الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / يوم إبداعى الشخصى: قصة قصيرة ثقوب وخوابير

يوم إبداعى الشخصى: قصة قصيرة ثقوب وخوابير

“يومياً” الإنسان والتطور

15-9-2008

السنة الثانية

العدد: 381

يوم إبداعى الشخصى: قصة قصيرة

ثقوب وخوابير

قال له عامل محطة البنزين “العجلة اليمين اللى ورا نايمة يا بيه، شوف بتاع الكاوتش اللى جنبنا أحسن حضرتك مشوارك بعيد”، لم يقل له ومن أين عرف أن مشواره بعيد، صحيح أنه فى الطريق الصحراوى، لكنه فى أوله جدا، قبل محطة التذاكر بكثير، ومع ذلك ذهب لكوخ الكاوتش الذى لم يتردد صاحبه فى أن يفك العجلة بسرعة، دون أن يقيس ضغطها، وهات يا رش بسائل رغوى، وأن هناك ثلاثة ثقوب على الأقل ينبغى أن تلحم فورا، وأنه عنده خوابير أمريكية مضمونة أكثر من ضمان الكاوتش الأصلى، وأن المسألة لن تستغرق دقائق. لم يملك صاحبنا إلا أن يوافق بعد أن أقنعه رجل الكاوتش أنه مر على زجاج مكسور، وأن ثمة حادثة قد وقعت أمس قبل محطة البنزين بقليل، وأن هذا الذى حصل فى هذه العجلة وسائر العجلات التى سيتطوع بالكشف عليها بسرعة حرصا على سلامته، هو من آثار الزجاج المتبقى، وهات يا تخريم وتخبير، وكلما رشق الرجل المفك المدبب فى ثقب مزعوم، أحس صاحبنا أنه يرشقه فى جسده هو، وكلما وضع خابورا يشوه به العجلة أحس أن بثورا قبيحة تنمو فى وجهه، وحين انتهى الرجل من العجلة الأولى وانتقل – دون إذن – إلى الثانية وهمّ صاحبنا أن يعترض، قال له الرجل “سلامتك يا بيه عندنا بالدنيا، إن كان على الفلوس خلِّ عنك خالص، دى خوابير أمريكانى يا بيه”، حتى بلغ عدد الثقوب المزعومة 17 ثقبا بالتمام، بسبع عشرة خابورا قبيحا. كان صاحبنا يشعر طول الوقت أن هناك لعبة خبيثة وراء كل ذلك، لكنه لم يستطع أن يوقفها، فاستسلم.

أثناء هذه العملية الممتدة لمح فتاة فى الثالثة عشرة من عمرها وكأنها فى التاسعة عشرة، كيف حسبها هكذا؟ لا يدرى. كان وجهها البرئ المنادى يطل من بين ألواح الصفيح المكون منها الكوخ، خيل إليه أنه رأى هذا الوجه من قبل، هم أن يسأل رجل الكاوتش لكنه كان منهمكا فى التثقييب والتخبير طول الوقت، وحين انتهى سأله صاحبنا بتردد شجاع “من الفتاة؟”، تعجب الرجل: “أية فتاة؟” قال: “التى كانت تطل بوجهها من وراء الصفيح”، زاد تعجب الرجل وهو يؤكد له أنه ليس وراء الصفيح إلا الخلاء، وزيادة فى الإقناع راح يلف وراء كوخ الصفيح المتهدل، وعاد وهو يقول “ما ذا جرى لك يا سعادة البيه، تعالى معى وانظر إن كنت لا تصدق”، وفعلا هو لم يصدق، فاستجاب لدعوة الرجل وذهب معه، لكنهما لم يستطيعا أن يلفا حول الكوخ الصفيح كما فعل الرجل وحده أول مرة، ذلك لأن حافة الكوخ الخلفية كانت تطل مباشرة على بركة كبيرة آسنة ذات رائحة عطنة، ليس بينها وبين الصفيح ما يسمح لأى أحد أن يمر خلف الكوخ، لكن رجل الكاوتش كان قد دار منذ ثوان حول الكوخ دورة كاملة، صاحبنا رآه يفعل ذلك رأى العين، كيف تجاوز هذه البركة وهو يلف أول مرة، اعتذر صاحبنا على ما أسماه تهيؤاته، وانصرف بعد أن دفع مائة وسبعون جنيها بالتمام مقابل تشويه العجلات وإفساد متناتها.

صعد إلى عربته، وما أن سار بها بضعة كيلو مترات حتى سمع حركة فى الكرسى الخلفى، فظن أنها ورقة صحيفة تتطاير، فأحكم إغلاق زجاج الأربعة أبواب كهربائيا بالتحكم فى الأزرار التى بجوار السائق، لكن الحركة لم تتوقف، نظر فى المرآة فإذا بكيان يتحرك حتى يعتدل جالسا على الكنبة الخلفية، ففزع حتى كاد يصطدم بعربة مرقت بجواره، هى هى فتاة الكوخ، إذن هو لم يكن يتخيل، رجل الكاوتش هو الذى كان ينكر، ابتسمت الفتاة بفتنة جديدة حين لاحظت أنه رآها فى المرآة، ولم تنطق فى البداية، ثم لم تلبث أن قالت أنها اختبأت فى العربة دون استئذان حتى تضمن أنه سيوصلها، وحين سألها:”إلى أين؟” قالت له: “إلى أى مكان”، سألها: “ماذا تعنين أى مكان”، قالت: “أنت وما ترى يا سيدى، أسترنى الله يستر عرضك”، انخلع قلبه بعد أن دخلت المسألة فى الستر وعرضه، قال لها فى غضب مصطنع: “سأوقف العربة وتنزلين، أنا لست من أهل ذلك”، قالت له: “ذلك ماذا يا سيدى؟ أنا لم أقل شيئا”، تراجع وقال لها إنه ذاهب إلى اجتماع اللجنة الاقتصادية العليا للحزب، وأنها وجهة لا تسمح له بأن يصلها وهى معه، لم يستطع أن يفهم لماذا ذكر لهذه الطفلة المرأة الفاتنة مهمته تحديدا هكذا؟ هى مالها؟!!! قالت له: “حاضر”، قال لها: “حاضر ماذا؟” قالت: “حاضر، إفعل ما ترى، لكننى حامل”، قال بسرعة وكأنه يدافع عن نفسه: “هذا أمر يعنى زوجك، أنا مالى”، قالت: “ليس لى زوج”، برغم أنه كان يتوقع مثل ذلك، لكنه مضى يبالغ فى دهشته قصدا، كرر:” وأنا مالى أنا ؟”، قالت:”ألاتذكر يا سيدى؟ أنت أبوه”، قال لنفسه، كله إلا هذا، هل هى حصّلت، ثم قال لها: ماذا تقولين يا مجنونة، قالت: “ألا تذكر أيضا أننى ابنتك من ظهرك”، قال لها: “أنا أبوه ؟؟ وانت ابنتى يا معتوهة؟”، ثم أكمل بصوت عال وقد بدا وكأنه يتذكر: “ثم إننى لم أتزوج”، قالت: “وهل من الضرورى أن يتزوج الواحد ليكون له ابنة”؟

 داس على الكابح بكل قوته حتى توقفت السيارة فجأة وكادت العربة التى خلفه تصطدم بها لولا أن صاحبها قد داس هو بدوره على الكابح ، قالت الفتاة وهى تقفز من العربة بسرعة، “حصل خير”، قال لنفسه “أى خير!!”، وراح ينظر فى المرآة فرآها تخرج من الباب الخلفى بسرعة، وتجرى إلى العربة التى كادت تصدمه، ورأى السائق الوجيه يفتح لها الباب، ويجلسها بجواره، ثم يمضيان بسرعة من الناحية اليمنى فالتفتت هى إليه وهى تلوح له بيدها، حاول أن يلتقط رقم العربة لكنه لم يستطع إلا أن يلحظ أنها لوحات دبلوماسية خضراء.

أدار مفتاح العربة بهدوء لم يتوقعه، وانطلق بسرعة متوسطة وهو ينظر فى ساعته، ويحاول أن يتذكر المهمة التى يتوجه إليها، فراح يتمتم، “من ذا الذى يستطيع أن يوقف هذا التدهور المتسارع فى اقتصاد البلد؟ “، لكنه ما كاد يمضى فى الطريق حتى شعر أن العربة ترتج قليلا من الأمام يمينا، وكان بالصدفة على مقربة من محطة بنزين أخرى، فدخل إليها لفوره، وذهب مباشرة إلى كوخ الكاوتش الصفيح، وطلب من الرجل ألا يضع له خوابير من أصله، وأنه مستعد لشراء كاوتش جديد أو نصف عمر، لأنه ليس عنده وقت، قال له الرجل “خوابير ماذا ونصف عمر ماذا، العجل مثل الفل”، وقاس ضغط العجلة وخبط عليها وقال له “ألف سلامة يا سعادة البك، ربنا يسلم لك طريقك”، ثم عاد ينظر إلى الخوابير وهو يقول: ” منهم لله، هم عملوها فيك أيضا!! قال خوابير أمريكانى قال، الله يخرب بيوتهم”. لم يتعجب الرجل، ولم يقارن، وشكره بسرعة، كان يشغله أمر آخر بين ألواح الصفيح: فقد لمح فتاة فى الثالثة عشرة من عمرها وكأنها فى التاسعة عشرة، كيف حسبها هكذا؟ لا يدرى، كان وجهها البرئ المنادى يطل من بين ألواح الصفيح المكون منها الكوخ،

 لم يخيل إليه هذه المرة أنه رأى هذا الوجه من قبل،

 كان على يقين من ذلك.

ركب سيارته بسرعة بعد تأكده من خلو المقعد الخلفى، ومضى فى طريقه وهو يفكر فى اقتصاد البلد المتدهور.

بحيرة العلمين

 13 سبتمبر 2008

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *