“يومياً” الإنسان والتطور
16-6-2008
العدد: 290
يوم إبداعى الخاص: قصة قصيرة (!!)
رقّّ الحبيب
…. قبل أن أبدأ عملى بشكل جدى، ولم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة، أرسل لى المدير يستدعينى على غير توقع. ملفاتى قد خلت من التأشيرات الحمراء منذ زمن، وأحوالى الظاهرة لا يبدو عليها تغيير إدارى. ليس بينى وبينه علاقة خاصة، فماذا هناك..؟ ذهبت إليه وأنا أدعو بالستر. لست فى حالة تسمح لى بالتساؤلات التى توردنى حقول الألغام المليئة بحسابات ليس لها آخر. أنا أعيش هذه الأيام كالإناء المشروخ من الداخل. أخاف أن يمتد الشرخ إلى الخارج فى أى لحظة فيتهشم الإناء تماما. جرعة من سائل ساخن، أو تلميحة جارحة، أو احتكاك بالأتوبيس أى من ذلك كفيل أن يجعلنى أنتكس فورا وأن أفضح على الملأ.
ماذا يريد منى المدير شخصيا؟ ربك يستر..
دخلت عليه مترددا ولم أحاول أن أسبق الأحداث، وهو لم يمهلنى، فقد قام من على مكتبة واستقبلنى فى منتصف الحجرة حتى كاد يغشى على من هول المفاجأة، كان وجهه صارما كالعادة.. إلا أنه بدا لى إنسانا أطيب مائة مرة مما كنت أحسب. لا بد أن وراء هذا الوجه الصارم قلب مثل قلوب الناس الأصلية قبل أن يصبحوا مديرين، اكتملت لمّا دعانى للجلوس على الأريكة وجلس بجوارى – أخذ قلبى يخفق بسرعة هائلة من المفاجأة والحذر معا. دارت بخاطرى شتى الظنون، ماذا يريد منى فى هذا اليوم المختلف؟. أنا بى ما يكفينى، ماذا صنعت على وجه التحديد؟ وماذا لم أصنع على وجه التحديد……؟.
– أستاذ عبد السلام أنت رجل مؤمن.
يا نهار اسود.. من أين بلغه الحوار الدائر فى رأسى، هل أفشَى أحدهم السر؟.! هو الأستاذ نصحى ليس غيره، هذه نتيجة من يسلم نفسه للهواة لعلاجه أو هدايته، أو لعله أسعد افندى يرد الإهانة التى لحقته بالاستخفاف بدعوته للدير. ألم يقل لى لابد من حرب الملحدين، لابد أن سيادة المدير قد علم ما بى، وها أنذا أمثل أمام محكمة التفتيش، ماله سيادة المدير ومالى إن كنت مؤمنا أو كافرا؟. ملفاتى سليمة وأوراق تعيينى مثبت فيها أنى مسلم. حضورى منتظم فى الأيام الأخيرة، هذا كل ما عندى له، أما حكاية “الإيمان” هذه فهى من شئونى الخاصة، وحتى هذه الحكاية لم أقصر فيها فأنا دائم البحث “عنه” فى كل مكان، حتى الست صفية التى قابلتها عند غريب افندى تشهد بذلك. سوف أتمادى معه على قدر السؤال حتى تمر هذه المسألة بسلام.
- الحمد لله… يا سعادة البيه.
- هذا ما أعلمه فيك، لذلك قررت أن أواجهك بنفسى.
يواجهنى بنفسه؟. لابد أنه أصدر قرارا خطيرا يحتاج أن يتنازل إلى هذه الدرجة وأن يطمئن على إيمانى قبل أن يلقيه فى وجهى. شئ يتعلق بمستقبلى بلا شك، تذكرت تهديد الأستاذ نصحى الذى تحايلت عليه، يا ليتنى أطعت كلامه وبعت حلى زوجتى لأعالج بانتظام عند صاحبه حتى لو انتهيت إلى السكنى فى إحدى المدافن المصرية فى وادى الملوك مثله. ربما كنت رحمت نفسى من كل هذا الذى يجرى. واجهنى بنفسك وخلصنى يا سعادة البك، هاتها والرزق على الله. أليس هذا دليل الإيمان.
– أمرك يا سعادة البيه.
وضع يده على كتفى حتى كدت أرتجف. يبدو أن المسألة لم تصل إلى الفصل، ربما بلغه مرضى فأراد هو الآخر أن يتطوع بعلاجى، أو ربما تطورت حالتى حتى يلزمنى معالج بدرجة مدير عام. من أدرانى ماذا قال له الأستاذ نصحى أو أسعد افندى بعد أن كفرت بإيمانهما معا؟.
قال فى هدوء:
- لن أطيل عليك، البقية فى حياتك، والدتك تعيش أنت، جاءنى تليفون الآن لأبلغك، ثم انقطعت المكالمة، أنا آسف… شد حيلك، البقاء لله.
قالها وقام واقفا فى شهامة وهو يشد على يدى فى أسى صادق حتى حسبته سيبكى. حاولت أن أبحث فى داخلى عن التفاعل التلقائى فى مثل هذه الأحوال فلم يسعفنى شئ. كأن مشاعرى كلها قد اختفت بشكل جماعى. حاولت حتى أن أتذكر ما ينبغى أن يقال لأرد به فى مثل هذه الظروف حتى أظهر أمام الناس طبيعيا فلم أتذكر شيئا. طافت بعقلى مواقف مختلفة لم أستطع أن أنتقى منها المناسب. صراخ؟.
بكاء؟.؟. إغماء؟. لطم؟. لا أقدر على شئ من ذلك، ماذا يقولون؟. لابد أن يبدو علىّ أى تغيير أو تأثر. يقال إن شدة الحزن تجفف الدموع لهول الخطب. هذا هو الحل: أتمادى فى البلادة وليكن ذهولى القائم هو التفاعل المفضل، والحمد لله على الستر.
انتبهت ليد المدير فى يدى، أكملت السلام، نظرت إلى الأرض وتمتمت ببضعة كلمات وهممت بالانصراف، أمسك بى وعاد فوضع يده على كتفى ولم أعد أسمع ما يقول. قدرت أنها مجموعة ألفاظ للتعبير عن المواساة أو للتشجيع، لكنها انتهت وهو يضع يده فى جيبه ويخرج حافظته ويعرض على نقودا تتعلق بالمصاريف و”الخرجة” وأشياء من هذا القبيل. اعتذرت بشدة وخرجت شاكرا من قلبى فعلا. لم أكن أتصور أن هذا المنصب يمكن أن يشغله من يحمل كل هذه الرقة.
مضيت إلى مكتبى أجمع أوراقى ومازال عقلى فارغا تماما، جاءنى الأستاذ نصحى يسألنى عن نتيجة المقابلة لما رآنى صامتا أجمع أوراقى وأضعها فى الدرج. نظرت إلى وجهه بنفور، وفجأة أحسست أن (كلا) عقلىّ (الاثنين) قد استيقظا معا يريد كل منهما أن يجيب عليه مثل أيام زمان. رعبت من هول المفاجأة، هل هذا وقته؟. هل أمضى فى ذهول حزين منذ عدت من زيارتها حتى الآن، ثم إذا جاء وقت الحزن بحق انقسمتُ هكذا من جديد؟.
انطلق عقلى الساخر يحاول أن يرسم الناس وينطلق فى سبابه؟.. حياتى بالمقلوب، يظهر الحزن حين أطمع فى الراحة ويختفى حين ينبغى أن أحزن. ماذا أنا فاعل الآن؟. الحصانان يتسابقان للرد على نصحى افندى. من ذا منهما سيعامل الناس فى البلدة؟. وكيف ستمر ليلة المأتم وأنا هكذا؟. وماذا أفعل حين أجد نفسى قد انفصلت عن كل شئ، وركبت كوكبى الخاص، وأمسكت بمنظارى أرقب حركة النمل الآدمى على الكرة الأرضية؟.
انتبهت إلى صوت نصحى يكرر:
- خير يا أستاذ عبد السلام؟.
بدأت أرد على موجتين مثل زمان
– والدتى تعيش أنت.
(قال عقل بالى:”العقبى لك”)
قال فى تأثر سطحى على قدر ما يعرف، إذ يبدو أنه نسى التأثر الحقيقى من كثرة ملازمته لمدفنه العصرى، وممارسته هواية التحليل النفسى.
البقية فى حياتك.
- حياتك الباقية.
(قال عقل بالى:” ليس معى فكة.. خل الباقى لك”)
- أنت خير من يقابل “قضاء الله” بشجاعة.
- شكرا.. الحمد لله على قضائه، لله ما أخذ، وله ما أبقى.
(قال له عقل بالى: “واقعتك مثل الطين.. إياك أن تظن أن هذا من ضمن العلاج”).
* * *
أقبل على بقية الموظفين فى حماس وأسى يأخذون بخاطرى وأنا أتفرس فى وجوههم من بعيد وأرد عليهم الردود المعهودة. عرض أكثر من واحد خدماته المالية، وأخذ أحدهم تفاصيل عائلتى وأقربائى حتى يقومون بكتابة النعى. كنت أرد بطريقة جوفاء غير أنهم أخذوا كل المعلومات اللازمة دون تلكؤ. عارضت بشدة أن يصحبنى أحدهم مبديا مختلف الأعذار، مخفيا خوفى من الفضيحة. شكرتهم ووعدتهم بإبلاغهم ما نقص من تفاصيل فيما بعد.
أخذت تاكسى إلى المنزل وأنا فى اشد حالات الرعب من عودة اللعبة الداخلية فى وقت أنا أحوج ما أكون فيه إلى أن أنضم إلى بعضى. أنا لا أعرف متى تبدأ هذه اللعبة ومتى تنتهى. أنشق بلا تمهيد.. وألتحم بلا مناسبة، وحين أنشق تتراقص الدنيا أمامى بلا معنى، وحين ألتحم يركبنى الهم بلا حدود. باستثناء تلك اللحظات الرائعة التى أحس بى فيها عم محفوظ، فأنا ضائع بين الحالين. لعلى أحتاج للحزن الآن أكثر من أى وقت مضى، فهو أقرب إلى مقتضى الحال. الأمر ليس بيدى. ماذا أفعل أنا الآن بهذه المسخرة؟. أريد أن ألحم داخلى ولو بمكواة الأكسجين الآن على الأقل، ويا حبذا إلى الأبد.
حاولت أن أتذكر عطفها وحنانها وأفضالها. استرجعت مشيتها وجلستها ويوم أن ذهبت إليها، وسعدت بى بعد عتاب صامت حنون. حاولت أن أجعل ذلك مجلبة لذرة من الأسى والحزن، ولكن المشاعر كلها كانت تغوص منى داخل جب مظلم بلا قاع.
وصلت إلى المنزل فوجدت زوجتى قد ارتدت رداء أسود وأعدت العدة للسفر بلا إبطاء. لابد أنهم أبلغوها فى نفس الوقت. داخلتنى درجة من الطمأنينة حين تذكرت أنها ستصحبنى إلى هناك. ربما بذلك لا أضطر لتصرف شاذ يفضحنى تحت ضغط الوحدة والإرهاق. استأجرت عربة خاصة ولم يبق إلا أن أركب …
قلت لها:
- البقية فى حياتك.
- حسك فى الدنيا.
حلوة هذه اللعبة، كل حركة محسوبة ولها رد محسوب، مثل افتتاحيات الشطرنج، إلا أن الدور ينتهى فى الشطرنج بموت الملك، لكن هذا الدور يبدأ بموت الملكة، ما كل هذه الافتتاحيات المبتورة بلا أدنى حركة واعدة.
قال السائق:
- هذه حال الدنيا.
-…. الدوام لله.
…. مثل افتتاحية نابليون، لو عرف السائق الخدعة فسوف أبيـّـت الطابية فى النقلة القادمة. حافظ أنا كل اللعب، دون تعلم. يولد الطفل وهو حافظ لعبة الموت، قبل أن يتعلم الرضاعة يلقنوه آداب النهاية، وهو سرعان ما يكف عن الضحك، فلا تبقى إلا السخرية والقتل!!
قلت له (لعقل بالى): بالذمة هل هذا وقت الفلسفة واختراع النظريات الجديدة؟.
أواجه غربتى ووحدتى وشذوذى فى أدق مناسبة تحتاج إلى المجاملة والحديث اللبق، نظرت إلى وجهى فى مرآة السيارة خشية أن يظهر عليه ما بداخله، حاولت أن أنهى عقل بالى حين تصورت أن أحدا فى السيارة يمكن أن يسمع همسه، ولكنه انطلق يغنى متحديا:
” رق الحبيب وواعدنى يوم”.
” وكان له مدة غايب عني”.
كدت أقفز من السيارة خوفا واحتجاجا معا. هل وصلت الأمور إلى حد الغناء؟. ألا تكفى المسخرة الحشاشة التى لا تتوقف؟. جعلت أحايله بشتى الطرق وأنا خجلان منه حتى كدت أذوب من فرط شعورى بالذنب، ولكنى خفت أن يتمادى فى العناد حتى يفضحنى عمدا فسمحت له بمواصلة الغناء صامتا. نظرت إلى وجه زوجتى فوجدته كما هو. حمدت الله.
أصبح كل همى أن تمر هذه المناسبة بسلام.
حين وصلنا البلدة وجدت كل شئ معدا، ما أروع التعاون بين هؤلاء الناس. أخبرونى بأنها كانت قد أعدت كل شئ قبل وفاتها: الكفن، مصاريف الجنازة، بقشيش صبيات المغسلة. تسلمت أماناتها من ابن أختها عبد ربه. اتجهت إلىّ النظرات وكأنه ينبغى أن أعمل شيئا محددا. واقفٌ أنا وسطهم كاللوح دون حراك. همس لى عبد ربه إن كنت أريد أن ألقى عليها النظرة الأخيرة حيث الجميع ينتظرون قدومى لإتمام الإجراءات، ملكنى الرعب وأنا أتمنى ألا يكون هذا فرضاً حتمياً. فهمت من وجوههم أن الكل قد انتظر هذه اللحظة على أساس أنه لا بد أن تكون هذه هى رغبتى، خاصة وأنى الابن الوحيد الموجود. أختى مع زوجها فى الصعيد ولن تحضر قبل المساء وأخى فى ليبيا وقد لا يحضر أصلا. لا مفر من أن أفعل ما توقعوه – على الأقل بالنيابة عن إخوتى – دخلت وأنا أكاد أرتعد حتى تعثــرت. كشفوا وجهها فوجدته لم يتغير عن آخر زيارة باستثناء زيادة طفيفة فى الشحوب. خيل إلى فجأة أنها تبتسم لى. انفجرتُ فى البكاء بغير حزن، بكاء كصياح طفل قرصه الجوع لما تأخرت الرضعة، وما إن أحسست أن الأيدى تمسك بى حتى اندفعت أقبـلها فى وجهها ويديها والدموع تغمر وجهى وتبللها. لم أكن متأكدا مَـن الذى يبكى. لم يكن ذلك الطفل، ولم أكن أنا،
كان يغمرنى فى نفس الوقت شعور بالاحتجاج بأنها ذهبت قبل أن تجئ.
لم أفهم.
تكاثرت الأيدى علىّ حتى أبعدونى. وبدأت أميز الصيحات حولى:
“وحد الله” “الله أكبر” “أذكر ربك واستغفر”
وتعالى “صوات” النسوة فى صحن الدار.
* * *
استرخيت على الكرسى الذى وضعونى فيه. مسح بعضهم دموعى. هذا شئ لم يحدث لى فى حياتها، لا أذكر أنى قبـّـلتها هكذا أبدا، فجأة عادت بقية الأغنية تتردد فى عقلى.
” ولما قرب ميعاد حبيبى ورحت اقابله”.
” هنيت فؤادى على نصيبى بالقـرب منه”.
كدت أقوم كالملدوغ خشية أن يسمعنى أحد، منعونى برفق حازم. حاولت أن أذهب ناحيتها مرة ثانية، فتجمع علىّ أربعة رجال أشداء ينظرون إلى بشفقة وتقدير.
……...
………
انتهت القصة القصيرة
هذه القصة القصيرة هى الصفحات الأولى من الفصل الثامن من الجزء الأول (الواقعة) من ثلاثيتى “المشى على الصراط”، والذى صدرت الطبعة الثانية منه هذا الأسبوع (دار ميريت 2008 )