نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 13-6-2015
السنة الثامنة
العدد: 2843
حوار مع مولانا النفّرى (136)
الامتحانات صعبة وضرورية ورائعة وواعدة ولا بديل لها
مقدمة:
ليس كل من يقرأ حوار السبت مع مولانا، يقرأ “حوار/بريد الجمعة”(1)، لذلك لا أجد حرجا أن أعيد حوارا لى مع إبنى محمد، أمس، حين أرسل يقول:
تعجبت مرتين
الأولى: لمصادفة قراءتي وانبهاري واستشهادي لأصدقاء بموقف “الاختيار” للنفري حيث يشير للبلاء، وهو انبهار وانشكاح لم أستطع تفسيره، ولم أرفضه، بل إنني سعدت به دون تفسير، أو يكاد
والثانية: أن أجدكم قد رحبتم هذا الترحيب بالبلاء، وهو ما يتسق مع ما أشرت إليه مما لم أفسر، فانكسر بعض الوحدة، وها هو ما كتب النفري فى موقف الاختيار، مما لم أفسر، ولم أرفض، وبه سعدت وانشكحت دون فرط فهم أو تفسير:
وقال لى:
“لا بد من أن أتعرف إليك، وتعرفى إليك بلاء، أنا لا أزول أنا أصل البلاء، أحببت فيك البلاء، أظهرت لك البلاء، كرهت منك البلاء، معرفتك بالبلاء بلاء، إنكارك للبلاء بلاء”
فرددت عليه أمس قائلا:
فرحت بمداخلتك كالعادة، ورحت أفعل ما لا تحب كالعادة:
رحت أقلب فى معاجم لغتنا العبقرية الحضارة، كما رجعت إلى القرآن الكريم، مع الحذر الشديد أن استعين على فهم حدس مولانا النفرى من خارجه، كما علـّمتـَنى، فإذا بكلمة “بلاء” فى المعاجم تحمل عددا من المضامين لا يجوز أن تكون وصية بحال على حدس مولانا.
عموماً، أكتفى الآن بإبلاغك بعض ما وصلنى من المعاجم عن “حركية” لفظ ما هو “بلاء”، فهو: “المصاعب” و”المصائب”(!)، وهو “البسالة” (أبلى بلاءً حسنا)! وهو الإعياء، وهو الحزن وهو الجهد الشديد فى الأمر، وهو الاختبار والتجربة، وهو الفناء، وهو صفة للقـِدَمْ! (فكرة عفى عليها الزمن = بالية)
أما فى القرآن الكريم فقد وصلتنى كلمة “بلاء” وما إليها، بما يفيد أنه امتحان متجدد دائم له علاقة بالاختيار الأصل: “حمل الأمانة”، ولكن يبدو أن مادة “البلاء” المقررة علينا لها مواد فرعية كثيرة وامتحانات متعددة من أول “تحمل الاختلاف” حين أراد بمشيئته ألا نكون أمة واحدة، امتدادا إلى مواجهة “الوعى بالموت” و”الوعى بالحياة” كما خلقهما الله سبحانه، إلى تحمل الظلم ومواجهته، كل ذلك ضمن مسئولية الاختيار،
وهذا ما قد يكون موضوع نشرة الغد (السبت)
مع الاحتفاظ لمولانا بفضله لما تبعثه فينا نفس الكلمة من استلهامات، وتنشـِّطُهُ من مساحات منفرجة الامتداد من الوعى والبصيرة
وإلى الغد لو سمحت.
……..
وها هو الغد قد جاء، فواصلت الطريق الذى أوصانى إبنى ألا اسلكه، فوصلنى ما يهمنى توصيله بما أستطيع لمن يهمه الأمر.
أولا: تذكرت موقع كلمة البلاء فى لغتنا العامية، وشعرت أن العامية الجميلة قد ظلمتها بالمقارنة إلى زخم ما يمكن أن تحمل من مواجهة امتحان الوجود الصعب، ومصاحبة كدح الجهاد الوعر،
فى العامية تستعمل كلمة البلاء مقترنة بالصبر بشكل أو بآخر،
الصبر يا مبتلى أفضل من الهذيان
وافضل من الحجّ وافضل من صيام رمضان
وأيضا:
الصبر يا مبتلي والصبر يا أيوب
والصبر جبتو معي حتى ينمحي المكتوب
والصبر جبتو معي من يوم هِجرتنا
وحجارة الدار يا يما تبكي فرقتنا
ولعل أشهر مثل لاقتران الصبر بالبلاء هو صبر أيوب على ما اصابه مما لا داعى للعروج إليه
أيضا اختزل الاستعمال الشعبى مشتقات البلاء إلى ناتجها المؤلم أو المفجع دون غيره غالبا، ووذلك فى استعمالهم مشتقاته الشائعة مثل: “بلوة مسيّحة”، ” … “بلاوى واتلقحت علينا” “فلان ده بلوة ماحصلتشى” “فلانة دى بلوة واتبلينا بيها”،
يا ترى لماذا مال الوعى الشعبى إلى أن يزيح البلاء إلى ناحية دون الأخرى هكذا
أنا آسف يا مولانا، لكن هذا بعض ما حضرنى وأنا – مثل إبنى- أتعجب لهذا الميل إلى الاختزال والاستسهال بعيدا عن سعينا إليه، وعن مآزق الاختيار، وفى أزمة الحرية، وفى صعوبة اتخاذ القرار، كل هذا حضرنى كلما مرت على كلمة بلاء فى مواقفك يا مولانا.
المعاجم لم تكن افضل كثيرا من الاختزال الشعبى، حيث وجدت ميلا واضحا للتفرقة بين البلاء والابتلاء، فزاد حذرى من وصايتها، وصاية المعاجم، ولا أقول زاد رفضى لها
هذه التفرقة الحاسمة بين البلاء والابتلاء لم تصلنى من ورود الكلمة فى القرآن الكريم
مثلا:
- “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ “
- “وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ”
يالله عليكم، هل هذا بلاء أم ابتلاء؟ فلماذا هذه التفرقة الحاسمة؟!!
ثم إن القرآن الكريم استعمل لفظ البلاء والابتلاء ليصف مواقف إنسانية شديدة الصعوبة، وهى تناقِض تماما استسهال الزعم بـ “قبول الآخر”، بمجرد رفع شعارات المواطنة ، ومثل هذا الكلام، إن مجرد أننا لسنا أمة واحدة هو امتحان صعب، علينا أن نجتازه بكل ألم، وبكل احترام، وبكل عدل، وليس بالأحضان وتبادل القبلات فى الأعياد
- “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ “
- “وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ …”
وتبلغ قمة احترام الكلمة حين تأتى فى سياق الامتحان الأكبر لمعنى الوجود
- “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”
فهل يصح بعد ذلك أن نسلم لبعض المعاجم ونعتبر الابتلاء لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق.
لكن والحق يقال أغلب المعاجم قد اعتبرت أن البلاء والابتلاء كلاهما امتحان واختبار، ويكونان بالسراء والضراء، ويقعان شرعا وقدرا،
ولكن ثم مأثورات أخرى تحمل مسئولية الكلمة بشكل أعمق وأفضل مثل:
” إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم…. فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط “
أما الصياغة الأشمل التى تضم البلاء إلى الابتلاء فلعلها فى الآية الكريمة:
“َأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ”.
مع التذكرة مرة أخرى، لا أعرف لماذا يا مولانا بالآيات الكريمة
“الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا”(2)
وبعد
نرجع مرجوعنا إلى مولانا النفرى فنجده يكاد يحدد حضور البلاء ومضمونه ونبضه وإيحاءاته البلاء فيما هو:
امتحان لنوعية الوجود البشرى فى مسيرته نحو ربه، وقدرته على حمل أمانة هذه المحنة الرائعة الحاضرة المستعادة أبدا، ويمكننى إيجاز ما وصلنى من استعمالك يا مولانا للكملة فيما يشمل كل ما يلى:
البلاء هو دخول الامتحانات المتتالية الصعبة والضروية والرائعة والواعدة التى لا بديل لها
ولكن يا ترى هل يؤدى ذلك إلى التوقف للتأمل طول الوقت لنرى هل ننجح فى امتحانات البلاء أم لا؟
حين نعود لبقية استعمالات مولانا النفرى لهذه المواجهة بالبلاء طول الوقت، قد يلوح لنا أنها دعوة للتركيز على الذات، والإشعار بالعجز، بما يمكن أن يؤدى إلى عكس المراد، وهو التأثيم وشلل الوعى نتيجة لصعوبة الامتحانات وكثير منها “من خارج المقرر”!!!
إن ما وصلنى هوعكس ذلك تماما
فهى دعوة إفاقة ضد الاستسهال وضد اختزال وجودنا إلى ما شاع عنه وضد الإصرار على تجنب الالم حتى لو كان بتجنب المسئولية اصلا
وهى دعوة للنظر فى أعمالنا وسعينا إلى وجهه بالذات يمقياس “مثقال ذرة”
وهى دعوة لمواصلة السعى ضد أوهام الوصول
وهى دعوة لاحترام كل شىء والعدل فى كل أمر لأن الامتحان منعقد طول الوقت
وهذا بعض ما قد تتيحه لنا فرصة استكمال حوارنا معه فى نصوص اخرى عن شرف دخول امتحانات البلاء سواء جاءت الأسئلة من المقرر أم من قلوب نعقل بها فضل ربنا وهديه.
وأستأذنك يا مولانا أن أختم بمقتطفين: الأول من نفس الموقف “كدت لا أواخذه”
وقال لى: القلب الذى يرانى محل البلاء.
والثانى من موقف موقف الدلالة
“…. المعرفة بلاء الخلق خصوصه وعمومه وفى الجهل نجاة الخلق خصوصه وعمومه.
ويا رب أستطيع العودة إليهما بما أقدر
وقال لى: يا من بلاؤه كل شىء صرفت البلاء عنك بالعافية والعافية داخلة فى الشيئية والشيئية بلاء والبلاء والعافية إذا رأيتنى عليك سواء فأيهما أصرف والصرف بلاء.
وقال لى: إذا رأيتنى فلا عافية إلا فى نظرك إلى وهو بلاء لأن نظرك ضدية غضك والضدية بلاء.
وقال لى: حجابى البلاء وحجابك البلاء، حرق حجابى حجابك فأزاله الحرق فخرجت من بلائك إلى بلائى.
موقف البصيرة
وقال لى: إذا رأيت سواى فقل هذا البلاء أرحمك.
موقف اسمع عهد ولايتك
وقال لى: إذا رأيت نفسك كما ترى السموات والأرض رأيت الذى يراها منك هو أنت لا إلى حاجة ترجع ولا إلى خليقة تسكن فلسترى إياك ما ابتليتك بصفة لا تثبت فى حكمك ولا تقوم فى مقامك فصفتك ترجع لا أنت وصفتك تميل لا أنت تميل.
وقال لى: وعرج بى عن حقه فلم أر شيئاً، فقال لى رأيت كل شىء وأطاعك كل شىء ورؤيتك كل شىء بلاء وطاعة كل شىء لك بلاء.
[1] – مع الاعتراف بتواضع عدد من يتابعنا ناهيك عن عدد من يحاور اصلا!
[2] – ربما لأن هذه الآية ، بهذا الترتيب، هى مفتاح نقدى لملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ حين بدأها فى الممر بين الموت والحياة، وليس بين الحياة والموت”