا.
(3) لا يحاول الشامان أن يطرد هذه القوى التى تلبست الصبى (عكس ما يفعله أغلب المعالجين الشعبيين الآن وهم يطردون الجان)
(4) كامبل سمَّى هذه القوى باسم “القوى” فقط، وأحيانا باسم “القوى الإلهية“ وهى هى التى اعتبرها الشياطين، وهو يستشهد بنيتشه، فهل هذا يعنى شيئا؟ لماذا الأساطير، وبعض التصوف تستعمل هذه الكلمات بالتبادل هكذا؟
(5) إن استشهاد كامبل بقول نيتشه “احذر فى إخراجك للشياطين أن تخرج أفضل شئ فيك” لا يعنى بالضرورة دفاعاً عن الشياطين، التى تسمى فى الأساطير أحيانا آلهة، بل إن ما وصلنى هو أن كل هذه التسميات إنما تشير إلى “القوى الأخرى” بداخلنا التى لا نكتمل إلا بها، ربما مستويات الوعى الأخرى، أو حالات الذات الداخلية”
(6) إن أغلب العلاجات الشعبية تكاد تفهم الطبيعة البشرية وتركيبها المتعدد أكثر عمقاً، وعلماً من الطب النفسى الاختزالى الميكنى، الذى يلجأ عادة إلى ما هو ألعن من إخراج الجان أو التصالح معهم، حين يقتل هذا الجزء الأقدم (الوعى الآخر) من المخ لمجرد أنه ثار من طول المنع والقهر، ثار مستقلا حتى بدا خطرا على الواحدية oneness (أن يكون المرء واحداً لا أكثر فى لحظة بذاتها) إن ما يفعله التداوى الشعبى فيه حوار ما، أما هذا القتل بالكيمياء طول الوقت طول العمر فأمر آخر. (وهذا لا يعنى تفضيل التداوى الشعبى عن فن التطبيب. أنظر بعد).
(7) إن الشامان – فى قصة كامبل – حاول أن يجعل الصبى يتكيف مع هذه القوى، وهذا لا يكفى من وجهة نظرى، لكنه حاول أيضا أن يجعل هذه القوى تتكيف معه.
(8) إن كل ذلك، وهو موجود هكذا فى الأساطير، وقد اقتطفه كامبل ليستشهد به هنا، إنما يشير إلى ضرورة إعادة النظر فيما يسمى الطب النفسى الحديث، لا لنستبدل به التداوى الشعبى العشوائى، ولكن لنحترم من خلاله الطبيعة البشرية، بعد أن نفهمها من خلاله أيضا.
(9) إنه ينبغى إعادة النظر فى محاولات الطب الشعبى التخلص من هذه القوى، حتى لا تكون النتيجة وجودٌ مختََزل، تماما مثل الذى حذر منه نتيشه “تخُرج أفضل ما فيك”.
(10) إن الطب النفسى التطورى (من منظور تركيبيى هيراركى إيقاعى) لا ينكر هذه القوى حتى لو صدرت فى صورة أعراض خطيرة مثل الهلوسات السمعية مثلا (سماع أصوات لا وجود لها) وفى نفس الوقت هو لا يحاول أن يحترمها لدرجة تبرر الجنون أو تسهم فى التفسخ وفقد الواحدية oneness، وإنما يتدخل المفهوم الطبى التطورى التركيبى المرِن للحد من غلواء هذه القوى (ولو بالعقاقير مؤقتاً، خاصة العقاقير التى يستعملها لأنها تعمل انتقائيا على المخ الأقدم)، ثم هو يحاول أن يتمكن من إعادة إطلاق هذه القوى مع غيرها فى الاتجاه الصحيح بعد أن يكون قد توصل مع المريض إلى احتمال استنئاف المسار (معا) ليس فقط مع الطبيب أو المعالج، وإنما مع مستويات الوعى بعضها مع بعض.
(11) فى العلاج المكثف الأعمق، وفى العلاج الجمعى النمائى قد نجرى تمثيلية صغيرة mini-drama مع هذه القوى، ونكلمها ونتبادل معها الأدوار ليس باعتبارها آلهة أو شياطين، أو جانا وإنما باعتبارها ذواتنا الأخرى“ التى أنكرناها بوسائل متعددة منها الطب الميكنى الحديث!!.
(12) على الرغم من فرحة كامبل – كما وصلتنى – بدور الشامان الذى يحاول أن يجعل الصبى يتكيف مع تلك القوى، وأن يجعل القوى تتكيف مع الصبى، والتى ترجمتها أنا إلى محاولة تنظيم وتصالح مستويات المخ (مستويات الوعى = ذوات الداخل) مع بعضها البعض على الرغم من كل ذلك، إلا أنى أجد فى نفسى ميلا للتحذير أن يكون هذا هو غاية المراد من العلاج.
(13) أحيانا نكون مضطرين إلى فض الاشتباك، مثلما فى الهدنة أو معاهدات الصلح، وضمان عدم الاعتداء مؤقتا، لكن الأفضل – ما أمكن ذلك – هو أن يكون هذا الاجراء المؤقت نوع من التكيف وهو مرحلة جيدة، تنطلق بعدها، ومن خلالها مسيرة النمو (الممتدة حتى الموت وربما بعده) فى جدل متصل مع كل المستويات مهما بدت متناقضة.
(14) أذكّر مرة أخرى، دون تفسير علمى، أن “زكّاها” = (تعنى) “نمّاها”، وليس رجّح أحد شقيها،
(15) وإنما يتم الاحتواء “لفجورها وتقواها”، لصالح استمرار حركية النمو إلى وجه التناغم الأعظم إليه كدحا (جدلا) لنلاقيه.
وبعـد
أعرف أن مسألة تعدد الذوات، وتعدد مستويات الوعى، وتعدد تركيبات المخ تحتاج أكثر كثيراً جداً من كل هذا، وسوف نعود إليها مئات المرات .
بينى وبينكم
وهل صدرت اليومية إلا لهذا.
[1] – سلطان الأسطورة: جوزيف كامبل (مع) بيل مويرز، وهو حوار دار بينهم بين عامَىْ 1985 / 1986، ترجمة بدر الديب / سنة 2002 فى سلسلة المشروع القومى للترجمة.