“يومياً” الإنسان والتطور
14-7-2008
العدد: 318
يوم إبداعى الخاص: قصة قصيرة
الجزء الأول من الفصل الأول من: مدرسة العراة
(الجزء الثانى من ثلاثية المشى على الصراط)
فردوس الطبلاوى
مالى أنا!!!!! يكفينى مابى، عيالى أولى بى، همى بيتى، مطبخى، ستائر حجرتى، ألا يكفيه أنى أهتم به، حتى بإصلاح جواربه، ماذا يريد منى بعد ذلك؟.
صبرت حتى على العجز نفسه، وعلى فضيحة انتحاره، لكنه لايتركنى فى حالى، يريد منى أن أذهب معه إلى العلاج؟ أى مصيبة وصلنا إليها، أى علاج هذا المجنون، ماذا بى للعلاج؟ كلام فارغ فى فارغ أنا عرفت حركاته. يريد أن يلصقها بى فى النهاية، لن أذهب ولو انطبقت السماء على الأرض.
تنازلت له عن كل شئ، نسيت نفسى إرضاء لأنانيته: الليسانس، وأحتفظ بورقته مع خزين البصل. أهلى: وانقطعت علاقتى بهم. أصدقائى: وانصرفوا عنا هربا من قلة ذوقه، حتى قراءة الفنجان التى كنت أعرف من خلالها نفوس الناس أحسن من طبيبه المخلول، نسيتها وما كان قد كان، ثم ها هو ذا لا يدعنى فى حالى. أريد أن أعيش مثل الناس، ما لها الست محاسن جارتنا، وابنة خالتى صباح، وتماضر الجحش زوجة سعد عرفة، بل ما لها أم عنتر زوجة عم عبده البواب؟.
عشت معه طول هذا العمر وتحملت ما تحملت على أمل أن يكف عن الجرى فيما لاطائل وراءه. كاد أملى يتحقق بمرور الأيام حين أصبح مطيعا سلسا بعد سنوات، ثم حدثت المصيبة التى لا أدرى من أين جاءتنا. مصيبتى كبيرة فى هذا الرجل. لايعتقد أنى أملك جهازا للتفكير مثله. يحسبنى دائما أعيش فى غيبوبة. أقرأ فى عينيه نظرات الاحتقار وأصبر. أنا أعرف الحياة أكثر منه، وما صبرت عليه كل هذا الصبر إلا لأنى أفهمه أكثر مما يفهمنى. كان أملى أن يكملها الله بالستر.. ولكن..
= مالى أنا بكل هذا يا عبد السلام يا ابن المشد، الله يهديك.
- هذا هو رأيه، وهذه مهنته، وهو يعرف الصالح أكثر منى ومنك.
= وأنت؟ أليس لك رأى؟ وأنا؟ أنا مالى يا عبد السلام الله يخليك، البيوت أسرار دعنا نعيش فى ستر، دعنى فى حالى.
- أنا لم أذهب مختارا كما تعلمين، اضطررت إلى هذا الطريق عقب نجاتى من الحادث، ليس أمرّ من المر إلا العجز والضياع.
= تقول “الحادث”؟ أنت الذى عملتها فى نفسك، خيل إليك أن العالم انتهى وأن مصر خربت، صدقت الإشاعة واعتبرت الثغرة بداية الهزيمة التى لا نصر بعدها. عملتها ولولا ستر الله وأولاد الحلال ما كنت بيننا الآن. أنت تهرب يا عبد السلام من الحياة عمال على بطال.
- عمر الشقى باق.
= وهذه مصر بخير.
- ليس تماما… يمكن أن تكون بخير.. إذا فعلناه نحن، إذا كنا نحن بخير.
= نحن بخير يا عبدالسلام.. وكفى جريا وراء الأوهام.
- لست بخير يا فردوس.
= وما الذى يمنعك أن تكون بخير؟.
- . . . . . . .
= قل لى ما الذى يمنعك؟.
- أنتِ.
= أنا؟ هذا ما عملت حسابه طول عمرى، سوف تلف وتدور ثم تأتى باللوم على رأسى.
- لا أقصد أنت أنت، ولكن أى أنت.
= يا نهار أسود.. تريدنى أن أذهب معك هناك حتى يلتوى لسانى هكذا… لاقوة إلا بالله.
- يا امرأة، إفهمى ليس أمامى خيار: إما هذا، أو الجنون، أو الانتحار.
= سلبَ هذا الرجل إرادتك يا حبة عينى، أين أنت يا عبدالسلام؟.
- يا ولية، إفهمينى.. ليس لى خيار. المصيبة داخلى وأريد أن أحافظ على بيتى. لم أعد أستطيع الكذب، هذه هى الحكاية.
= أى كذب وأى هباب. أنت لاتحافظ على شئ إلاعلى جنونك. أنا التى دفعت عمرى لأحافظ على بيتنا، وأنت لست هنا من أصله.
- ما أعجزنى إلا العجز.
= العجز؟ قل شاء الله يا أم العواجز.
- أنت لا تدركين الخطورة.. هذا البيت مهدد بالانهيار.
= تهددنى بعد أن صبرت كل هذه السنين، تأكلنى لحمة وترمينى عظمة.
- أنا مريض وأعالَج، والطبيب طلب حضورك.
= تضع الفأس فى الرأس.
- جربى من أجل الأولاد.
= ما لك أنت بالأولاد، أنت لاتعرف عنهم شيئا، أحيانا أتصور أنك لا تعرف حتى أسماءهم، كفى تهديدا، لى رب اسمه الكريم وعندى شهادة، ولا أحد يموت من الجوع.
- وحبنا؟.
= تتكلم عن الحب يا عبد السلام؟!!!!!.
- أبحث عن أى لغة تفهمينها، ولو كانت بلا معنى.
=.. تضحك علىّ.. ولا تلبث أن تستهين بعقلى كالعادة. لا تنكر أنك لم تعد تطيق رؤية اثنين يحبان بعضهما البعض، ولو فى التليفزيون.
- لا أطيق الكذب.
= ما تسميه صدقا هو الجنون ذاته.
- إسمعى. إما أن تحضرى أو أكف عن العلاج.. أو….
= تهددنى يا عبدالسلام.؟.
أنا مضطر لإكماله يا فردوس.
=… يا ليتنى أفهم شيئا.
****
آخر زمن..
علاج هذا أم قهوة للمساطيل؟ مالى أنا وكل هذا؟
هذا الرجل ليس طبيبا ورحمة أمى، هارب من مستشفى المجاذيب بلا أدنى شك، هو أكثرهم جنونا. خيبته تفوق غباءهم المستسلم. لم يوجه لى أية كلمة، لعله حسبنى لا أملك ذلك الجهاز فى الدماغ الذى يفكرون به، أنا أستطيع أن أزنهم جميعا بنظرة واحدة، نظراته تخترق مالا يعرف. لن ينال منى شيئا لأنى أذكى منه ومنهم .………
………
صدرت الطبعة الثانية مؤخرا
الناشر: “ميريت” القاهرة 2008