نشرة “الإنسان والتطور”
23-10-2010
السنة الرابعة
العدد: 1149
قصة قديمة (1996)
لست أعرف ما الذى أحضر هذه القصة إلى ذاكرتى، لتحتل كل وعيى لحظات،
وهل لها علاقة بالقصة الأحدث: الفراشة (؟!)،
لست متأكدا،
ولا أريد أن أعرف.
هل أنا نفسى الشىء طول الوقت؟
المضِيفة…، والطفل
-1-
وضعت المكبر الذى كانت تتحدث فيه جانباً. مدت يدها إلى الداخل، فلم تمسك بما كانت تبحث عنه، فخافت أن تخونها البسمة المِهنية أيضا. بدأت جولتها فى طرقات الطائرة تتأكد من ربط الأحزمة وسعادة الجميع. الرحلة السابعة والثلاثون بعد المائة، هكذا أعلنوا منذ قليل، لكن هذه المرة ليست ككل مرة. من أين تأتى المشاعر الجديدة الصعبة؟
حين سألها رئيسها عن صحتها، وعن آخر إجازة قامت بها، شكرته، لكنها بدأت تفكر بلا طمأنينة، ولا أمل قريب.
-2-
الطائرة تعلو فى انسياب، القائد رائق المزاج، رقيق القلب، تمضى عارية فى الطرقات على الرغم من الابتسامة الحجاب. هذه المرة ليست مثل كل مرة، بل هى قراءة جديدة لما يحدث كل مرّة، لم تكن تتصور أنه سيعود يلاحقها بين السماوات السبع. تصورتْ ـ فى بادىء الأمر، وصح تصورها لفترة ليست قصيرة ـ أن السماء أخفى مهرباً وأرحم وطأة من أشواك الأرض ونَزْفِها، أعفتها شروط المهنة من التهديد بالزواج؛ علاقات مؤقتة عابرة، وجوه سريعة متغيرة، موقف معلّق، وسحابٌ صديق، فما الذى جرى ليجعل الأمر هذا الصباح بهذه الصعوبة؟ تحتاج اليوم إلى جهد لم تعتد أن تبذله لمثل هذه المواقف المعادة السهلة. تتحرك اليوم بصعوبة، توزع البسمات والعصير المعلب من المصدر ذاته، وبالروح نفسها، بدت متعجلة ـ من الداخل ـ لتنهى المهمة، ربما قبل أن يفرغ إطار الوجه من هواء الود المضغوط.
-3-
أثناء مرورها بجواره، ودون سابق إنذار، تعلَّقَ بيدها فى شقاوة تلقائية حانية، طفل فى الخامسة، جلس بجوار الممر على غير ما اعتادت بالنسبة إلى الأطفال من سنـّه. نظر فى وجهها فاعتراها حياء غير مناسب. لاحظت أن سنتيه الأماميتين مفلوجتان، تساءلت: إن كان صحيحا أن بعينيه آثار دموع، على الرغم من وجهه المشرق بالبسمة الغامضة؟ خطر ببالها ـ دون إصرار ـ أنه حزين، طفل فى الخامسة حزين، لم ذاك؟.
(تستطيعون أيها السيدات والسادة أن تشاهدوا على اليمين كذا وكيت. نحن على ارتفاع كذا ألف قدم، ونعـبر الآن المكان الفلانى…).
ناداها الصوت، فانسحبت إلى مقعدها بمؤخرة الطائرة، وتركت نفسها تسقط فيه مرة واحدة. خلعت البسمة، وودّت لو تشعل سيجارة، لتلتهمها شبقاً، وصلتها فعلا نكهة الدخان، لكن يبدو أنه لم ينفعها.
-4-
نظرت فى اللوحة المستطيلة تتشكل أمامها، حسبما اعتادت، فبدت خالية صامتة. منذ سكنت السماء، صاحَبَتْ قرصَ الشمس وصمتَ الهواء الهامس الرحيم، وعرفت كذلك لون الظلام، لكنها خسرت إيقاع الزمن. الشمس من هذه النافذة لا تقول الشىء ذاته، تتركها وهى تتوارى هنا فتظهر لها بعد ساعات مكتملة، وكأنها رجعت فى كلامها “استغماية”؟ اختلطت فيها عقارب الزمن بعقارب الأحداث، فتداخلت الأيام والليالى وأنفاس الناس، ولم تعد تخاف من صوت الصنبور المهمل إغلاقه ليلا وهى تمضى ليالى إجازتها المتفرقة وحيدة غريبة. كأن وجودها فى منزلها أصبح هو السفر، هو الاستثناء.
حلّت لزوجة وقائية محل الخوف المبهم ، لزوجة التفت حول وعيها فى رجرجة غثيانية غامضة.
-5-
رن جرس الاستدعاء فى عنف نسبى، فنظرت إلى اللوحة، وانطلقت فى شبه عدو؛ حين تذكرت أن الرقم المضىء يشير إلى حيث يجلس الطفل ذو الأسنان الفالجة والعيون الحزينة. وحين وصلت، وجدت الأم تحتضن رأس ابنها،وتميله إلى صدرها، عيناه مفتوحتان وهو يحملق فى لا شىء، وكأنه لا يرى. طلبت الأم منها فى لهفة واثقة أن تحضر ملعقة ملفوفة بقطن كثيف لأن النوبة قد تجىء، لم تفهم لكنها أسرعت عدواً دون سؤال. أحضرت ما طـُلب منها أو ما شابه، وحين عادت وجدت الطفل يحدِّث أمه وكأن شيئا لم يكن، كادت تحتج وكأنها خُدعت. طمأنتها الأم بأن الأمور أحسن، وأنه ـ أحياناـ تأتى البداية؛ ثم تُجهض دون نوبة، فالولد مواظب على الدواء، لم تفهم شيئاً مما قالته الأم، ولم تهتم أن تفهم أكثر، فلم تسأل تستوضح، وظلت ساكنة لحظات، وكأنها تحتج أو تعاتب. ربّت الطفل على ذراعها فى حنو والدىّ جعلها تتخلص من كل مشاعر احتجاجها مرة واحدة. طلب منها الطفل فجأة أن تصحبه ـ دون أمه ـ إلى الركن الصغير يقضى حاجته، فَرِحَتْ، ورحـَّبَتْ، وطمأنت الأم، فاطمأنت باسمة بشكل غير متوقَّع.
مضيا ممسكة بيده الصغيرة وإذا بها تضبط ذلك الإحساس الطازج الغامض الذى أيقظها يوما على أنوثتها، فتعجّبتْ، ورضيتْ، وابتسمتْ، ورفضتْ، حتى أوصلت صديقها الصغير الجميل إلى حيث أراد. دخل وحده، وأصر على إغلاق الباب من الداخل، خفق قلبها بعنف: ماذا لو جاءته تلك النوبة المزعومة التى لا تعرف عنها شيئا، وهو وحده بالداخل، والباب مغلق؟
لم يطل انزعاجها، فقد فتحَ الباب مبتهجاً، فتنهّدت فى شهيق بدا كأنه ليس بعده زفير، وقالت لنفسها إن الله قادر على كل شىء، وفى نفس الوقت رحمان ورحيم . جدا.
-6-
جذبته إلى ركنها، وأجلسته على حجرها، وحاولت أن تبادله حديثا، أى حديث، فزاغ بعيدا عن حب استطلاعها. لم تيأس، وواصلت فى إصرار. سألته عما يشكو منه، أجاب ببساطة مزعجة إنه يشكو من أن الكبار يتكلمون كلاما كبيرا، ثم يفعلون عكسه تماما، وأنه يصدقهم، لا يعرف لماذا!
حاولتْ أن تستعيده، فقفز من حجرها، ومضى إلى مقعده حيث أمه مسرعا ملوحا بيده. كادت تصرخ فى عدوًّ مجهول، أن يبتعد عن الأطفال.
-7-
حان وقت المرور والابتسام والانحناء. وكل ما يشبه تلك الأشياء. دق قلبها حين اقتربت من مقعدهما، وجدته قد أراح صدره على صدر أمه، ونام مستغرقا مبتسما، ووجهه ينطق بما لا يخفى.
سألت أم الطفل بشكل مهنى يخفى حقيقة مشاعرها.
– كيف حاله الآن؟
ردّت الأم بنبرة لا تدل على شىء:
– بخير، شكراً.
– لكنه قال كلاماً، كبيراً، أقصد…
قاطعتها الأم:
– لا عليك، قبل النوبة أو بعدها يقول ما لا يناسب سنه، فعذرا. لكنه سرعان ما ينسى ما قاله، هو يقول أى كلام على كل حال.
كتمت احتجاجها ، فاستطردت الأم، وقد بدا عليها مزيج من الشفقة والطمأنية والسخرية
– يقول الطبيب إنه حين يكبر سيعقل، وينسى، مثلنا، سينسى كل شىء.
رددت وراء الأم بلهجة بين السؤال والتعجّب وكأنها تحدّث نفسها:
– كل شىء.؟!
ثم تراجعت إلى مقعدها، وجلست فى انتظارٍ بغير معالم.
نظرت إلى النافذة الصغيرة اللوحة المستطيلة الفارغة، وترجـّتها أن تتشكل.
أى شكل يمكن أن ينقذها، لا بد من شكلٍ ما، أى شكل يكفى الآن. أشباح سحاب، ظل سماء، أوهام دخان.
ولكن أبدا.
ظلت تحملق منتظرة بيقين متجدد.
أخيرا أطل عليها قرصٌ دموى يسبح فى نار جليدية، فلم تتساءل إن كان شروقا أم غروبا.
كادت تطمئن هى الأخرى من قبيل اليأس.
ولم تبتسم.