نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 20-7-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4340
“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (1) (الحلقة الحادية عشر)
(نواصل: حركية جدل الشعر والشاعر والعلاقة بحركية الحلم!)
……….
……….
الحلم يقرأ (إبداعا)، ولا يحل (لغزا):
إن الحلم المروى لا يعدو أن يكون مثيرا لإبداع تال، تتوقف فائدته ومصداقيته على قدرة قارئ الحلم (الحالم نفسه مع أو بدون من يساعده) على الإبداع انطلاقا من مادة الحلم المتاحة، ومهما استعنا بأدوات مكبرة (تكبير يونج) أو مكملة (تداعى فرويد) أو حاسبة (نظام فولك) فستظل القراءة إما إبداعية، وإما تقريرية، مع تدرج بين هذين القطبين يحمل كل النسب المحتملة.
القراءة الإبداعية ليست هى القراءة الحرة بمعنى الذاتية الإسقاطية، أو الانطباعية، أو التذوقية..، بل إنها قراءة تحتاج إلى آليات أشمل من بينها: وعى مغامر، قادر على التفكك المسئول بفعل المادة المقروءة، ثم القيام بتشكيل تلك المادة حتى التماسك بشكل جديد، ومن ثَمَّ فالقراءة المبدعة تتجاوز النص ولاتبعد عنه، فإذا كان من مهمة مثل هذا القارئ (المبدع الناقد الموضوعى) أن يقول فيما قرأ قولا، فإن ذلك إنما يصدر عن نتاج سلسلة تفاعل عمليات شديدة التعقيد، ويتوقف هذا النتاج أكثر مايتوقف على “موضوعية ذات القارئ”.
وفى مقامنا هذا نستطيع أن نقول إنه: كما أن الحلم المحكى ليس هو ماحدث من تحريك وتنشيط بيولوجى إيقاعى منتظم، وإنما هو فعل إبداع المبدع والحالم فى المادة التى قُلْقِلت، كذلك فإن قراءة الحلم (تفسيره) ليست سوى نتاج إعادة تنظيم مادة الحلم فى تضفر ولافى، هو ناتج ما أثاره الحلم فى وعى المفسر بكل ما يتحمل من توجه معرفى، وإطار مرجعى، وخبرة ممارسة. وتكون ذات قارئ الحلم بهذه الصورة ممثِّلة للموضوع، بقدر قدرتها على نشاط التلقى الحر القادر على استيعاب كم وكيف المعلومات المتاحة من واقع إبداعى مشارك، بما فى ذلك مدى استيعابه لخبرات السابقين فى هذا المجال وغيره، وكذا حسب شجاعته وقدرته على الغوص فى تجربته الذاتية/الموضوعية المقابلة والمثرية لقراءته هذه.، وهذه هى نفس المواصفات التى يتصف بها أى مبدع حقيقى، منشىء أو ناقد.
إن درجة أصالة الإبداع النقدى عند من يتصدى للقراءة (المعايشة) هى التى تحدد ما إذا كان التفسير (القراءة) هو إسقاط ذاتى أو هو ولاف أصيل جديد. فإذا ارتفعت ذات القارئ (المبدع الناقد) إلى درجة من الموضوعية حتى أصبحت هى أهم أدوات استيعاب الحركة الإبداعية المتمثلة فى النص (أو الحلم) أصبح المعطى بمثابة “إبداع على إبداع”، ويكون الإبداع أكثر إبداعا كلما زاد عمقا، واقترب من الجوهر المشترك، وكان مثالا لما يمكن تعميمه، مع الوضع فى الاعتبار أبعاد الاختلافات الفردية الضرورية.
هنا يقفز تحذير مهم يقول: إنه - بذلك- يستحيل أن يتفق مفسران، حتى من مدرسة واحدة، على تفسير حلم بذاته، وأن تفسير الأحلام بالتالى لا يمكن أن يكون علما أبدا. وأحسب أن هذا صحيح فى حدود تعريف العلم التجريبى تحت وهم أنه “لاشخصي”، ولكنى أحسب أن هذا التعريف قد أخذ فى التراجع بشكل متزايد ودال بعد أن تجاوز مفهوم العلم ذلك النطاق الضيق،. وليكن تفسير الأحلام (قراءتها) فنا نقديا إبداعيا، بشرط أن نؤكد حقيقة أن الإبداع التشكيلى والأدبى هو أحد روافد المعرفة، الذى لا يقل عطاؤه عن عطاء ما هو علم إنارة وكشفا.
هذا “الإبداع على إبداع” الذى يتجلى فى فن قراءة الحلم (ومثله مثل الحال فى فن اللأم. فى المعالجة الإكلينيكية المواكبة (2)، وفى فن النقد) يكون أصيلا ليس بقدر انفصاله عن ذات المبدع، بل بمقدار ارتقاء ذات المبدع نفسها على مدرج التكامل، بالقدر الذى يسمح لهذه الذات أن تكون الأداة الموضوعية القادرة على تمثل الخبرة بما هى.
ما أريد أن أخلص إليه هنا هو أن فن قراءة الحلم (الذى ينبغى أن يحل محل ما يسمى تفسير الحلم) هو إبداع جديد يتوقف مدى صدقه على درجة أصالة وموضوعية المبدع (الناقد) التى هى هى درجة تطوره.
مستويات الحلم ومستويات القراءة:
إن قراءة الحلم بعامة – من واقع خبرتى وماذهبت إليه تنظيرا هنا- يمكن أن تمر بعدة مراحل:
أولا: ينبغى أن نحدد نوع الحلم الذى نحن بصدده، الأمر الذى يتناسب مع مستوى إبداع الحلم، فالأحلام يمكن تقسيمها بمدى عمقها، ومدى تناثرها وتكثيفها، أكثر مما يمكن عمل ذلك حسب نوع محتواها، فليس من الصواب أن نقرأ حلما رائقا خطِّيا مسلسلا، بالطريقة نفسها التى نقرأ بها حلما فجا متناثرا استطاع صاحبه أن يتحمل أن يتلقاه به “مبدعا” بأقل قدر من التدخل المسطِّـح” فى وساد وعيه، ثم فى مواجهة وعينا. ففى حين نرى أن الحلم الأول ليس إلا سردا سطحيا به أقل القليل من الإبداع، نجد أن الحلم الثانى يحتاج لقراءته إلى استيعاب مسئول فى إطار السماح بتناثر إبداعى منضبطّ “بشكل ما”، حتى يستطيع أن يقف فى مواجهته فى محاولة أن يلم أطرافه ويعيد صياغته بملء فجواته، وتوليف أفكاره، وبين هذين الطرفين على أقصى المتدرج: نجد درجات متفاوتة تحمل جرعة من هذا وذاك بنسب مختلفة. يساعد فى تحديد مستوى الحلم (ومن ثم إبداعه تفسيرا) معرفة طريقة تسجيله ووقت تسجيله بالنسبة للحظة اليقظة، حتى يمكن تحديد حالة الوعى، ودرجة الذاكرة ومن ثم تحديد نسبة الخيال المصنوع، فى تأليف المادة المعطاة.
ثانيا: تأتى بعد ذلك ضرورة الإلمام بمعلومات كافية عن شخصية الحالم، ليس فقط عن ظروف حلمه، وملابساته، ومثيراته البيئية المحيطة آنذاك ولكن أيضا عن قدرات الحالم الإبداعية. ولا أعنى بالقدرة الإبداعية هنا مدى ممارسته للإبداع فعلا، وإنما أعنى بالقدرة الإبداعية هنا: ما يقدر عليه الحالم من “تحمل التناثر”، ثم قدرته على لم هذا التناثر بشكل لا يضيع معالمه، بالإضافة إلى مدى مرونته وطزاجة دهشته. فالأحلام تقترب أو تبتعد عن الإبداع الأصيل تناسبا طرديا مع هذه القدرة، وقد تكتشف هذه القدرة من الإلمام بمدى نشاط الحالم الإبداعى فى مجالات أخرى من مجالات الحياة.
يجدر التنويه إلى أن هذه القدرة الإبداعية ليست هى التى يمكن أن تكون مسئولة عن إنتاج ناتج إبداعى بذاته: فى التشكيل أو الحكى مثلا، وإنما هى مجرد القدرة على التشكيل وإعادة التشكيل من واقع تحمل التناثر واستيعاب التناقض القادر على استيعاب مادة الإبداع المتاحة من الواقع أو من الحلم، هذه القدرة الإبداعية الحية متصلة اتصالا مباشرا بما يمكن أن أسميه: “مرونة الوجود وحوار المستويات”. الأمر الذى يظهر بشكله الإيجابى فى وجود ذى حرارة متقلبة، وقدرة على المراجعة، فالدهشة، وتحمل الغموض، كما يظهر فى صورته السلبية فى تقلبات اندفاعية، وتعامل ذاتى مع الواقع الخارجى مثل إنكاره أو تشويهه أو إبداله كلية…، (ربما حتى المرض).
من هنا يمكن القول إنه:
(1) تكون مادة الحلم موازية لما هو “شعر” أصعب على درجة من الغموض، كلما كان الشخص مبدعا (سويا مرنا جدليا، أو مريضا متَعْتَعا أو حتى متناثرا) (3)
(2) تكون مادة الحلم حكيا مصقولا مسطحا كلما كان الحالم ثابت المعالم محدد الموقف ممن يطلق عليه العامة أحيانا “قوى الشخصية”، فى حالة السواء، أو ما يندرج تحت بعض اضطرابات نمط الشخصية- فى حالة المرض، أو ما أطلق عليه مؤخرا تعبير “فرط العادية” (Hyper-normality) هذه النماذج لا تعى أحلامها بسهولة، إذ لا يتجرأ الواحد منهم على احتمال الوعى بحقيقة ما تنشَّط بداخله أثناء حلمه، فضلا عن تذكر حلمه أو روايته، بل إن كثيرين منهم ينسون أحلامهم قبيل اليقظة مباشرة أو بمجرد أن يستيقظ، فإذا سمح أحدهم لنفسه بحكيها بعد تذكر بعض مفرداتها فإنه يسلسلها خطيا وصولا بها إلى مالم تكن… فهو التزييف غالبا.
تلزم هذه التفرقة بين “الحالم المبدع” و ”الحالم المفرط العادية ” للاستهداء بها فى كيفية قراءة الحلم، على هذين المستويين المختلفين.
(3) يأتى تحديد ماهية قارئ الحلم (نقدا مبدعا) من حيث أرضيته المعرفية والخبراتية وقدرته الإبداعية (بنفس التعريف الذى ذكرناه عن الحالم). وتظهر هذه الأخيرة من موقفه الإبداعى العام (العلاجى، والقراءتى، والإبداعى الإنتاجى) كما تظهر من موقفه الخاص من أحلامه هو شخصيا أيضا (أحلام الناقد المعالج: لا الحالم) – ومن بينهما- من أول قدرته على تذكرها، إلى انتقاء ما يتذكر منها ليحكيه أو يسجله دون غيره، إلى شجاعته فى سردها، إلى محاولته احتواءها، وتجرى أسس التفرقة فى نفس اتجاه ماذكرناه بشأن الحالم.
(4) تتأثر قراءة الحلم بمدى و نوع العلاقة بين الحالم وقارئ الحلم، ويشمل ذلك تعدد قنوات الاتصال اللفظية وغير اللفظية فيما بينهما. على أن توافر أكبر الفرص بالنسبة لكل من هذه العوامل لايعنى -مباشرة- أن قراءة الحلم (نقده إبداعا) أمر ممكن (أو أمر حتمى). وقد اعترف فرويد نفسة أن ثمة أحلاما لاتفسر، وتمادى فى ذلك يونج بشكل أكثر وضوحا، وربما تعميما.
وبعـد
وبالرغم من كل ذلك فإن الأحلام التى لا تفسر، تؤدى وظيفتها الإبداعية فى مسار نمو الشخصية بالذات،
بدون سرد،
أو وأبمجرد السرد وحسن التقبل لمحاولة الإبداع المقابل، بالتلقى الجاد دون فرض تفسير،
وقد يكون ذلك فى كثير من الحالات أفضل من “حشر الحلم فى نظرية بذاتها”، أو تفتيته إلى ماليس هو أصلا،
أو نفيه برغم صعوبته
خلاصة القول:
إن الأحلام التى لا تفسر أصلا، ولا نتذكرها تفصيلا، إنما تقوم بوظيفتها الإبداعية والمعرفية والتنظيمية دون حاجة إلى التوقف عند تفسيرها أو لتفسيرها.
[1] – هذا هو الكتاب الأول باسم “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وهو الفصل الأول من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو أولها.
[2]- المقصود هو الإشارة إلى كيف أن الممارسة الطبية الحقيقية هى فن أساسا يستعمل معطيات العلم والمعلومات، وفن اللأم بمعنى Art of healing يشمل – كما انتهيت أخيرا- قراءة المريض باعتباره “نصا بشريا” – كما أشرنا – ثم الإسهام فى إعادة تشكيله (نقدا) نحو الصحة (الأعلى ما أمكن ذلك)، وهو ما أسميته أيضا “نقد النص البشرى”.
[3] – (وربما كان هذا بعض ما استوعبه نجيب محفوظ حاليا فى أحلام فترة النقاهة فطوره إبداعاً: أنظر الملحق).