الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / يوم إبداعى الشخصى ‏الحرية‏ ‏والجنون

يوم إبداعى الشخصى ‏الحرية‏ ‏والجنون

نشرة “الإنسان والتطور”

18-1-2010

السنة الثالثة

 العدد: 871

 

يوم إبداعى الشخصى

‏الحرية‏ ‏والجنون

 مقدمة:

انتهت مقتطفات الطلقات عن الحرية، وهى التى انطلقت من استيعابى دروس مرضاى، والتى نشرتها فى كتابى حكمة المجانين (سنة1980)، وقد بلغت عشر حلقات، أضيف إليها ما يتسر من تحديث، وفقرات جديدة.

 ثم تذكرت فجأة تلك الأطروحة التى تكرم أ.د. جابر عصفور بدعوتى للكتابة فيها فى مجلة “فصول”، ونشرت فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30 – 58) ثم ضمّنتها كتابى “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الذى نشره المجلس الأعلى للثقافة فى (سنة 2007)، ووجدت أن بهذه الأطروحة ما يكمل الرؤية، فقررت أن أقتطف منه بعض فقرات لأقدمها للأصدقاء فى زاوية إبداعى الخاص. لا يجوز أن تنزع بعض أجزاء مثل هذه الأطروحات أو الفروض من  سياقها، ولكن دعونا نرتكب بعض ما لا يجوز هذا، لعلنا نربط بين الحرية كما تناولناها خلال عشر نشرات، بما يسمى الإبداع، بأن نقتطف ما يلى من الفصل الثالث بعنوان “عن الحرية والجنون والإبداع”، من كتاب حركية الوجود وتجليات الإبداع. (التزمت هذه المرة ألا أضيف حرفا للمقتطفات، أو أعدل كلمة، وأوصى من يجد صعوبة أو يريد أن يستزيد أن يرجع للكتاب فى الموقع “حركية الوجود وتجليات الإبداع”.

 ‏3- ‏الحرية‏ ‏والجنون(1):

ثم ننتقل إلى الجنون لنجده أيضا يقف متحديا ‏فى ‏بؤرة‏ ‏إشكالة‏ ‏الحرية ‏(2)فهو‏ ‏من‏ ‏ناحية‏: ‏يعلن‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الاختلاف‏ ‏على ‏حساب‏ ‏أى ‏مكسب‏، ‏وباقتحام‏ ‏أى ‏مجهول‏، ‏فهو‏ ‏بذلك‏ ‏أحد‏ ‏مظاهر‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏قصوى ‏قدراتها‏ ‏الاقتحامية‏ (3) .

ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى: هو ‏انسحاب‏ ‏كامل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏المقومات‏ ‏الضرورية‏ ‏لاختبار‏ ‏حقيقة‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الآخر‏/ ‏والواقع‏.

وهو‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏: ‏استسلام‏ ‏للداخل‏ ‏القابع‏ ‏فى ‏الظلام‏ ‏عادة‏، ‏بما‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏نفى ‏الحرية‏،‏ ‏ليتركنا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الوجود‏ ‏الخاوى ‏إلا‏ ‏من‏ ‏التناثر‏ ‏المختلط‏ ‏المرجرج‏ ‏فى ‏المحل‏.

‏بإيجاز‏ ‏يمكن‏ ‏إعادة‏ ‏الصياغة‏ ‏بألفاظ‏ ‏أخرى ‏تقول‏:‏

“إن‏ ‏المجنون‏ ‏يخترق‏ ‏كل‏ ‏حاجز‏، ‏ويعيش‏ ‏كل‏ ‏تجاوز‏، ‏ويقفز‏ ‏فوق‏ ‏أسوار‏ ‏اللغة‏ ‏بلا‏ ‏لغة‏، ‏وهو‏ ‏يلعب‏ ‏بالزمن‏‏، ‏لا‏ ‏يتبعه‏، ‏ولا‏ ‏يقع‏ ‏فيه‏،  ‏لكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو ‏ينتهى ‏إلى ‏هـلامية‏ ‏ساكنة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏ترجرجت‏ ‏فى ‏مكانها‏، ‏وكأنها‏ ‏تتحرك‏. إن‏ ‏المجنون‏ ‏الحر‏ ‏الطليق‏ ‏هو‏ ‏فى ‏و‏ ‏اقعه‏ ‏دائر‏ ‏فى ‏محله‏ ‏فى ‏انغلاق‏ ‏دوائرى ‏متناثر‏، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏حر‏ ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏طليق‏.

 هكذا‏ ‏ينفى ‏الجنون‏، ‏الذى ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهله‏ ‏وكأنه‏ ‏الحرية‏ ‏الكاملة‏، ‏ينفى ‏الحرية‏ ‏تماما‏ ‏وهو‏ ‏يجتثــها‏ ‏من‏ ‏جذورها‏. ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الحرية‏ ‏فى جوهر حركيتها تبدو‏ ‏حتمية‏ ‏وهى تسمح باختيار‏ ‏الجنون‏، فنُفاجأ فى نفس الوقت أن  ‏الجنون‏ ‏هو‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏مقصلة‏ ‏الحرية‏”.‏

الجنون‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏الحرية‏ ‏لتستحيل‏.‏

‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الجنون‏ ‏اختيارا‏ ‏فى ‏مستوى ‏معين‏ ‏من‏ ‏الوجود،‏ ‏فإنه‏ ‏ليس‏ ‏اختيارا‏ ‏للحرية‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏الحرية‏ ‏القاضية‏ ‏على ‏نفسها‏، ‏وهذه‏ ‏المأساة‏ ‏هى ‏من‏ ‏أعظم‏ ‏إشكالات‏ ‏الجنون‏ ‏فَـهْـما‏، ‏وعلاجا‏. ‏

فى ‏الجنون‏: ‏الحرية‏ ‏تنتحر‏ ‏اختيارا‏.

‏المجنون‏ ‏يختار‏ ‏أن‏ ‏يحرم‏ نفسه من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الاختيار‏.

هذا‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يستبعد‏، ‏بل‏ ‏يستنكر‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الجنون‏ ‏اختيارا‏ ‏على ‏أى ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعى.

الشخص‏ ‏العادى ‏لا‏ ‏يملك‏ (‏بوعيه‏ ‏الظاهـر‏) ‏أن‏ ‏يختار‏ ‏الجنون‏.

‏ ‏الإنسان‏ ‏العادى (‏جدا‏) ‏يبدو‏ ‏وكأنه‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ (‏أعجز‏ ‏من‏) ‏أن‏ ‏يـُجَن‏.‏ 

ومع ذلك فالممارسة اليومية تُعلـِّمنا كيف أن  ‏المجنون‏ – ‏بجنونه‏- ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏طريقا‏ ‏آخر‏، ‏وأنه‏ ‏استطاع‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏السائد‏ ‏الآمِـن‏، ‏وأن‏ ‏يتحدى، ‏ليسلك‏ -‏منفردا‏- ‏الصعب‏ ‏المجهول‏ (‏ثم‏ ‏يفشل‏).

[1] – نبهنا فى الفصلين السابقين على ضرورة تحديد مضمون للفظ الجنون كما يستعمل فى كل مداخلة (الفصل الأول هامش (11) وطوال الفصل الثانى). ويكفى أن أكرر هنا ‏ ‏أنه‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏استبعاد‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏المرض‏ ‏العقلى العضوى التشريحى للأسباب سالفة الذكر فى الفصلين السابقين، ‏كما ‏‏أن‏”‏الفصام‏” ‏هو‏ ‏الممثل‏ ‏الأساسى ‏لما‏ ‏يسمى ‏الجنون‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏دون‏ ‏استبعاد‏ ‏الذهانات‏ ‏الأخرى ‏مثل‏ ‏الذهان‏ ‏الوجدانى ‏والذهان‏ ‏البارنوى.

[2] كما‏ ‏أنى ‏سوف‏ ‏أستعمل‏ ‏لفظ‏ ‏الحرية‏، ‏فى ‏البداية‏،، ‏استعمالا‏ ‏فضفاضا‏ ‏كما‏ ‏يوحى ‏به‏ ‏ما‏ ‏شاع‏ ‏عنه‏، ‏لا‏ ‏كما‏ ‏قد‏ ‏ننتهى  ‏إليه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏.‏

[3] ‏ خالدة‏ ‏سعيد: حركية‏ ‏الإبداع (‏الشعر‏ ‏وعتمات‏ ‏الجسد) ص‏62،61 ‏دار‏ ‏العودة‏ 1979 ‏بيروت‏.

تقتطف‏ ‏خالدة‏ ‏سعيد‏ ‏قول‏ ‏أنسى ‏الحاج‏ ” ‏بالجنون‏ ‏ينتصر‏ ‏التمرد‏، ‏ويفسح‏ ‏المجال‏ ‏لصوته‏ ‏كى ‏يسمع‏” ‏ثم‏ ‏تعقب‏: ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ….” ‏الجنون‏ ‏هو‏ ‏الوصمة‏ ‏التى ‏يحملها‏ ‏من‏ ‏اختار‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏حرا‏”.‏

ورغم‏ ‏أن‏ ‏كلمة‏ ‏الحرية‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏بالضبط‏ ‏ما‏ ‏ندور‏ ‏حوله‏ ‏الآن‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏خالدة‏ ‏سعيد‏ ‏قد‏ ‏وصفت‏ ‏الخلق‏ ‏عند‏ ‏أنسى ‏الحاج‏ ‏أنه‏ “‏لاغائي‏”، ‏وأن‏ ‏كلمة‏ ‏خلق‏ ‏لا‏ ‏تناسب‏ ‏شعره‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏مما‏ ‏ذهبت‏ ‏إليه‏ ‏حينما‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏نفى ‏الإرادة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الخلق‏ “‏ما‏ ‏يسمى: ‏عادة‏ ‏بالخلق‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عند‏ ‏أنسى ‏الحاج‏ ‏إلا‏ ‏فعل‏ ‏ضرورى ‏لوقف‏ ‏الاختناق‏” ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏الاختيار‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏قفز‏ ‏متحديا‏ ‏من‏ ‏أنسى ‏إذ‏ ‏يقول‏: “‏والشعر‏ ‏قهر‏ ‏مشدود‏ ‏التواجد‏ ‏يخنقه‏ ‏الحنين‏” ….”‏إن‏ ‏أمام‏ ‏هذه‏ ‏المحاولة‏ ‏إمكانيتين‏ ‏إما‏ ‏الاختناق‏ ‏أو‏ ‏الجنون‏”‏

وهكذا‏، ‏وقعنا‏ ‏بكل‏ ‏وضوح‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏إشكالة‏ ‏الإبداع‏ ‏والحرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *