نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 16-11-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4459
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الحادية عشر)
…………
…………
القهر من الخارج: مادة لإبداع لاحق:
أنواع القهر الخارجى كثيرة، لكنها يمكن أن تتفق فى موقعها من التأثير على الحرية. القهر الخارجى – وخاصة إذا قورن بالقهر الداخلي- له فضل على الحرية لا يخفى، وذكر الفضل لا يعنى بالضرورة طلب المزيد، بقدر ما يعنى الإحاطة بالأبعاد موضوعيا، بما فى ذلك تجاوز مجرد الشكوى والتبرير. ولا مجال هنا لتعداد أشكال القهر الخارجى المعروفة مثل القهر البوليسى، والقهر الاقتصادى، والقهر السياسى، والقهر السلطوى الدينى، فكل هذا معروف ومعاد.
للقهر الخارجى شكلان: ظاهر وخفى: أما القهر الخارجى الظاهر فقد يساهم فى الحفاظ على المعركة فى الخارج، فهو يكثف المواجهة، وهو أيضا ينبه إلى أشكال القهر الخفية المحتملة، ثم إنه يمكن أن يكون مصدرا جيدا من مصادر ذوات الداخل ( التقمص بالمعتدى ، ولو مؤقتا ) مما يمكن فيما بعد أن يستعمل كأبجدية للإبداع (أنظر بعد). أما القهر الخارجى الخفى، فهو أكثر من أن يحاط به، وبعضه يتمثل فى الإعلام وشروط النشر وقدسية المنهج ، وما يعنينى من كل هذه الصور هو أن أركز على أن الخطر الأكبر على الحرية هو حين ينتقل هذا القهر الخارجى ليصبح قهرا داخليا.
مناورات التقمص للخلع
ينتقل الخارج إلى الداخل بما فى ذلك صور القهر وشخوصه باستمرار، فضلا عن أن الداخل – تطوريا- ليس إلا جماع تراكمات الخارج فى طفرات نوعية عبر الزمن. إن هذه النقلة من الخارج للداخل تأخذ صورا متنوعة فى حياة الفرد، وهى صور مرتبطة أشد الارتباط بإشكالة الحرية والإبداع. هذه النقلة تتم من خلال حيل متنوعة دفاعية متعددة أهمها: التقمص (2) (والحيل المتعلقة به مثل الإدخال (3) والغمد (4) والإدماج (5) )
يولد الإنسان ضعيفا بلا كيان خاص تقريبا لكنه مشروع كيان متفرد، قادر على التجاوز، فهو يولد كمشروع ذات ليس إلا، وبمجرد خروجه من الرحم باستعدادات وراثية محددة من ناحية، وقدرات نمو غير محددة من ناحية أخرى، يحتاج إلى حمايات متلاحقة، ونظرا لصعوبة وطول رحلة النمو وطبيعتها اللولبية النبضية الإيقاعية فإن هذا الكيان الضعيف يلجأ إلى عدة حيل احتوائية، تقمصية تدعيمية، تساعده فى تنظيم رحلة نموه الطويلة الصعبة، بمعنى أنه يلبس غيره، ويستعين بمن سواه، ويعتمد عليه، ويتوكأ على ما تيسر منه حتى يتمكن من الاستمرار وهو يتخلص أولا بأول من كل ذلك بالتدريج كلما أمكنه ذلك دون أن يتم هذه المهمة أبداً.
والقواعد العامة التى تفسر وتبرر هذه الحيل الاحتوائية التدعيمية تقول: إنى أحتوى أو ألبس مرحليا “كل مَـنْ”:
1- مَنْ لا أستطيع مواجهته الآن.
2- مَنْ لا أستطيع السيطرة عليه الآن.
3- مَنْ لا أستطيع استيعابه الآن.
4- مَنْ لا أستطيع مقاومته الآن.
. . . ولكننى لا أستطيع الاستغناء عنه أيضا (ومرحليا: بينى وبينكم!)
وتختلف حيل الاحتواء باختلاف طريقة الإدخال وثبات المُدخل، فمثلا:
1- فى حيلة التقمص يلبس الفرد ذاتا مستمدة من الخارج تصنع له مايمكن أن يسمى قشرة حامية، وفى نفس الوقت فاعلة ونشطة، ومن هذا المنطلق يمكن أن نرى التقمص كدعامة قشرية فاعلة ومفيدة، ولكنها مرحلية على مسار النمو والتكامل، هذا إذا ما أتيح لها أن تنكسر نتيجة لنمو الذات الأصلية المستمر لدرجة تتجاوز أبعاد هذه القشرة القميص، وأيضا فإن هذه القشرة تتضاءل ضغطا وقهرا نتيجة لهضم واستيعاب كثير من مكوناتها من ناحية أخرى، إذن فالتقمص المفيد والضرورى هو الذى يحمل مقومات التخلص منه بأن يكون متصفا بالصفات التالية:
* أن يكون قشريا: بحيث يكون منفصلا بدرجة ما عن الداخل النامى (أو الكيان الكامن استعدادا للنمو).
* أن يكون متوسط القوام: لأنه إذا كان رقيقا هشا، لن يقوم بالدور الدعامى المطلوب، وإذا كان سميكا صلبا، فسوف يعوق النمو الأصلى .
* أن يكون مرحليا: بحيث يسمح للنمو الداخلى بالاستمرار (الإيقاعى) حتى يستوعب – مجددا – جزءا من هذه القشرة ويهضمها حتى التمثّل، ثم يتخلص مما تبقى من القميص الحالى فى نوبة نمو، ليتقمص قميصا (ذاتا خارجية) أرق وأكثر مرونة، تسمح بنبض أرحب حرية ، وهكذا، باستمرار.
* يصبح التقمص بهذه الصورة ضرورة نمو ـ لابديلا عنه ـ من خلال مفهوم النمو المراحلى متصاعد الدرجات، حيث تحتاج كل مرحلة نمو إلى كيس (أو رحم) تنمو الشخصية داخله، وهذا الرحم النفسى هو الكيان الآتى من الخارج، الذى يسمح بالكيان الداخلى فى الوقت المناسب بكسر ماتبقى من هذه القشرة بعد هضم جزء من جوانبها، ثم باكتساب قشرة جديدة أرق وأقصر عمرا وهكذا.
إذا نظرنا إلى كل ذلك من منظور الحرية فإنه ينبغى علينا أن نضع فى الاعتبار العوامل التى تجعل هذا التقمص معوقا دائما للنمو والإبداع، فى مقابل تلك التى تجعله جلدا حاميا قابلا للانسلاخ.
على الرغم من أن التركيز فى الفكر التحليلى النفسى كان على التقمص بالمعتدى فقد وجدت أن القهر لا يأتى فقط من معتـدٍ جبار، بل قد يأتى من مصادر أبعد ما تكون فى الظاهر عن شبهة الهجوم الصريح، وهذا بعض ما أشرت إليه فى معنى القهر الخفى، فأحيانا يكون التقمص بالمشابه: (6) أقسى، وأكثر إعاقة للإبداع من التقمص بالمعتدى. وهو ما يحدث فى الإفراط فى التركيز على “القدوة” حرفيا سواء كان هذا القدوة زعيما أم والدا أم حتى مبدعا، والتخلص من مثل هذا الــمدخل المماثل أصعب لأن التشابه أقرب، إذ قد تختلط السمة (الذات) المتقمَّصة، بالذات النامية، لشدة التشابه بينهما، ولايمكن التمييز بين النمو الزائف بالتقمص، ذلك النمو الذى يخدعنا فى شكل قفزة نمو سريع ولكن مشكوك فيها، وبين النمو الأصيل (النمو التدريجى الأساسى)، اللهم إلا بنوع النبض العاطفى المصاحب، ومدى الإبداع والأصالة فى تحديد الصفة أو السمات.
أما التقمص بالمخالِف والنقيض (7) ففيه يتقمص الفرد من يختلف عنه، وكلما ازداد الخلاف ازداد عمق التقمص واشتدت حدته حتى تصل قمته إلى التقمص بالنقيض (8). إن هذه الصورة هى أخطر على الحرية لأن التمسك بها يوحى بالتحرر من القهر الخارجى بأن يصبح المتقمص مثله، فإذا به فى واقع الأمر لا يفعل إلا أن يكرره على حساب ذاته ونموها.
أين يقع التقمص- كمثال- فى الإبداع:
ما لم يكن التقمص عنيفا غائرا صلدا فإنه يصبح ثروة قابلة للهضم والاستيعاب والتمثيل فيما بعد، وهذا يؤيد الرأى القائل بأن التقمص يدعم التلقائية الذاتية الأولية (9)ويتعلق فى نفس الوقت بتكوين وتنمية التلقائية الذاتية الثانوية (10).
خلاصة القول: إن التقمص بصفة عامة هو “لبس” كيان بشرى كقشرة خارجية، وبالتالى يمكن تمييزه عن حيلة التقديس (11) حيث يظل هذا الكيان المقدس خارجيا، وعن حيل الغمد (12) والاحتواء:(13) فى الغمد تدخل الخبرة غائرة دون الحاجة إلى “لبس كيان” حامى، أما فى حيلة الاحتواء فيندمج كل من الكيان الخارجى والخبرة مع كيان الفرد (الطفل عادة) بحيث يصبح الاختلاط كاملا بشروط معوِّقة حالا ومستقبلا.
التعامل مع الخارج الذى صار داخلا:
يتوقف تناول الداخل المكثف من الخارج متفاعلا مع الأقدم فالأقدم على حركية الوجود بيولوجيا ووجوديا، وبافتراض أن هذه الكيانات (والمعلومات) المدخلة قابلة للتحريك (التعتعة) يمكن تصوير الأمر على الوجه التالى:
إن مايترتب على “تعتعة (14)“الكيان اللابس سواء كخطوة نحو الذهان أو نحو النمو أو نحو الإبداع تختلف عن استرجاع خبرات الغمد، وكذلك عن تفجير التحام الاحتواء. ولتوضيح ذلك أكثر قليلا نذكر أن مدرسة العلاقة بالموضوع تفرق بين كيفية الاحتفاظ بالأحداث حسب نوع الحدث المحدد، وقد قمتُ بالتمييز بين ما يحتفظ كذكرى، وما يحتفظ ككيان داخلى (موضوع) ليس على مقياس ما سمى “حسنا” و”سيئا” كما زعمت مدرسة العلاقة بالموضوع (ميلانى كلاين)، بل باعتبار أن المسألة تتعلق بقدرالاستيعاب والتمثل: إنْ كاملا وإنْ ناقصا، وبيان ذلك:
“إننا نحتفظ بالخبرة الناقصة ككيان داخلى لعلها تكتمل بالاسترجاع يوما ما (فى الحلم أو فى أزمة النمو أو مع بسط الإبداع أو حتى كأمل مُجهض فى خبرة الجنون) أما الخبرة الكاملة فنحتفظ بها متكاملة فى الكل بعد ان احتواها الكيان النامى” كما أن الخبرات الناقصة هى ناقصة لأنها مبتورة..، وهى مبتورة لأنها مجهضة ناقصةالتمثيل، والغالب فى مدرسة العلاقة بالموضوع تفسير يقول: إنها مجهضة لأنها سيئة”.
يدعم ما ذهبنا إليه من اعتراض على مدرسة العلاقة بالموضوع أن هناك من الخبرات السارة ما يُبتر أيضا، فيجهض، لفرط ما يحمل من انفعال لايمكن استيعابه تماما فى نفس اللحظة، إذن فالذى يحدد الاحتفاظ “كذكرى” أو “كموضوع داخلى” هو القدرة على هضم الخبرة ومداها، وبما أن كل الخبرات نادرا ماتهضم تماما لأول وهلة فعلينا أن نقبل بمبدأ النسبية فى هذا الصدد بحيث تصبح كل خبرة مهضومة بنسبة معينة، ومؤجلة بنسبة أخرى، والجزء الأول قد يتجلى كذكرى فى حين يظل الجزء الثانى ليصبح موضوعا داخليا ينتظر الاستعادة (شعوريا أو لاشعوريا) لإعادة الهضم فالتمثل فى الكيان النامى.
بتلاحق الممارسة تبينتُ أن المسألة لا تتعلق ابتداء لا بالحسن ولا بالسىء، ولا هى مرتبطة فقط بالمكتمل والناقص، وإنما هى تتعلق أيضا، وربما أساسا، بمرونة الكيان البشرى وصحة نبضه (وإبداعيته)، فسواء كان الموضوع الداخلى ذكرى أو موضوعا حسنا أم سيئا، فإنه موضوع حركى متغير قابل للتمثل كما هو قابل لإعادة الشحن، وإعادة التنشيط، وإعادة التنظيم (فى إبداع لاحق)، وهكذا باستمرار.
من هنا أستطيع أن أضيف فى هذا الصدد - فيما يتعلق بالحرية- ما يلى:
إن القهر الداخلى المطلق يحول دون الإبداع، أى يعوق الحرية من حيث أنه يحول دون النبض ودون التعتعة، وفى حين يمكن مواجهة القهر الخارجى بشكل ما، كما يمكن اختراقه، بل واكتساب القوة من خلال ذلك. إن ما يترتب على القهر الداخلى المرحلى، فهو خفى، ومخادع وليس فى المتناول، وعلى الرغم من أن عمليات الإدخال والاحتواء هذه ضرورية ومفيدة إلا أنها لابد أن تكون “مرحلية” ومتناسبة مع مرحلة النمو وثراء الخبرة، وإلا أصبحت خطرا معوقا كما ذكرنا مع كل حيلة، بمعنى أن أى اقتحام من الخارج، إن كان ضروريا، وهو حادث أردنا أم أبينا، لا بد أن نتوقع ونعمل على أن يُتمثل أو ينفصل ما تبقى منه فى تعتعة لاحقة ليـُتمثل من جديد، وهكذا. إنه إذا حدث ذلك فى نبض متتال وكانت الظروف مواتية بمعنى: أن تكون الذات قد اكتسبت خبرات ومكاسب وشحنا وتقديرا من آخرين حقيقيين بدرجة تغنيها عن معظم هذه المساند والدعامات والأغطية، فسوف يـسمح للنمو أن يكسر قشرة التقمص كما يكسر الكتكوت قشرة البيضة حين يحين أوان الفقس، كما أن “عكاكيز” الغمد جديرة بأن تسقط وحدها لأنها تصبح باستمرار أقصر من الساق التى اعتمدت عليها من قبل، و يتم ذلك بدرجات أسرع وآمن حين يكون المجتمع فى الخارج مجتمعا مرنا نابضا أيضا، وفى نفس الوقت يكون محدد المعالم، فالمرونة وحدها، أو التحديد وحده، لايكفى أى منهما للقيام بعملية الاستيعاب المذكور، وقد يبدو التحديد ضد المرونة، إلا أن هذا تضاد ظاهرى، فالقلب مثلا محدد تماما وقوى الجدران (العضلات) كعضو هام، وهو مضخة نابضةعظيمة المرونة فى نفس الوقت، وبدون هاتين الصفتين مجتمعتين لا يقوم بوظيفته بكفاءة مناسبة.
تقوم الذات من خلال الإيقاع الحيوى مع كل نبضة بعمليات التعتعة، فالمواجهة، فالهضم، فالتمثيل فالاستيعاب. وفى كل هذه الأحوال لا تكون ثمة حاجة إلى إبداع منتـَج خارج الذات لو سارت الأمور هكذا بسلاسة شبه كاملة.
واقع الحال يدل على أن هذا المُطلق هو أمر مستحيل، ويصبح أكثر استحالة، بل يصبح غير وارد إلا بالنذر اليسير حين تظل المادة المدخلة (بالتقمص، والاحتواء، والغمد وغيرها) ثابتة ملتحمة طول الوقت بحيث تقضى على أى احتمال حقيقى للنمو، وينتج عن هذا نمو متليف مبتسر، يظهر فى صورة إكلينيكية توضع تحت التشخيص الأساسى المسمى: اضطرابات الشخصية، وتشمل أيضا بعض أنواع العصاب المزمن والذهان المزمن والمتبقى وأيضاً فرط العاديه”.
لكن قد تستمر المادة المدخلة بعد التعتعة فى حالة حركة مستمرة دون أن تنتقل إلى الخطوات التالية، وبالتالى فإنها قد تمثل نشاطا داخليا مستقلا ونشازا يجذب الطاقة نحوه وحوله، بحيث تصبح الطاقة المتاحة للنشاط الانبعاثى والتلقائى والخالقى ضعيفة ومنهكة، وهذا مايترتب عنه مجموعة من الأمراض تقع عادة تحت فئة “العصاب”.
وقد يصل الأمر إلى إجهاض خطوات الاستيعاب مع تطوير الخطوات الأولى فى اتجاهات تنافرية متزايدة حتى التناثر، مما يترتب عليه تناثرفصامى أو غير ذلك من أمراض بديلة تؤجل أو تحور هذا المآل إلى مآلات سلبية .
………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2]- Identification
[3] – Internalization
[4] – Introjection
[5] – Incorporation
[6] – Identification with the “like”
[7] – (Identification with the different” unlike)
[8] – Identification with the “opposite”
[9] – Primary autonomy
[10] – Secondary autonomy
[11] – Idealization
[12] – Introgection
[13] – Incorporation
[14] – Dislodgement