حـــــوار (1)
ماذا يبقى..؟
(بين كاتب وقارىء)(1)
الرخـاوى: معذرة اذ لم استأذنك، كلماتك هزتنى حتى قاع القاع، الا ان مديحك أحرجنى، لكنى لم أسمح أصلا لمقص نكرهه فيما نكره، أن يعبث فى ألفاظك، فليغفر ربى لكلينا.
شــكرى(2): نثرت مدادك فوق الأوراق، ومضات من نور، ألقيت رسائلك على ورق الأشجار، وسطور خطت كل الطرقات، صرخات من أعماق الأعماق، حملت الريح صدى أنفاسك… كى تنثر فكرا لم يفهمه “العقلاء” ما أغبى العقلاء.
الرخاوى: لا تنفخ – شكرى – فى انسان عادى يحيا المأساة بوعى يأبى أن يستدرج دون بصيرة، فأنا لم أخط سوى بضع الخطوات على درب لم أتبين بعد معالمه، لا تحسب أنى أعرف غير ضرورة حث السير إلى كل المأمول، حتى لو لم يظهر فى الأفق علامة، حتى لو لم يتردد فى جنبات الوادى غير صدى وقع الخطوات المتفردة المنهكة الدائبة الحركة.
شكرى: عفوا، تركوك وحيدا فى محراب الصدق ووادى الحق، تركوك وحيدا فى صدق الاحساس، تخرج بعض الهمسات من زفرات القلب مقطعة الأوصال .. تحكى للأجيال – رغم القول الموجز – آلاف الكلمات.
الرخاوى: يا ليت القول متاح، يا ليت القول متاح!! تنوي..، تبدأ..، تضطرم الثورات الكلمات بكل رموز القول المبدع، لكن عندك !!، يأتى – من داخلك كذلك – من يقطع أوصال الألفاظ بسكين بارد، يتوهم بطش الأعلى .. أو يتصور فهما أكبر من قدرة قلمى، أو يستسخف مثلا عاميا لا يعجبه، أو يرشو السلطة، لكن ما يبقى يكفى، ما يبقى يكفى يا شكرى حتى لو قالوا “ألا نركعها” دون القول بأن الممنوع هو السكر البين فى محراب الله.
شكرى: أتاك رقيب الكلمات .. فأضاع معانى الكلمات ..، تاه كمن تاهوا وسط زحام الزيف الزاحف كالاعصار .. دعنا نلتمس له بعض الأعذار، فهناك من الأسباب ألوف، فالساحة ملأى بالحيتان، واللعبة أكبر من أن يتداركها عقل الانسان. الشاطر من يغتنم الفرصة، حتى لو كانت من أنات المكدوحين، حتى لو كانت قرضا فى عنق الأطفال المنتظرين، الفرصة سانحة والثمن محدد، معروف: أشلاء ضمير، أو بعض نفاق، ذلك شيء مألوف، وستجد المتعة فى أوراق حمراء، أخذت تلك الأسماء، كالباكو ثم الأرنب ثم …..، دعنا لا نتعجب.
الرخاوى: بل نتعجب، أتجاول أن تحرمنا حق الدهشة، حتى حق الدهشة، يا ويل الحس من اليأس المسبق .. فلنتعجب حتى لو .
شكرى: .. (ولتحترق الدنيا،)، حتى لو كان رصيد الدين تناثر فى أرجاء المعمورة، حتى اللقمة نتشدقها، لا نعرف كم ثمنا دفع لها، أو تعرف؟
الرخاوى: لم أفهم، أو دعنى أرجو ألا أفهم، لكن يا شكرى لا يسرقنا حماس الألفاظ، فنسير وراء الأفكار السود ونحن نظن بأن الثورة سوداء اللون بلا وشم أبيض، أو أن الهم يثير الفعل، أو أن اليأس حلال فى زمن القحط .
شكرى: سامحنى، لست مع اليأس ولست إليه أسير .. فتلك سطور. نفثات قد لا ترقى حتى تقرأها، لكن دعنى أخرجها من هذا العقل المتعب، والقلب الباكي..، فأنا أسأل، من أين البدء، والساحة ملأى بالفكر المصلوب:
من صدق القوم أتوه بجمرات: رجموه، من حذر أن سفينتنا نحو القاع تغوص، صرخوا فيه:.. “دعك من الاحباط، فالأمل كبير”
الرخاوى: شكرى، سامحنى أنت، ما لوحت بما لا أملك، ولقد قلت: الأمل كبير، لكنى لا أعنى أن الهدف قريب، أو أن الفعل يسير، أو أن الوحدة ليست ثمنا صعبا فى زمن صعب: ان كنا قد أصررنا نحيا يقظى مهما كان.
شكرى: الكل سكارى وسط سفينتنا، شربوا كأس الدرهم والدولار، لم يعد الكون سوى “فيديو” يحمل بين شرائطه أشياء، لا تحمل معنى الأشياء، لا تعرف غير تفاهات الإنسان: فكرا وخيالا وأحط أحاسيس يترفع عنها الحيوان، فانحشر الناس، بين ظلام الغرفة وظلام الأفكار.
الرخاوى: وظلام الأفكار أشد سوادا، والقهر الجاهز فى هذى الضفة هو هو من يلقاك على البر الآخر حين تفر إليه، أى والله، نحن نفر من القهر إلى القهر، فالام الصبر؟
شكرى: ألقوا كل معانى الصدق، والحب الصافى، فى صندوق قمامة كتبوا فوق غطائه: تلك بقايا إنسان، والمعنى الحائر فوق شفاه البعض يتمتم: كان هنا إنسان، أين الإنسان؟
الرخاوى: أنت هو، أنت هو الانسان بنى، وكذلك دعنى أتصور أنى منك اليك، وأنا مشروع بنائه، لكن لا تنكر حق الناس، أن يسعوا “ناسا” نحو “الناس”، لم لا؟
شكرى: أخشى أن تقترب سفينتنا من بحر الظلمات، تخنقها دوامات البحر الهائج كالأعصار .. حينئذ ستضيع الكلمات.
الرخاوى: أبدا، ما ضاعت كلمة، نبضت يوما فى قلب الحامل لمعانيها، نحن نضيع الأول: فتضيع الكلمات.
شكرى: تتلاشى الحكمة وسط صراخ الأفاقين، وتعانق أفكار الجهل صياح المحتالين.
الرخاوى: هل تحسب يا شكرى ان الجهل له رجلان؟ أن فراغ الكلمات: هو أفكار السلب و “ضد الحق”؟ دعنا نحتفظ بكلمة “فكر”، للفكر الفكر، حتى لا تختل موازين الأشياء، وليبحث أى غراب ينعق، عن لفظ آخر، يصلح ثوبا نجسا للاشيء.
شكرى: البعض حيارى، والبعض سكارى، وهناك هناك، من نبع المعرفة الحقة، يخرج صدق الاحساس، يصرخ فينا بالأفكار وبالآراء وبالأشعار، حينئذ تقذفه الأحجار. أو يصلب أو يلقى فى النار.
الرخاوى: لكن من يبقى بعد زوال الوهج؟ بعد حطام الصنم الأكبر؟ والحق تعالى يلقى بسلام لطفا صدقا فوق لهيب النار، ليكون البرد الرطب المتفجر: أزهارا أفكارا ناسا تستأهل صفة الانسان. لا يبقى يا شكرى الا الحق تعالى، وتعالى الحق، ….
أفليس الأمر كذلك؟
حـــــوار (2)
… عودة إلى شروط لعبة الإبداع
(مع: مصطفى حامد)
الرخاوى: لابد أن أعتذر قبل بداية الحوار عما سنفعله بخطابك حين نقتطف منه ما يصير معه حديثنا حوارا … ولكن مبادرتك بعد ما فعلناه فى نظريتك فى العدد الماضى هى أكرم من أن تشعرنا بالذنب، وهى توحى أنك قبلت ما نفعل رغم ما به من ظلم يلحق بك .. بل بأفكارك، وهى أغلى عليك منك.
مصطفى حامد: (ومع ذلك فاني) .. أتمنى أن أنشر عندك ..، ولذلك لا أبعث انتاجى قط، بغض النظر عن قيمته، لأى مجلة حكومية، بل نشرت فقط فى مجلة النديم التى أساهم مع محمد مبروك فى اصدارها … وان لى فيها قصة وشعرا ومقالة عن أزمة العقل العربي.
الرخاوى: أعلم أزمة النشر فى بلدنا هذا فى وقتنا هذ، وأعجب لها فى هذا “الجو الديمقراطى”، وأحلم بمجلة أو صحيفة حكومية/ معارضة تنشر كل ما يصل إليها بمنتهى البساطة والصراحة (الا الكذب المؤكد، فتنشره جنبا إلى جنب مع تكذيبه) – ومع ذلك تمولها الدولة بنفس المسئولية. والاعلانات التى تدفعها للصحف الحكومية، وتسمح فيها بنقد شخصية وتصرفات رئيس الجمهورية مباشرة، ومن يلونه، كما تسمح فيها بالأدب الثورى، والشكل الجديد المقتحم للغة والفكر والتقاليد العقائدية، وعندى ان مثل هذه الصحيفة هى الدليل الأول والأهم للديمقراطية، أهم من انتخابات مجلس الشعب، ومن حركة صحف المعارضة، ومن محاولتى ومحاولتك، وأنا أتابع باحترام مشوب بالحذر حركة نشر الماستر، واطمئن لنبض الشباب ولكنى لا أثق فى مدى فاعليته، ولعلك ترى فى هذا العدد فرحتنا بمجلة كلمات التى تصدر فى البحرين، ثم الحوار السابق الذى لم أجرؤ أن أسميه شعرا لجرعة المباشرة فيه، اذ قد يكون لحنا هامسا بالألفاظ، أو يكون صرخة منغمة، ولكنه على كل حال ليس الشعر الشعر، أو لعله تصميم على الغناء بكل المباشرة الفاقعة اياها.
مصطفى حامد: … تلك المباشرة التى عبتها على “تصميم على الغناء”، تلك التجربة الخاصة، … وعلى فكرة الشاعر أحمد زرزور شاعركم الأثير – معجب بتصميم على الغناء وقد وعدنى منذ مدة أن يكتب عنها فى جريدة الجزيرة السعودية التى يراسلها … وقد سبق أن كتب عن شعرى المنشور بالنديم فى هذه الجريدة فى اطار تحيته لمجلة النديم … فاذا كان قد كف عن مراسلة جريدة الجزيرة فلماذا لا تستكتبه أنت عن تصميم على الغناء.
الرخاوى: آسف اننا نتحاور حول عمل لا يعرفه القاريء، ولكن دعنى أعترف لك أن نقد الشعر هو من أصعب أنواع النقد جميعا، وأحيلك أولا إلى رأى يقول ان الشعر ليس واحدا (3) وأن قياس نوع منه بما ينبغى أن يقاس به نوع أخر هو عمل كمن يزن كيلو التفاح بقياس قطر كل واحده منه بالسنتيمتر، وأحيلك مثلا لما نشر فى أعداد متتالية فى القاهرة الأسبوعية مع قصيدة وضدها فى نفس العدد، وليت الخلاف كان يرجع لاختلاف الرأى، ولكن لاختلاف التصنيف ووسائل القياس أساسا. كما أحيلك إلى رأى د. ماهر شفيق فى هذا العدد فيما تصوره شعرى واعتبره نظما ركيكا (رغم ملاحقته اياه) دون أن يرجع إلى تصنيف لاحق. ودون أن يتذكر ما قد نبهت إليه من طبيعة هذه المحاولة .. ومع ذلك أوقعه التعميم فى حكم متسرع، وأنا أعترف بحقه فى النقد، لأنى لم أنشر أغلب الشعر الشعر بعد، اللهم الا قصيدة “دورة حياة فقاعة” فى مجل شعر، وبعض المقتطفات فى مجلة فصول (4)– وليس من حقى أن أحاسب الناس على ما لم أنشر، ولكنى أتسائل لنفسى ولك، اذا كنا لا نملك ناصية الشعر، فلماذا الشعر رغم مجاملة أحمد زرزور أو وعده لك، ثم إنه لا يملك – حتى لو كان شاعرنا الأثير – أن يكون وصيا على رأيى ورأيك ورأى د. ماهر وغيرنا، ثم أنى لا أستكتبه، فليكتب ما يشاء، وليكن حوارا إذا أجيز بما يساير ما ينشر هنا، والآن إلى بعض ما يتعلق بنظريتك.
مصطفى حامد: تعيب على أنى لم أقرأ هيجل وابن عربى، وفعلا أنا لم أقرأهما لكن هذا لا يعنى أنى لم أقرأ، بل أنى أمضيت حياتى كلها فى القراءة، وان كنت لم أقرأ هيجل لأنه غير مترجم(5) ولم أقرأ ابن عربى لأن كتبه غير منشورة على نطاق واسع .. فقد قرأت لكثيرين غيرهما، قرأت لسارتر وكامو وماركس ونيتشة وشوبنهاور وديستويفسكى والغزالى وفرويد وبافلوف وأدلر وغيرهم.
الرخاوى: أنا لا أطلب منك – ولا من نفسى – أن تقرأ كل الناس قبل أن تكتب، بل إنى أتهم القراءة الموسوعية بالمساهمة فى أشعارنا بالنقص وفى وأد ابداعاتنا أولا بأول، وقد بلغ من شعورنا بالنقص هذا (ولعل له ما يبرره فعلا) أن قال المرحوم الأستاذ الدكتور رجب عبد السلام (6) عن الأبحاث العلمية التى نجريها هنا أنها أما كلام فارغ أو كلام مفروغ منه، أما الكلام المفروغ فهو ما سبق لغيرنا عمله وما علينا الا أن نقرأه، أما الكلام الفارغ فهو ما نتصور أننا نسبق به غيرنا دون أن نوليه حق مسئوليته ليكون ابداعا حقيقيا، وأنا لا أوافق على ذلك، لكنى أحترمه، وما أشرت لك إلى هيجل الا لأتساءل “.. ولا أعرف أين يقع حديثك من تدرج الوعى عنده (هيجل)”، وفى نفس النقطة تساءلت “أين تدرج الوعى وأقاصيه عند ابن عربي؟” فأنا لم أختر هذين الرائدين اعتباطا لمجرد أن أذكرك بضرورة القراءة بصفة عامة حتى تعدد لى كل هؤلاء، وإنما أنا أذكر نفسى وأذكرك بمن سبق وطرق أبواب الوعى من أصعب مداخله وأخطر طبقاته قبل فرويد وغيره من تلامذة النفس الانسانية اذا قورنوا بحقيقة محاولة الفلاسفة – وهذا لا يعنى أنى أحجر على تفكيرك وابداعك حتى تكمل قراءاتك المنهجية فيما أنت بصدد الاضافة فى شأنه.
مصطفى حامد: … كنت دائما أنفر من القراءة المنظمة المنهجية خشية الوقوع فى براثن القوالب التى صاغتها العقول الأخري… فالحقيقة ليست موجودة فى الكتب، بل موجودة فى الواقع .. الكتب فقط تشير إلى هذه الحقيقة، لكن اذا لم نر هذه الحقيقة بعيوننا فاننا لا نعرف حينئذ الا مصطلحات لفظية نضفى عليها تصورات خيالية .. لذلك كنت أنفق معظم وقتى فى قراءة “الواقع”، وهو نفس الواقع الذى استخرج منه ماركس قوانين علاقة الاقتصاد بالاجتماع واستخرج منه نيتشة قوانين دفع القوة.
الرخاوى: معك كل الحق من حيث المبدأ، فخطر احلال الكلمات، أو الأفكار محل الحياة أو الحقيقة هو خطر قائم جاثم، لا على وعليك فحسب بل على حياة الانسان عامة ومساره فى هذا العصر، وخاصة ذلك الانسان الذى يسمى نفسه مثقفا أو حتى عالما، وقد رأى ذلك المتصوفة بوجه خاص (لذلك كانت الاشارة إلى ابن عربى، والأصعب والأهم: “النفري”) – لكنهم حين حاولوا اعلان ذلك فى شكل أدب أو فلسفة لم يخرجوا لنا الا برقا خاطفا متقطعا لم يستطع أن يضيء وجودنا اضاءة تحررنا من سجن الكلمات ووصاية الأفكار (أفكارنا وأفكار غيرنا على حد سواء.)
مصطفى حامد: كنت أريد دائما أن أحتفظ بالعلاقة بين عقلى وبين الواقع بكرا حية، ولذلك قرأت، لكن بحذر وبغير موسوعية.
الرخاوى: أوافقك تماما، وأخالفك تماما،. أن تحتفظ بالعلاقة بين عقلك والواقع فهذا ألزم ما يلزم، ولكن ليس بالحذر من القراءة وبال بالاقلال منها، وانما بالقراءة النقدية الدائمة، وبالالتحام بما تقرأ ثم قدرتك على الخروج فالدخول فالخروج، فلا يتبقى الا ما تريد وما تستطيع تمثله. لا يريد الكاتب بك وما يحاول أن يقحمه عليه، الحذر واجب ولكن كيفيته تختلف وأنا لم ألحظ فى نظريتك ولا فى حوارك أنك استعملت غير العقل فى رؤية الواقع، العقل بالمعنى الاغترابى الوصى الذى ترفضه (وأتحفظ بدورى تجاهه)، وأحيلك – ان أمكن – إلى محاولة موازية، وان كانت أنضج وأعمق وأكثر اثارة وأوعى حوارا، وهى بدايات فلسفة عربية خطيرة كتبها “تيسير شيخ الأرض” تحت عنوان خادع مسطح (7) – ولعلها وصاية الناشر الذى أبى أن يكتبها هكذا صراحة “الفلسفة” الأجدوانية الوحدوية: فلسفة عربية “حديثة” بدلا من حكاية “دراسات، و “محاولة” – ورغم ما تحتاجه هذه المحاول من تنقيح، وتطوير، وحوار، وشطب، واضافة، فقد جاءت صرخة مفزعة، غامضة وشاملة، تقول ان من حقنا أن نرى بأنفسنا، وعكس ما تقول، فقد جاءت – فى تقديرى – كرد فعل لكثرة القراءة، وذل الترجمة، فالمؤلف صاحب الفلسفة هو مترجم محترف (حسب ظني) وقد قرأ وترجم بدون حذر، ولكن بنقد يتراكم، حتى ثار ثورته الحقيقية، رغم نتائجها المحدودة، وقد حاول بصدق عنيد أن يضرب وصاية العقل، واغتراب الفكر، وكل الفلسفات السابقة (8) بلا تحفظ حتى سمى فلسفته بغير وجه حق الفلسفة الواحدة الوحيدة، وهنا وقع المحظور، وشطح شطح المتصوفة الرائع دون أن يرى موقفه الصوفى أو الشعرى أصلا، ولكن هذا حديث آخر (9) المهم أننا أححرص ما نكون على هذه المجاولات مهما جمعت (10) أو حتى تسطحت، فالمسألة ليست توصية بأن تقرأ هذا، أو اشتراط أن تقرأ ذاك، ولكنها مسئولية الكلمة أن أعلنك أنى لم أجد فى محاولتك الحوار الصريح أو حتى الخفى مع من سبقك فى نفس موضوعك.
عامة.
مصطفى حامد: … لم أشر لكل من قرأت لهم فى عرضى لفكرة العقل فوق الواعى .. لأنى وبكل الأمانه لم أجد عند أحد منهم اشارة لها.
الرخاوى: وهذا ما أخالفك فيه رغم تغير الأسماء، وكنت أنتظر منك قبل النشر ذلك “الحد الأدني” .. بشكل أو بآخر.
مصطفى حامد: اننى أصر بشراحة أنك حين تتحدث عن الحد الأدنى تعود فتشترط كل الشروط الأكاديمية المعروفة:
(1) مراجعة التراث. (2) المقارنة بالتراث. (3) التحقق بالتجربة (11) وبذلك تسترد كل ما ذكرته عن نشر الفروض والمعلومات الجزئية .. الخ وبالطبع فلا يجب أن نجعل هذه الوعود سيفا مسلطا لترغمك على نشر كل ما يرد لك، لكنى فقط أنظر بتحفظ للحد الأدنى الذى تشترطه.
الرخاوى: وهنا يقع الكلام: فأولا: لقد تحدثت عن الحد الأدنى من الجهد، وفرق بين جهد ابداعى منظم (12)وبين ما ترجمته أنت إلى ما لم أذكره، وليس ورود فكرة يتصور صاحبها أنها جديدة هو الجهد الابداعى المنظم المعنى وثانيا: أنا لم أطلب مقارنة نظرية بالتراث وإنما قلت “اختبار نتاج المعاناة الشخصية بالمقارنة بالمتاح من التراث” (ص163 العدد الماضي)، وفرق بين مجرد المقارنة لاعلان الالمام بما كان، وبين اختيار المعاناة، كما ان الاشارة إلى التراث عند عامة الناس، يذكرك باتساع مفهوم كلمة التراث وثالثا: أنا لم أذكر حكاية التحقق بالتجربة كما زعمت، وشتان بين “مجال عملى لتطبيق محتمل لهذه الأفكار . . اما بالحوار أو باعادة تنظيم المعطيات القائمة فعلا من خلال الفرض المقترح” (نفس الصفحة) وبين ما رأيته تجربة، وأنت لم تتحاور الا مع نفسك أو مع من لا يهمه الأمر، وأشهد أنك حاولت اعادة التنظيم ولكن ما بلغنى أن ذلك قد تم بأكبر قدر من السطحية، وأقل قدر من الجهد الابداعى المرعب، رغم جدية المحاولة .
وطريقتك فى قراءة وترجمة ما كتبت أنا شخصيا فى العدد السابق، هى التى استنتجتها من نظريتك، وهى ما شككنى فى علاقتك بالدقة اللازمة، وبالكلمة المحددة، وبالابداع المسئول، لقد رجحت أنك تقرب أفكار وأفكر الغير إلى أقرب واحد صحيح مما كانت نتيجته هذا الكم الهائل من الحماس بلا فاعلية، ومع ذلك فمن حقك، وحق غيرك أن تبدع شريطة أن تتحمل، وتواصل.
مصطفى حامد: عندى اقتراح . . لماذا لا تخصص بابا محددا للابداعات وتكتب فوقه ان هذه الآراء لا تعبر عن وجهة نظر المجلة وذلك تطبيقا للبند الرابع من مادة النشر؟. .
الرخاوى: بل نحن نفعل، بلا باب محدد، من أول آراء محمد جاد الرب حتى العقيدة السرمدية، ومسئوليتنا هى فى تحجيم ما يصلنا فى حدود قدراتنا ومرحلتنا، والحوار أحد وسائل حق المجلة فى هذا التحجيم، وفكرتك، رغم دم نشرها، قد نالت بعض ذلك.
مصطفى حامد: بالنسبة للفكرة نفسها فقد قارنتها بالوعى الفائق Parapsychology ،(13)]) وأرى أنهما شيئان مختلفان، فالوعى الفائق نوع من الوعى، وهو نوع متميز يحدث فى ظروف معينة، أما العقل فوق الواعى فهو جزء من العقل يعمل بعيدا عن الوعى، ويهيمن على الوعى وعند كل لا عند أفراد متميزين .
الرخاوى: بالله عليك هلا قرأت ثانية صفحة 176 أن آخرين: مثل يونج، واريك بيرن، وهنرى أى، وهو جلج جاكسون، وكانت هذه السطور، بل والغزالى وابن سينا قالوا بهذه “التنظيمات البديلة لما هو وعى ظاهر” باعتبارها وعى آخر – ثم تأتى تتكلم من عندك على تميز أفراد معينيين، أما ما ورد فى ص 161 من أن الاسم ليس جديدا، فكان اشارة إلى الاسم لا الفكرة مع التحفظ بأن استعمالات هذه الأسماء تختلف باختلاف مستعملها، ومع ذلك فلك حق فى اعتراضك حتى لو كنت أشير إلى الأسماء، لكنى شرحت نفسى بعد ذلك فى صفحة 167، وأنت لم ترجع قبل أن ترد إلى أى من هؤلاء، حتى إلى ما كتبه كاتب هذه السطور فى هذه المجلة مثلا (14).
مصطفى حامد: تقول فى موضع آخر ان فكرة فوق الوعى تطوير لفكرة الهو عند فرويد واننى تجاهلت هذا.
الرخاوى: بالله عليك هل قولى “ان ما لفت نظرى هو تجاوك لمقولة فرويد عن “الهو”، ذلك أن ما أسماه فرويد الـ “هو” انما يشير إلى كيان مشوش، وطاقة عامة، ولكنك أدركت بحدس ابداعك أنه “تنظيم بديل” . . . الخ” هل هذا يعنى أن فكرة فوق الوعى تطوير لفكرة فرويد! أم ان هذه الفقرة بالذات اعتراف بتجاوزك فرويد دون غيره ممن جاءوا قبله وبعده وقبلك وقبلى، وممن ذكرتهم فى الصفحة التالية (167)؟
مصطفى حامد: مع أن لديك مقالا كاملا لى عن مقارنة مقولات فكرة فوت الوعى بمقولات فرويد جميعا “الهو والأنا الأعلي”.
الرخاوى: نعم عندى، وليس فيه شيء جديد يستأهل، ولا أستطيع حتى الاشارة إليه لأنه ليس فرويد بالذات الواجب المقارنة به فى هذا الشأن، بل من ذكرت لك مما لا تريد أن تنظر حتى إلى المتاح منه، ثم إن الأهم هو خطورة المنهج الذى اتبعته .
مصطفى حامد: بالنسبة للملاحظة التى أمارسها فانها ملاحظة السلوك الانسانى لحظة وقوعه فى مناخه الطبيعى، فالملاحظة التجريبية – كما يرى الكثيرون – لا يمكن تطبيقها على السلوك البشرى
الرخاوى: لا يمكن أن أتمادى معك فى مثل هذا الحديث حرصا على المساحة، والوقت، فقد تناولنا المنهج فى هذه الجملة، وفى باب الحوار بالذات بما يلزمك الرجوع إليه “على الأقل” – ولم نحبذ فى يوم من الأيام تلك الملاحظة التجريبية أصلا، وأنت لم تلتقط ابتداء الفرق بين الملاحظة والاستبطان والمنهج الفينومينولوجى، فماذا أقول وأنت تصر بلا جهد ولا مراجعة، ومع ذلك.
مصطفى حامد: اذا كان غيرى قد توصل لنفس الفكرة فلماذا لم تشرحها للقاريء، بافاضة وعلى لسان غيرى . . .
الرخاوى: اذا كنت لم أعرض فكرتك أصلا، فما الذى يلزمنى بعرض أصلها والأجدر بها الا اذا جاء من يفعل فى حدود التزام النشر، ثم اننا نشرنا فى هذا الموضوع، حتى فى باب النقد ما يؤكد وجود “الذوات” الاخرى بطريقة أكثر تكثيف وعمقا ومسئؤلية، ولا أحسب أنه سيصل إليك شيئا من ذلك اذا ظللت تقرأنا – وتقرأ غيرنا بهذه العجالة والحماس الخطر
مصطفى حامد: اسمح لى أن أرى فى مقارنتك لبحثى ببحث الصديق عبد الوهاب ظلما لى وله، فبحث عبد الوهاب مبنى على نوع من الحدس الصوفى بينما بحثى مبنى على التحليل العقلي.
الرخاوى: بالله عليك ماذا تقول؟ فليس ثمة بحث أصلا لعبد الوهاب، وليس ثمة حدس صوفى، بل دعنى لا أسمى ما جاء فى حواره احتراما والتزاما، وما عرضت فكرته الا لأعلن كيف ان سلامة المقدمات قد تتعارض تماما مع فساد النتائج، وكيف ان الالهام والوحى فى وحدة مطلقة وبلا اختيار تطبيقى لابد وأن ينظر إليه بحذر ومسئولية والا ساح الحبل بالنابل كما يقولون، أما تحليلك العقلى مع رفض الحدس فهو شديد التواضع سطحى المنطق بشكل يلزمك – باعادة النظر، مما قد يلزمنا بمثله، وإلى أن يتم ذلك . .. ألا يجدر بنا شخذ أدوات ملاحظتنا وهى ذواتنا بتواضع مناسب .
مصطفى حامد: بحث الصديق صلاح الدين محسن الذى تجعله مثلا أعلى لنا هو مجرد ملاحظات واقعية تؤيد فكرة علمية معينة وبهذا فهو لون ثالث لا علاقة له ببحثى أو بحث عبد الوهاب .
الرخاوى: نعم هو لو ثالث، وأنا لم أقل انه مثلك أو مثل عبد الوهاب، واحترامى الشديد لأسلوبه، ودقه ملاحظته، وتواضعه، هو شهادة لازمة تهدينا جميعا إلى بعض ما ينبغى، ثم اعتراضى على استنتاجاته تؤكد أنى لم أضعه مثلا أعلى مطلقا، وقد حددت أن فكرته ليست جديدة، وان كانت تثير قضايا متجددة، فماذا فى كل هذا .. سيدي؟
مصطفى حامد: اننى أتمنى أن تقتنع بانشاء باب “ابداعات” وتنشر فيه الابداعات المختلفة كما هى، وتترك القاريء يشترك فى الحكم عليها والتحاور معها .
الرخاوى: وأنا أعدك أن أعرض الأمر على الزملاء، وأن كنت أعتقد أننا فعلا نفعل ذلك بمنتهى المغامرة والمسئولية، وكل ما أطلبه منك – مثلا – أن تقرأ هذا العدد (جميعه من الغلاف للغلاف) – مثلا – مرتين، وأن تدون ملاحظاتك كما تشاء، ثم تعود فتقرأه لترى ان كنت دونت ما جاء به فعلا، أو ما هو بعقلت أنت قبل أن تقرأ، وهكذا نحيى أملا فيتقارب أكثر التزاما. ولتعذرنا – بكرم سماحتك – فى ج،ميع الأحوال.
مصطفى حامد: . . . كل رجائى ألا ينقطع الحوار.
الرخاوى: ونحن كذلك.
[1] – حكاية هذا الحوار أن الكاتب رأيا فى صحيفة يومية، فحذفت هذه الصحيفة بعضه مما لا يؤثر كثيرا فى مضمونه ونشرت الباقى، فأرسل القارئ للكاتب خطابا صريحا يحمله مسئولية ما كتب (كان عن حكاية غش الامتحانات بكلية الطب بانتحال طبيبين صغيرين شخصية طالبين مغتربين) فرد عليه الكاتب يعترف، ويعتذر، ويشرح له ما حاوله فى كليته ولم يسمع له، وما حاوله على صفحات الصحف ولم ينشر جميعه، فأرسل شكرى هذا الكلام الرقيق الذى استحث الكاتب فجعله يرد على نفس الموجة، الا أن الصحيفة المعنية رفضت نشر هذا الحوار، فوجدنا بعد طول تردد، أنه قد يكون مناسبا لأغراض هذه المجلة من حيث تأكيد الأمل فى احترام الكلمة واحتمال فاعليتها ولو بعد حين.
[2] – شكرى بدران : 10 شارع سويلم، دير الملاك – القاهرة – خشية أن يتصور القارئ أن الحوار مصنوع، وقد كتب خطابه مرسلا، فقطعناه كالعادة، وحشرنا الردود كالعادة، ليكون حوارا كالعادة . . .
[3] – يمكن الرجوع فى ذلك إلى التفرقة بين الشعر المحرض و الشعر الجميل وشعر الحكمة ثم الشعر اللاشعر كل ذلك فى مقابل أقصى الشعر أو الشعر الشعر – مجلة “فصول” المجلد الخامس. العدد الثانى / مارس 1985، (يحيى الرخاوى) الايقاع الحيوى ونبض الابداع 76 – 91 .
[4] – نفس المقال المشار إليه فى الهامش السابق.
[5] – هيجل بالذات مترجم ومكتوب عنه، ومقتطف أكثر من غيره، وابن عربى بالذات منشور له بما يكفى وزيادة .
[6] – أستاذ الأمراض الباطنية فى كلية طب قصر العينى سابقا.
[7] – تيسير شيخ الأرض : دراسات فلسفية : محاولة ثورة فى الفلسفة. دار الأنوار – بيروت الطبعة الأولى 1973 .
عرض هذا الكتاب فى الندوة الشهرية للجمعية التى تصدر هذه المجلة فى شهر ديسمبر 1985 وامتد عرضه إلى الندوة التالية شهر يناير 1986
[8] – اليك بعض مقتطفات فى اتجاه ما تريد:
فالتخلص من الفكرياوات (الايديولوجيات) يكون بالرجوع إلى الوجود، والتشوف إلى موجود ما وراء كل فكرة أو تصور (ص : 28)
…… ننتهى إلى أن الفكر – من حيث هو فكر – لا يمكنه أن يتناول الوجود، بل أن يستدل عليه فقط، . . . . (وهذا) خطأ عريق فى التفكير الإنسانى، وهو الاعتقاد بأن الفكر بامكانه أن يدرك الوجود . . (ص : 141) . . . الخ .
[9] – هناك اقتراح أن نخصص عددا بأكمله من الانسان والتطور لمناقشة هذا الفكر رغم كل التحفظات والاعتراضات .
[10] – سبق ان تناولنا فى نداوتنا محاولتين للتفكير المستقل النابع منا هما وحدة المعرفة للدكتور محمد كامل حسين والتعادلية لتوفيق الحكيم، ومع تحفظنا الشديد تجاههما فقد احتفينا بهما بما يؤكد اتجاهنا .
[11] – جاءت هذه الشروط على سطور ثلاثة وبالانجليزية هكذا :
1- Litrature survey.
2- Comparison with literature
3- Experimental confirmation
[12] – هذا هو التعبير الذى صدر منذ أول عدد فى هذه المجلة ” ….. انظر دائما آخر صفحة الفقرة الثانية .. بقدر ما تحمل من جهد ابداعى متظم”
[13] – هكذا كتبها الأديب مصطفى حامد، وكأن كلمة باراسيكولوجى، أو علم “مابجوار علم النفس” هو المرادف لكلمة الوعى الفائق . . .!!
[14] – يحيى الرخاوى (1981) الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى: الإنسان والتطور، العدد الرابع – السنة الثانية ص 19 – 33 .