نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 16-9-2014
السنة الثامنة
العدد: 2573
الثلاثاء الحرّ:
من أفكار وآراء مواطن مصرى (1 من 2) (1)
س 1 : د. يحي الرخاوي شاعرا وكاتباً وطبيباً هل يمكن توصيف اوجاع الوطن بالشعر؟
د. يحيى:
طبعاً يمكن ولكنه توصيف باجتهادات مواطن لا أكثر، أعنى أنه ليس بهذه الصفات التى وردت فى السؤال تحديدا، وعموما فالشعر هو أقدر الوسائل الإبداعية على تصنيف الأوجاع، أكثر من العلم، والطب، فالعلم يصنف الأوجاع بمواقع الألم فى المخ، وكمية الأفيونات الطبيعة التى يفرزها المخ وكلام من هذا، أما الطب فهو يصنفها بأسماء الأعراض مثل: القلق والاكتئاب والهلع والضجر وكلام من هذا أما الشعر فهو يغوص إلى الوجدان والإدراك والوعى ويعيد تشكيل كل فى ذلك فى تنظيم جديد له موسيقاه ونبضه وصوره فيصور الأوجاع بأبعاد جديدة وأعماق جديدة وحفز جديد، ذات مرة وصفت صرخة ألم صامت وصلتنى من مريض قلت:
“هل أطمع يوما أن يُسمع لي؟ هل يُسمح لي؟
هل يأذنُ حاجَبكم أن أتقدم . لبلاطكمو التمس العفو . أنشر صفحتىَ البيضاءْ . أدفع عن نفسى. أتكلم !
أحكى فى صمت عن شئ لا يحكى . عن إحساس ليس له اسم . إحساس يفقد معناه، إن سكن اللفظ لميت.
شئ يتكور فى جوفى . يمشى بين ضلوعى . يصّاعد حتى حلقى . فأكاد أحس به يقفز من شفتى . . . .
وفتحت فمى: لم أسمع الا نفسا يتردد . إلا نبض عروقى . وبحثت عن الألف الممدودة . وعن الهاء .
وصرخت بأعلى صمتى . لم يسمعنى السادة .
وارتدت تلك الألف الممدودة مهزومة . تطعننى فى قلبى . وتدحرجت الهاء العمياء ككرة الصلب..، داخل أعماقى…الخ.
هل هناك وصف للألم أعمق من هذا الصمت؟
س 2 : ذكرت في مقال لك في الاهرام ان اينشتين كان شاعراً.. ؟
د. يحيى:
هذا صحيح، وكان لزاما علىّ أن أقوم بتقديم موجز عن ماهية الشعر كما أعرفه حتى يكون الوصف دقيقا، واستعنت بكتاب اسمه “العلم والشعر” تأليف أ.أ. رتشاردز ترجمة محمد مصطفى بدوى كتب مؤلفه يقول: “.. وللأسف العميق كان الكثيرون – ومنهم كيتس- مثلا يعتقدون أن النتيجة الحتمية للتقدم العلمى هى هدم فرص وجود الشعر”. ثم راح المؤلف يفند هذا الرأى ليثبت أن الشعر مكمل للمعرفة الكلية، وأن العلم والشعر لا بد أن يتضفرا تكاملا، لا أن يتنافسا استبعادا”. ثم إنى استشهدت ببعض أقوال أينشتاين مثلا حين يقول مثلا: “علينا أن نجعل كل شئ أبسط ما يمكن، ولكن ليس أبسط من ذلك”.
س 3 : العلاقة التي تجمع بين الشعر وعلم النفس..؟
د. يحيى:
ذكرت حالا العلاقة بين الشعر والعلم، وللأسف فإن علم النفس التقليدى أو المؤسسى قد ابتعد تماما عن الشعر حتى كاد يخاصمه، لكن الانجازات الأحدث فالأحدث فى العلوم الإنسانية استقل فيها علم الادراك “عن علم النفس، والتى ترعرع فيها العلم المعرفى عموما والعلم المعرفى العصبى خصوصا، حتى صار هذا العلم يتحدث عن كيف أن “المخ يعيد بناء نفسه باستمرار” بالعلاج وبغير العلاج (بالأحلام) من هنا يمكن أن نقول أن المخ البشرى هو أعظم شاعر خلقه الله، لكننا بتربيتنا المغلقة، وتفكيرنا الحديدى نكبله حتى نجهض شاعريته.
س 4 : ما هو تحليلك لشخصية الشعب المصري وخاصة خلال الثلاث سنوات الماضية.
د. يحيى:
أنا لا أحلل الشخصيات: لا شخصية الشعب المصرى ولا شخصية الرئيس المصرى، ولا حتى شخصية المريض المصرى، أنا أقرأ النص البشرى بما عندى من قدرات القراءة على مستويات مختلفة اكتسبتها من مهنتى أساسا وشحذتها بفضل مرضاى وممارستى، حتى صرت الآن اسمى ما أمارسه من علاج باسم “نقد النص البشرى” والنقد هو إعادة تشكيل النص الأول، لكن نقد النص البشرى يختلف عن نقد النص الأدبى فى أن الناقد (المعالج الطبيب) يعيد تشكيل نفسه أثناء إعادة تشكيل مريضه، وبالتالى تختفى شبهة غسيل المخ.
س 5 : تحليلك لظاهرة العنف في الشارع المصري والجامعات.. وهل يمكن الاعتياد عليه؟
د. يحيى:
أبدأ من الآخر واستبعد فكرة الاعتياد على العنف بالذات مهما تكرر، فالبرغم من أن العدوان طبيعة بشرية، بل هو طبيعة حيوية، فإن له دور إيجابى فى مرحلة التفكيك فى الإبداع، ثم أرجع إلى أول السؤال لأقول إن العنف فى الشارع المصرى خاصة بعد مضى ثلاث سنوات على بداية محاولة إتمام ثورة وضعنا فيها آمالا عظاما، أصبح سلبيا تماما، وخاصة عند شباب الجامعات، فليست هذه هى الوسيلة المناسبة للتعبير أو الاحتجاج، ولكنى لا أرى أبدا أن هذه الوسيلة البدائية لم تعد، وإن شاء الله لن تعود، وسيلة للتعبير المناسب خاصة فى مرحلتنا الآن.
س 6 : ما هي الملفات التي باتت ملحة للانسان المصري الان؟
د. يحيى:
كل الملفات ملحة، وأعتقد أن ملف الأمن فالانتاج والتعليم تحت مظلة عدل مطلق، هى الملفات الملحّة الآن ودائما.
س 7 : تحليلك لنفسية الاخوان وكيف سيكون مستقبلهم؟
د. يحيى:
قلت حالا أنا لا أقوم بما يسمى التحليل لا للفرد ولا للشعب وبالتالى، ولا للاخوان، هذه جماعة لها تاريخ، بدأت بطموحات جسيمة، ولم تتح لها الفرصة لاختبارها على أرض الواقع، ثم عاشت ظروف القهر والرفض عقودا طويلا، وفجأة وجدت نفسها فى اختبار واقعى أتاح لها فرصة معرفة مدى بعد طموحاتها عن الواقع، بل وعن القيم التى تتصور أنها تدعو إليها، وأيضا لتكتشف زاوية انحراف أغلب أعضائها عن ما يعرفونه عن ظاهرهم وعن اسلامهم وعن إيمانهم، وقد تم ذلك بسرعة فائقة، فهى قد سقطت فى الامتحان وهم سبب فشلهم أكثر من جهد أعدائهم ضدهم، أما مستقبلهم فهذا يتوقف على مدى قدرتهم لاستيعاب الدرس ومدى قدرة المجتمع لاستيعابهم إذا ما أفاقوا .
س 8 : الاختلاف في الرأي احياناً يكون علامة صحية واحياناً علامة مرضية.. متي سينشأ الحوار السليم وتقبل الآخر؟
د. يحيى:
الحوار ليست مناقشات لفظية، ولا منافسة منطقية لإثبات الرأى الصحيح من الرأى الخطأ، الحوار الحقيقى يتوقف على سلامة حركية وعى بشرى وهو يتلاحم بوعى بشرى آخر من خلال كل وسائل الاتصال فى إطار عدل حقيقى ليخرج الطرفان من الحوار وكل منهما مختلف عن ما بدأ به، وهذا يكاد يكون غائبا عن أغلب المتحاورين حاليا.
س 9 : تحليلك للنخب والحركات السياسية التي نراها علي الساحة الان وما الواجب عليها فعله حيال الوقت الراهن؟
د. يحيى:
أنا لا أشك فى نوايا أغلب من هم على الساحة الآن، وإن كان المتتبع الأمين لابد أن يلاحظ أنهم يتجمعون ليتفرقوا، ثم يعودون يتفرقون ليتجمعوا فى تشكيلات جديدة، هذا ليس سيئا، لأن الناس لا تعرف بعضها البعض إلا من خلال الاحتكاك الحقيقى والتجارب الواقعية، وأعتقد أن الصبر على تحمل هذه الحركية يمكن أن يفرز تجمعات سياسية متباينة متكاملة معا.
أما تعبير “النخب” فأنا أفضل عدم استعماله فى مجال السياسة على الأقل حاليا.
س 10 : دائماً نتفاخر بأجدادنا القدماء وبانتصارات قديمة متي سينظر المصري للمستقبل؟
د. يحيى:
أى تمجيد للماضى، أو اجتراره، أو الفرحة المعطلة بانجازاته بما تستجلبه من فخر، هو إهانة لهذا الماضى العظيم، إن من يريد أن يفخر بماضيه عليه أن يكمله أفضل منه، وهو وشطارته. أما النظر فى المستقبل فقد يكون معطلا أيضا إذا حلّ محل الفعل “الآنى” “حالا”، فى العلاج الجمعى الذى أمارسه نحترم الالتزام بقاعدة تسمى “هنا والآن” وهى تستبعد كلا من الماضى حتى لا يكون الكلام تبريرا وتفسيرا فحسب، كما نستبعد المستقبل حتى لا يكون التخطيط تأجيلا وأمانىّ فحسب.
[1] – حديث تم نشره فى مجلة 7 أيام بتاريخ 28 يناير2014