الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / يوم إبداعى الشخصى: سؤال وجواب، حول: “إبداعى الخاص”

يوم إبداعى الشخصى: سؤال وجواب، حول: “إبداعى الخاص”

“نشرة” الإنسان والتطور

 2-3-2009

السنة الثانية

العدد: 549

  يوم إبداعى الشخصى

سؤال وجواب، حول: “إبداعى الخاص”

 هذا حديث فى صحيفة يومية عن “إبداعى الخاص”، نشر تحت عنوان “هذه حكايتى مع نجيب محفوظ”، لم أعرف ما علاقة العنوان بالموضوع!!، لكن يبدوا أن محررة الصفحة الأدبية فى الأهرام الغراء، برغم طيبتها وحسن نيتها، لم تقتنع فى قراره نفسها  أن يكون لى إبداع خاص، فتمحكت فى نجيب محفوظ بهذا العنوان، ليصبح أكثر جذبا وصحافة،  فنشرت ما أرسلتُه لها مكتوبا ردا على أسئلتها، بعد أن قصقصتـْه، وحررتـْه، حسب رؤيتها، تحت هذا العنوان الذى لابد أن تكتشف ضعف علاقته بالحديث بعد قراءة هذه اليومية، وبرغم كل ذلك، فإن  ما تبقى أقنعنى  أننى مجتهد والسلام، فشكرا لها، خاصة وقد بذلت جهدا واضحا فى محاولة التعرف على ما صرّحت به أحيانا مما كنت نسيته. شكرا.

 بمناسبة أن اليوم هو يوم “إبداعى الخاص”، قلت أنشر هذا الحديث كاملا قبل تحريره  الطيب، وبدون عنوانه الجذاب، قلت أنشره هنا من باب الأمانة، لأبرئ ذمتى حتى لا  يتصور قارئ هذه النشرة أن لى “إبداعا خاصا” يحق له أن  يحتل يوما كل أسبوع  فى نشرتنا  اليومية هكذا، لمجرد أننى خصصت له هذا اليوم، وأنا الكاتب وأنا الناشر، بل إننى كدت أقول، (بعد أن أستبعد المعقبين اضطرارا)، وأنا القارئ (مع قلة من المحبين الكرماء)، ربما يقتنع الزائر بمغزى ما فعلته محررة الأهرام، ويتراجع عن متابعتى يوم الاثنين من كل أسبوع !!

نشر الحديث “المعدل” فى الأهرام  يوم الخميس 21 يوليو 2005 

استطراد عابر قبل النشرة

كلما سألنى هاتفيا أحد أبنائى أو بناتى من  العاملين بالإعلام عن أمر ما، اعتذرت عن الإدلاء بأى رأى بالهاتف، بل إننى أعتذر أيضا عن إبداء رأيى فى لقاء خاص معه،  حتى لو كان مسجلا على شريط، اللهم إلا إذا وافق أن أراجعه قبل النشر، وحين رحت أستعمل  البريد الإلكترونى، أصبحت شروطى أسهل تقبلا. ولكن  لم  يحقق التحفظ ، ولا الشروط ما كنت أبغى

 وإليكم مثالا لهذه الشروط بالنسبة لهذا الحديث تحديدا:

الفاضلة نجلاء محفوظ

 (وهى المحررة الكريمة التى أرسلت لى الأسئلة):

 لم أستطع أن أجعل الإجابات تقليديه تماما، وبرغم إصرارك على الاستفاضة، دون تحديد عدد الكلمات كما طلبتُ، ويظل لى حق ألا يشطب أى جزء إلا بعد الرجوع إلىّ، هذا علما بأنى أستطيع  أن أختصر الرد إلى النصف أو الربع أو كما ترين.  شكرا

يحيى الرخاوى

برغم هذا التحفظ الواضح، نشر الحديث المعدل يوم الخميس 21 يوليو 2005  كما ذكرت، ويمكن لمن شاء الرجوع إليه، ليقارنه بالحديث الأصلى، كما فعلت أنا حتى خرج بهذه الصورة التى ينشر بها  اليوم فى نشرتنا هذه، تلك النشرة التى لم أعد أعرف حقيقة قيمتها، لكنها تذكرنى ببعض ما نسيت أننى أنجزته، مما تناثر منى وحولى من اجتهاد عبر خمسين عاما.

ما تحته خط  (وهو بالأحمر فى النت)  هو ما حذف،

فضلا عن وجود بعض الإشارات إلى ما أضيف أو تغير!!

****

الحديث الأصلى:

س1-

حدثنا عن مشوارك الإبداعى من خلال الروايات والدواوين التى أصدرتها، وهل تحررت بها، كإنسان، من بعض الصراعات الداخلية؟ ومدى استفادتك منها كطبيب نفسى؟ وهل تشعر نحوها بالامتنان أم لا؟ ولماذا؟

جـ 1-

ليس لى مشوار إبداعى تحديدا، وإنما هى محاولات مستمرة أحاول أن احتوى بها رؤيتى لأوصلها لأصحابها، وهذا ما يفسر تعدد أشكال انتاجى (أو إبداعى إن شئت)، وهى ليست انطلاقا من صراع داخلى، ولا أى إبداع هو كذلك،الإبداع هو فيض حركية وعى، سواء كان ذلك نتيجة صراع داخلى، أم مأزق وجود، أم أمانة رسالة، أم سعى للآخر، وعلى ذلك فإبداعى لم يخلصنى ـ كإنسان ـ  من صراعاتى الداخلية، بل إنه أظهر لى مدى التباين بين ما يصل وعيى، وما أستطيع توصيله إلى وعى الناس، لقد خلق لى مأزق تواصل أكثر منه حلَّ لى صراعاً شخصياَ.

أما مدى استفادتى من كونى طبيبا نفسيا فى هذا الصدد، فإنى أتصور أنى لو لم أكن كذلك ما خططت حرفا يستأهل أن يكون إبداعاً، إن المصدر الأساسى لحركية وعيى (المشتمل)، وهو خلفية الإبداع الفاعلة، هو المواجهة المتجددة مع وعى مريضى وقد تعرى او تفسخ أو تألم، ثم عجز أن يلملم نفسه، فحاولنا سويا دون ضمان النتيجة إلا بقدر جهدنا معا: هو نحو الشفاء، وأنا نحو مزيد من الخبرة ، وحمل الرسالة.

 لو لم أكن طبيباً نفسياً من أين كان لى أن أحصل على كل ذلك؟

****

س2-

 قمت بالعلاج النفسى بالقراءة، نريد إلقاء الضوء عليه وكيف يستفيد منه القارئ؟

جـ 2-

(هذا السؤال لم ينشر أصلاً!!)

 لم أقم بالعلاج النفسى بالقراءه، وإنما أشرفت على رسالة دكتوراه لإبن عزيز هو مدرس الآن فى كلية الأداب جامعة القاهرة عن هذا الموضوع، هو مدرس فى قسم المكتبات. إن الذى مارسته هو العلاج بالشعر بالمعنى التقليدى، ثم مؤخرا “العلاج المعرفى” الذى اكتشفت فيه نوعا أقرب إلى الشعر الحقيقى، وإن كنت قد حورت ما شاع عنه  بطريقتى جذريا، حيث أُعطى المريض واجبات معرفيه فيها غموض ودوال، دون مدلول محدد، فيتم التحريك فى اتجاه ما نريد من بناء وعى متجدد، لنا معا،

 أليس هذا هو الشعر؟

****

س3 ـ

ما هو أبرز ما تعلمته عن النفس البشرية وتناقضاتها من واقع خبرتك كطبيب نفسى، ومبدع، وناقد أدبى أيضا؟

جـ3 ـ

ابتداء، أقر أن أغلب ما تعلمته حقيقة هو من الناس (المرضى وغير المرضى)، ومن الأدب الحقيقى، أما ما تعلمته من الكتب العلمية والنظريات الجاهزه والثابتة فهو أقل فأقل، بل لعلى أعترف أننى فرحت، بتصنيفك لى ناقدا أدبيا (وهذا ما فعلته مجلة فصول من قبل بفضل المرحوم  أ.د. عز الدين اسماعيل)، ذلك أننى اكتشفت أننى أقرأ المريض باعتباره “نصًّا بشرياً”، وأقرأ النص الأدبى بإعتباره “كائنا حيا”، ومن خلال هذا وذاك تولدتْ عندى أهم ما أتصور أننى يمكن أن أضيف به إلى معرفة النفسْ لى أولا، ثم للناس ثانية،

 أما وصاية العلوم النفسية على النص الأدبى أو محاولة تشخيص المبدع وتصنيفه تحت اسم مرض، أو ظاهرة، أو حتى تصنيفٍ شخصيات روايةٍ ما وتسميتها باسم مرض بذاته (كما فعلتُ باكراً فى الشحاذ لمحفوظ)، فهذا أضعف النقد النفسى والتحليلى الوصفى، وقد حذرت منه حتى الرفض.

 النفس البشرية لن يحيط بها علم ولا فن ولا نقد مهما كانت المحاولات جادة،

 هى بحر زاخر من الحركة والتنوع: واكتشافها وإعادة اكتشافها، فى علاقاتها بمثيلاتها وبالكون وبالمطلق، وبالله، هى رحلة الوجود العامرة المغامرة أبدا.

****

س 4 ـ

كيف يحتوى المبدع  التناقضات التى بداخله لتقوده إلى الإبداع بدلا من أن تدفعه للمرض النفسى؟

جـ 4 ـ

 مسألة التناقضات هذه مسألة قديمة، ولا مؤخذة، الإنسان مجموعة تركيبات من مراحل متراكمة، بديهى أنها غير متماثلة، والاختلاف ليس بالضروره تناقضا، حتى الخير يمكن ألا يكون عكس الشر بالمعنى الاستقطابى الشائع،

(الذى نشر كان خطأً جسيما ، ولا أظن أنه خطأ مطبعى، ثم إنى أرسلت المقال على ديسك،  فضلا عن إرساله إلكترونيا، ولعل المحرر، أو المصحح،  لم يتصور ما كتبته فقلب “ألا” إلى “أن” هكذا، فنص ما نشر كان كما يلى : حتى الخير يمكن أنيكون عكس الشر بالمعنى….إلخ، وهذا هو عكس ما ردت توضيحه تماما، لكن من يصدق أن الخير يمكن ألا يكون عكس الشر؟!؟!

إن حركية مستويات الوعى مع اختلافها الطولى تطوريا، واختلافها الحالى حسب دورات الإيقاع الحيوى، تولِّد زخما من التباديل والتوافيق هو مادة الإبداع الحقيقى إذا استطاع صاحبها أن يحتويها ويعيد تشكيلها، أما إذا فاضت عليه حتى غمرته عشوائيا ولم يستطع: لا أن يكبتها، ولا أن يشكّلها، فهوا التمزق فالتناثر حتى المرض.

****

س5 ـ

 عدد غير قليل من المبدعين اعترفوا بتعاطيهم المخدرات أو بوقوعهم فى مصيدة الانحرافات السلوكية كما أن بعضهم فضلوا إنهاء حياتهم بالانتحار، هل هناك علاقة بين الإبداع والأمراض النفسية؟

(ما سبق  هو السؤال الأصلى  الذى أجبت عليه لكنه تحور فى النشر للأسف إلى: هل هناك علاقة بين الإبداع والمرض النفسى واللجوء إلى المخدرات أو الانحرافات السلوكية فضلا عن الانتحار !!!)

جـ 5 ـ

طبعا هناك علاقة وثيقة بين الإبداع والأمراض النفسية، لكنها ليست علاقة سببية. هى علاقة “مفترق طرق”، كلاهما له منشأ واحد، وهو حركية مستويات الوعى بدرجة أكبر من قدرة الفرد على استيعابها بالحلم العادى أو الإيقاع اليومى

إن ما يستتبع تنشيط تلك الحركية الفائقة هو: إما تخليق مستوى وعى فائق يلم المستويات المتعتعة معا، وإما فرقة وانشقاق وتمزق.

الطريق الأول هو الإبداع،

والثانى هو المرض.

ثم تأتى مسألة المخدرات هذه: فلابد من الاعتراف بأنها: لا هى مصدر للإبداع ولا هى حافز له،  لكنها فى أحيان نادرة تؤدى إلى مزيد من حركية الوعى وتنوعه، وتصبح مخاطرة مفترقية أكبر عرضة للتشتت، لأن التحريك المصطنع يحتاج إلى إبداع من نوع فائق جدا حتى يضمه من جديد فى التشكيل الجديد، وكثيراً ما تكون المخدرات معِّوقة للإبداع: حين تؤدى إلى إخماد الحركة لا إلى تنشيطها، أو حين تبالغ فى تنشيطها حتى التناثر.

أما مسألة الإنحراف السلوكى فهذا أمر يسرى على المبدع مثلما يسرى على الشخص العادى، وهو لا يميز المبدع بشكل خاص، ولكن بما أن المبدع هو تحت نظر العامة بل تحت رحمة مِجْهَرهم، وبما أن الناس ينتظرون منه تميزا خاصا بما فى ذلك التميز الأخلاقى أكثر من سائر البشر، فإنهم يرصدون انحرافاته بيقظه أكبر، وهذا لا ينفى أن هناك من المبدعين من تعرى حتى اعترف بانحرافه بشجاعة (وأحيانا ببجاحة) حتى أذكى النار فى هذه الشائعة التى لها أصل طبعا.

وأخيرا، تأتى مسألة الانتحار، وهى خطوة واردة ربما للمبدع أكثر من غيره.

 أعتقد أنه فى عمق أعماق بعض المبدعين تتماهى حياته الشخصية مع إبداعه، فإذا توقف إبداعه (ولو مؤقتا) تصور يقينا أنه مات فعلا، فلا يكون الانتحار فى هذه الحالة إلا “تفعيلا” لأمرٍ واقع، كأنه تحصيل حاصل. (قَتــْلُ ميّت).

 المؤلم فى هذا الموقف أن هذا التوقف قد يكون مؤقتا، بل عادة ما يكون مؤقتا، ولكن من أين للمبدع المنتحر الصبرَ وطولَ النفس ودقة  الحسابات؟

****

س6 ـ

يقال إن الطب النفسى قد استفاد كثيرا من بعض المبدعين ومنهم ديستويفسكى فما مدى صحة ذلك؟ وما هى أبرز عناصر التوافق بين كل من الأدب والطب النفسى وكيف يمكن لكل منهما الاستفادة من الآخر؟

جـ 6 ـ

 الطب النفسى، وعلم النفس، وربما علم اللاهوت الأعمق، وعلوم التصوف، وغير ذلك قد استفادوا من ديستويفسى ومن غير ديستويفسكى.

بالنسبة لهذه المسألة أحب أن أذكّر مشدداً ـ كما أفعل دائما ـ أن الأدب اسبق وأعمق من العلوم النفسية فى سبر غور النفس البشرية، وأنا –مثلا- حين كتبت نقدا لديستويفسكى عن قصته نيتوتشكا نزفانوفنا، والفارس الصغير، أبنتُ فيه تنويعات نفسية الطفل كما وصلتنى أروع من أى مرجع فى علم نفس الطفل، وطب نفس الأطفال،

وحين استنتجت مفهوم “استحالة الإلحاد بيولوجيا“،  تأكيدا للتوجه الفطرى للتكامل، كان ذلك من الإخوة كرامازوف وليس من كتب الدين، وقد رفضت التفسير السطحى الأخلاقى للدين الذى شاع  نتيجة الاستشهاد بنصيحة عابرة وردت فى هذه الرواية تربط الدين بالردع الأخلاقى، والأمر أعمق من ذلك بكثير،

 تقيسين على ذلك نقدى لبعض أعمال نجيب محفوظ من زعبلاوى إلى الطريق فملحمة الحرافيش ثم رحلة ابن فطومة وغيرها، تلك الروائع التى تكشف النفس البشرية فى جدلها مع الكون الأعظم بما يعمق الإيمان البشرى، بدون أن يشوهه الاستقطاب والتعصب المتشنج.

هذا ما تستفيده العلوم النفسية من الأدب،

أما ما يستفيده الأدب من العلوم النفسية فيجب أن يكون محدودا تماما برغم أهميته بل ضرورته، وقد تأثر نجيب محفوظ مثلا بالتحليل النفسى الفرويدى أكثر من غيره حتى حفلت بعض أعماله. وبالذات بعض قصصه القصيره بمعالم ذلك، حتى تجسد فيها الرمز بما كاد يصل به إلى الأمثولة  أحيانا، مما لا أريد أن أفصله فى هذه العجالة حتى لا أظلمه وأظلم نفسى.

 لكن ليس معنى هذا ألا يستفيد الأدب من العلوم النفسية القديمة والحديثة، لكن على المبدع أن ينساها تماما، قياسا بنصيحة خلف الأحمر لأبى نواس حين طلب الأول من الأخير أن يحفظ شعر العرب قبل أن يقرض الشعر، فلمّا عاد إليه حافظا أغلبه، طلب منه أن ينساه قبل أن يقرض الشعر،

 إذن على المبدع (وأيضا : للمبدع) أن يعرف ما شاء من العلوم النفسية، لينساها قبل أن يبدع.

****

س7-

 قلت: يجب أن يعمل المثقفون عملا يدويا قبل أن يمسك أحدهم القلم ليكتب.. نريد توضيحا وافيا لمبررات هذا القول؟

(حذف هذا السؤال و السؤال الذى يليه ، كما حذف – طبعا- الرد عليهما)

جـ 7:

لا أذكر أننى قلت ذلك حرفيا،

 لكن لابد أنكِ التقطتِ مثل ذلك،  ربما من خلال تأكيدى هنا وهناك على أن الجسد أداة إبداع وأداة معرفة، وأن انفصالنا عن أجسادنا هو نوع من الاغتراب بشكل أو بأخر.

 أنا لا أعنى بالعمل اليدوى نوعاً من المنظرة للتواضع، أو تنمية مهارة حرفية.

 الجسد هو وعى مُتَعيّن، وهو حاضر بكل خلجاته ونبضه فى عملية الإبداع، حتى لو لم يدرك المبدع ذلك، أما العمل اليدوى فى ذاته لو انفصل عن سائر الوعى فإنه يمكن أن يصبح بذلك اغترابا أقسى، لأنه يصبح سُخرة وامتهانا للجسد وصاحبه معاً.

****

س8-

 صرحتَ بتصريح يقول : إن الشخص العادى هو الذى يدفع ثمن زيف النقاش حول صراع الحضارات وصدامها وادعاء قبول الآخر،

 والسؤال هو: كيف ذلك وماذا عن دور المثقف فى نفس الشأن؟

جـ 8 –

مسألة خدعة حوار الحضارات وحوار الأديان وادعاء قبول الآخر لابد أن يعاد النظر فيها من عمق موضوعى، ينبغى أن نتجاوز مرحلة القبلات والأحضان والمجاملات والتفويت إلى حقيقة احترام جاد، داخل داخل انفسنا، احترام لمن نختلف عنه: بأن نضع أنفسنا – حقيقة وفعلاً – مكانه. أما أن نقول فى الندوات والفضائيات شيئا، ثم نقول شيئا أخر فى المساجد والكنائس، أو يقول المسئولون المحليون أو الأجانب شيئا عن الحرية مثلا وتصديرها ثم يمارسون عكس ذلك، فهذا ما يجعل الشخص العادى فى موضع شك مستمر، ليس فقط فيما يجرى حوله أو ما يصله، وإنما فى كل القيم الأساسية التى تحافظ على استمرار البشر نوعاً واحداً معاً.

أما دور المثقف، فلابد من التمييز بين:

 “مثقفى المجالس والكتابة والقراءة“، “

ومثقفى الوعى والمشاركة والمفاعلة”.

 لقد خطر ببالى ذات مرة أن نقابل المجلس الأعلى للثقافة المكلف بمهام  رائعة، بمجلس أدنى للثقافة نكلفه باستيعاب وعى الشوارع   ، ونبض الحوارى،   وإيقاع الدين الشعبى،   ورصد الإبداع العفوى

 دور مثقف المجلس الأعلى هو متابعة العلم المكتوب، والفن المصقول، والإبداع القادر،

 وهو يختلف عن دور مثقف المجلس الأدنى (هذه صفة، لا درجة طبقة، صفة ترتبط بلحم ودم  المجتمع وليس فقط  بأعلى رأسه)

دور هذا المثقف “التحتىّ” (لعلها الصفة الأفضل من كلمة “الأدنى”) هو تحريك وعى عامة الناس فى اتجاه أعلى مما هم فيه، استعدادا لنقلة جماعية لما يرتقون إليه به،

 وهذا يحتاج لتفصيل ليس هذا حَيّزَه أو مجاله.

****

س9-

 قلت: “صالحتنى شيخى على نفسى”، كيف كان ذلك ولماذا كان الخصام؟ ومن هو الشيخ؟ وكيف يتصالح المبدع من نفسه، وهل هذا التصالح ضرورة لكى يقدم إبداعا ناضجا بدلا من تصدير مشاكله النفسية للقارئ؟

جـ 9-

 هذه بداية قصيدة كاملة، تفضلت الأهرام بنشرها بمناسبة عيد ميلاد نجيب محفوظ سنة 1992 (15/12/2003). الشيخ هو نجيب محفوظ وبالتالى أكون أنا المريد. بديهى أنه لا يحق لى أن أعيد نشرها مرة ثانية هنا، فأكتفى بالإشارة إلى اْن شيخ الطريقة هو ليس قدوة بالمعنى الحرفى، بقدر ما هو سهم للتوجه معا إلى ما بعدنا، مما نعد به، هذا معنى التصالح وليس بمعنى السلام الساكن أو حل الصراع. هذه القصيدة برمتها هى لتأكيد لهذا المعنى وقد يكون مناسبا أن أعيد آخرها فقط، لأنه استلهاما من أحلام نقاهة محفوظ التى ثار حولها جدل كبير مؤخرا، قلت:

من وحى أحلام النقاهة – سيدى – نشطت خلايا داخلى:

“فحلمت أِّنىَ حاملُ، وسمعُت دَّقا حانيًا وكأنه وعد الجنين. جاء المخاض ولم يكن أبدا عسيرا، وفرحت أنى صرت أمًّا طيبةْ، لكننى قد كنت أيضا ذلك الطفل الوليْد، فلقفُت ثدىَ أمومتى، وسمعتُ ضحكاً خافتا. لا،.. ليس سخرية ولكن.

….. وسمعت صوتا واثقا فى عمق أعماقى يقول: “المستحيل هو النبيل الممكن الآن بنا”. لمستْ عباءتكَ الرقيقةُ جانباً من بعض وعيى، فعلمُت أَّنكَ كْنتهَ. وصحوت أندم أننى قد كنت أحلم.

“هذا هو معنى التصالح الذى أعنيه”

****

س10-

أخبـِرنا عن علاقتك بالحرافيش كيف بدأت؟ ومتى تعرفت على نجيب محفوظ؟ وماذا استفدت منه؟ اعطنا صورة تفصيلية عن لقاءاتكم وما يدور فيها وأسلوب التواصل الإبداعى والإنسانى؟

جـ 10-

 لا يوجد حاليا ما يسمى الحرافيش كما عهد الناس السماع عنه، لا يوجد من الحرافيش إلا الموعد (مساء كل خميس)، وقد بدأت علاقتى بهم بعد الحادث الأثيم سنه 1994.

الحرافيش الأصليون تفرقوا جميعا بالرحيل إلى الله أو إلى الخارج أو إلى داخل أنفسهم، وأنا أفضل أن أسمى الحرافيش الحاليين بالحرافيش الاحتياطى “وأنا منهم. هم  ثلاثه لا يمثلون تاريخا ولا ذكريات،  ولا يكاد يربطهم للحفاظ على الاسم إلا “ثبات الموعد”، هذا ليس تقليلا من شأن هذا الاجتماع الأسبوعى الذى لم يبق (ولا يحضر) من مؤسسيه إلا نجيب محفوظ نفسه. أحيانا أشعر أنه يستعملنا نحن الثلاثه دلائل تـُـذكره بمدلول غاب عنه،  بعد أن ظل حاضرا فى وعيه،  وروتين حياته،على مدى ستين عاما.

اللقاء هو كل خميس الساعة السادسة مساء حتى العاشرة فى كازينوا متواضع على النيل، وهو يتميز عن سائر لقاءات الأسبوع بأنه لقاءً مغلق علينا نحن الأربعة: حرفوش واحد وثلاثة دلائل “كنظام” الحرافيش، يحضر إلينا أحيانا كل شهر أو شهرين زائر جميل متردد، فيشعر بخصوصية الجلسة، فلا يكررها. هى جلسة خصوصية بمعنى ثبات من يحضرها، لا بسبب ما تحويه من أسرار، أقرأ فيها لمحفوظ كل اسبوع مقالى القصير  سواء  مقال “أهرام” الاثنين أو ما تيسر مما أنوى نشره هنا أو هناك ويصححنى ويوجهنى هو وصديقاى الآخران كثيرا، ويحكى فيها الصديق حافظ عزيز عن الأخبار السياسية من بعض الفضائيات، أو عن بعض طرائف عالم الحيوان من قناة الجغرافيا الوطنية!! كما يقرأ فيها صديق ومريد محفوظ المزمن “د. زكى سالم” بعض ما ينشر من أدب وأخبار، ثم نتناقش ونتشاجر حول الديمقراطية الحقيقية (يناصرها محفوظ و د. زكى) والديمقراطية المزعومة (يعريها  شخصى) ويقف الصديق حافظ موقفا موضوعيا يترجح بين هنا وهناك، وهو يوافق أو يعارض ما يرى حسب السياق.

على أن هناك جماعة أخرى أسمت نفسها “حرافيش الثلاثاء” وهو اسم  “عرفى” وهى تجتمع فى باخرة على النيل، وهى جلسة مفتوحة، لكنها جلسة أطول عمراً من رموز الخميس، وقد صكوا اسمهم هكذا بالتقادم دون وثيقة رسمية لا من مأذون ولا من الشهر العقارى، لكن بعد انتشار الزواج العرفى مؤخرا وإقراره اجتماعيا على معظم  المستويات، لابد من الاعتراف بهم بشكل أو بآخر، بل ربما كانوا هم  أوْلى بالاسم من “الاحتياطى” الحالى.

****

س11-

 قلتَ : إن وظيفة من يكتب هى أن يحرك وعى الناس إلى قراءة ما يدور من حولهم دون الاستسلام بتعليمات الأبله ناظرة مدرسة العولمة، والسؤال: ما هو مدى تقييمك لأداء الكتاب العرب فى هذا الشأن؟

(حذف هذا السؤال أيضا ، فلم ينشر، كما حذفت الإجابة عليه طبعا)

جـ 11-

 لا بد من أن أكرر لك احترامى للجهد الذى حصلت به على مثل هذه الأقوال، من أين لك هذا؟ شكرا؟  لعلى قلت ذلك ذات يوم، وأنا سعيد بمتابعة بعض ما صرحتُ به هنا وهناك، مما نسيته أنا شخصيا.

 أظن أننى كنت أقصد  هنا بتعبير أبلة الناظرة أنها  ناظرة مدرسة العولمة،

 نحن عندنا أبلوات كثيرات لمدارس السلطة المتنوعة، دينية، وسياسية وشركات عملاقة، ومافيا و… الخ.

أما قضية “تحريك الوعى”، فقد  تبينت مؤخرا أنها وراء كل ما صدر ويصدر منى فى كل وسائل التوصيل (برنامج سر اللعبة، عامودى الأسبوعى: تعتعته، “المشاركة فى برنامج البيت بيتك”وغيره، مشروع عامودى فى مكان ما تحت عنوان  “دع البله وابدأ النظر“.. إلخ) بالإضافة إلى كل ما يتاح لى نشره شخصيا حسب فضل بعض الناشرين، كل ذلك ليس له هدف إلا تحريك الوعى.

 ولا أحسب أن هذا التوجه هو قاصر علىّ، بل إن كل إبداع هو كذلك.

الإبداع الذى لا يحرك الوعى لا لزوم له، وليس على المبدع أن يقصد ذلك التحريك، لكن الإبداع الحقيقى يفعل ذلك حتى لو لم يقصد المبدع نفسه إليه.

أما تقييمى لأداء الكتاب العرب بالنسبة لهذه المسألة، فهذه قضية تحتاج إلى مراجعة كاملة قبل التعميم.

أقر واعترف أننى أفاجأ بقدر مناسب من إبداع الكتاب العرب يقومون  بهذه المهمة، قدر أكبر من تصورى عادة. فوجئت – مثلا- بمقال كتبه محمد يحيى الرخاوى فى مجلة سطور بعنوان “رسالة إلى انتحارى” عدد أول يونيو 2005 فيه من تحريك الوعى قدر اكبر من مقال كتبته شخصيا فى نفس الموضوع فى مجلة الهلال بنفس التاريخ، أليس هذا دليلا على أن الحركة مستمرة، وأن الأصغر أكثر وعداً وقدرة على التحريك مما أتصور. (بغض النظر عن أنه إبنى)

****

س12-

هل علاقة المبدع بالموت تقود إبداعه؟

 كيف ذلك؟ وبماذا ينصحنا الطب النفسى للتعامل مع الموت؟

جـ 12-

المبدع ولود، والولادة الحقيقية هى دفاع ضد الموت، هى محاولة للإبقاء على النوع، لاستمرار الحياة، إن لم يستشعر المبدع (ولو داخل داخل ذاته) التهديد بالنهاية، إن لم ينتبه المبدع فى مستوى ما من وعيه حقيقة أن له عمره الافتراضى المحدود الذى لا يمكن إطالته، فلماذا يبدع أصلاً؟

الإبداع الحقيقى ليس “منظرة ولا حلية” هو صرخة وجود، هو حلم بخلود حقيقى ليس خلودا  للمبدع فرداً، وإنما للحياة وللحركة وللتطور، هو الأمر الذى يعطى لرحلة الفرد معناها الحقيقى الممتد فى إبداعه بعد زواله شخصيا، وهو بهذا لا يزول

لقد تناولت قضية الموت والخلود ناقدا فى ملحمة حرافيش محفوظ حيث بيَّنْتُ كيف ان محفوظ قد جعل الوعى بالموت أساسا  لدفع زخم الحياة وحفز حركيتها الرائعة، كما جعل وهم الخلود الفردى (“جلال” صاحب الجلال) هو أبشع لعنة يمكن أن تصيب الإنسان فتشُلّ الحياة، وتقتل المتعة، إذ يتوقف الزمن، وتموت الحركة وهو مازال حيا (حسب ظنه).

أما عن حكاية “بماذا ينصحنا الطب النفسى” تجاه هذه المسألة، فلعلك لاحظت طوال الإجابات السابقة  أولا: أنى لا أتقن النصيحة وأكاد لا أحترمها  وثانيا: أنه قد تنوعت أدوار وجودى حتى لم تعد آرائى تمثل الطب النفسى

النصيحة التى أقدمها لنفسى قبل الناس هى ألا نكف عن تذكر أنه “لا يبقى إلا ما ينفع”

(ومن لا يعجبه، يفعلُ ما بدا له).

 (الذى نشر بدل كل ذلك هو: أما النصيحة التى أقدمها..إلخ)

انتهى الحديث، وتم التصحيح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *