الحـوار “المعايشة”
د. السماحى- وفاء خليل- مصطفى فتحى
محمد جاد الرب- ماجى لبيب- يحيى الرخاوى
وهكذا يتطور الباب الذى بدأ بمناقشة إبداعات صديقنا جاد الرب وإيحاءاته ومشاريعه ونواديه وتلكساته ومؤتمراته وتقويمه الجديد… الخ يتطور كل ذلك إلى حوار تتسع رقعته وتتعد أطرافه بشكل نأمل معه مزيدا من الحركة لاثراء الفكر.
معالم الحوار تتحدد:
وعلى صفحات هذا العدد- فى مكان آخر- يرى القاريء كيف يحتد النقاش بين منازل جديد قديم، هو الصديق وفاء خليل، مع الدكتور السماحى حول ما أثار من قضايا هامة ومحورية فى أعداد سابقة، ونشعر من هذا الفتح الجديد بنوع آخر من المحاولة لعل القاريء قد لا حظ أنها تميز بشكل خاص عن غيرها من ديكورات العقل النقاشاتية بما يجعلنا نحاول تحديد هذا التميز- كمثال لما نرحب به- فنقول:
1 – إن هذا الرد قد اختلط به الجانب الشخصى فيه مع الحجج العقلية إختلاطا إيجابيا يجعل الذى يحاول أن يقرأه من عمق أبعد.. يجعله يسمع همسا أدق وأصدق وراء كلمات قد لا تعني- فى السياق العام- معنى واضحا بقدر ما يبثه الهمس الذى تثيره حولها.
2 – إن صاحبه قد وجهه إلى غريمه دون أن يغفل إحتمال أنه انما يوجهه إلى نفسه، أو بتعبير أصح، إلى الجانب من (أو الشخص في) نفسه الذى يمثله غريمه فى الخارج، وهذا النوع من الحديث الذاتى الموجه “للداخل فى الخارج” ليس استنباطا ولا اسقاطا مسطحا، بل هو محاولة صدق لو اكتملت لأصبحت وقود النمو وحفز التغير… إلى ما هو عادى دون أن يكون عاديا، وإلى ما هو شديد التواضع دون رشوة التنازل عن الرأى استعلاء أو انسحابا، وكلما علت نبرة الهجوم من أى محاور كان الأمر أدعى إلى النظر (داخل المهاجم) أكثر فأكثر مع التحذير من أن تنتهى الأمور إلى معركة ذاتية صرفة تلغى فرصة مواجهة العالم الخارجى وتغييره من واقع صراعات الداخل (فى الخارج).
3 – انه قد حمل قدرا من الاسترسال والإطناب قد يحمل القاريء عبء السلسلة (بفتح السينين) والمراجعة حتى يمسك بالخيط كلما أفلت منه، وهذا النوع من الكتابة مرهق أشد الإرهاق لمن يريد أن يتقن التواصل مع صاحبه ويعمقه، وقد تعمدنا ألا نغير من النص شيئا تقريبا، كما تعمدنا ألا نطلب من كاتبه “تبييض” ما سوده حرصا على الإحتفاظ بهذه الجرعة من المعاناة والمواجهة “كما هي” لتكون مميزة المعالم، فجة الرسالة، ناضجة الفحوي… ونرجو أن نكون بذلك قد نجحنا فى نقل الصورة أكثر من رص الكلمات.
4 – على قدر ما أثار الحوار من تساؤلات صادقة هزت الحلول الدفاعية والديكورات العقلية والسياج المعرفى المشغول من الحديد الفكرى المزركش لاحظنا أنه تواضع أشد التواضع فى وضع حلول بديلة تسهم فى دفع المسيرة، ولو أنه نجح نسبيا أو مرحليا فى محاولة عرض حل شخصى لمشكلة المعرفة من خلال معاناة ذاتية رهيبة بما يظهر أن رحلته طويلة وتجربته فريدة ولكن.. ماذا عن الآخرين؟ ، وكيف يمكن التعميم ورفاق الطريق كل فى موال؟، وقد دفعنا ذلك إلى أن ندخل تحرير المجلة طرفا ثالثا فى هذه المطارحة المثيرة، ولسوف نفعل حالا.
الحوار المعايشة:
ولكننى أسأل إبتداء: ما فائدة الحوار هنا أصلا وما الفرق بينه وبين النقاش؟ وأين يقع من الجدل والجدال؟ وأين كل هذا من “إشاعة حرية الرأي” و “حكاية الرأى الآخر”؟.. ولا أتصور أن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات ببعيدة عن وظيفة هذا الباب وهدفه، نقول ما الفرق بين “جدال التباهي” و “حوار المعايشة”؟ وتصورى أن الحوار لا يصبح معايشة إلا حين يكون قادرا على التغيير: ليس فقط تغيير الرأى وإنما تغيير الموقف من الحياة وتغيير الفعل فى الحياة، وكلما دخلت طرفا فى حوار على صفحات المجلة أو على درجات هذه الحياة، وطالبت الآخر أن يعيد النظر سألت نفسى عن مدى إستعدادى شخصيا لإعادة النظر، وحين أجد أن هذا الإستعداد ضعيف للغاية أعذر الآخر إذا تجمد أو حتى تراجع وتمسك، ثم أبرر “يقينى الخاص” بدعوى إتساع مساحة وعيى عنه، ثم أتصور أنه يفعل مثلما أفعل، فأكاد أتراجع، وأكاد أجزم أنه لا فائدة من أى حوار ما دام الجميع على يقين من يقينهم، لكنى بعد مرور فترة من الزمن، وحين أكتشف أن هذا الرأى المخالف قد حملته معى رغما عنى حتى صار صاحبا لي، بعد إنتهاء المواجهة والتباهي، ثم حين يزداد تداخله فى حتى يكاد يصبح من مكونات فكرى من غير قصد واع، حينئذ أكتشف أنه كان ثمة حوار، وليس معنى ذلك أنى أكون قد اقتنعت به وإنما أعنى أنه قد أصبح من أبجدية معرفتى الجديدة، أى أنى أستطيع أن أصيغ بأحرفه كلمتى الجديدة، فأكاد أتغير- أو أظننى كذلك- وقد يفاجأ من يعاملوننى مثلما أفاجأ لأننى رجعت فى كلامي”- وأهتف “يسقط الثبات على المبدأ”، لأنه “تحيا الحياة”.
معالم المعايشة:
ويمكن من خلال التمادى فى التعمق فى المعالم الباطنية أن أعلن إبتداء أن المعايشة إن صدقت لابد وأن تشمل عدة أبعاد أستطيع أن أتصورها كما يلى:
1 – أن تبدأه شديد التمسك برأيك، لأنه رأيك- وهو هو أنت وهو نتاج رحلة طويلة حتى أصبح هو رأيك، وذلك كنقطة إنطلاق محددة المعالم تتخطى الميوعة المبدئية النابعة من إدعاء غير ذلك، (إدعاءات مثل حرية الرأى انسحابا، وسلامة الرأى الآخر تعاليا.. الخ) ويساعد هذا الحماس المبدئى على تجنب التردد الجبان (وظيفة الجبن هنا هى ألا أدمغ بانتمائى لجانب محدد مما يضطرنى إلى الدفاع عنه).
2 – أن تقبل – فعلا – من المحاور الآخر موقفا متشددا لا يقل عما بدأت به أنت.
3 – أن تتفتح معظم الوقت “لاحتمال غير ذلك” – مجرد احتمال، لأى: “غير ذلك” دون اشتراط أن يكون هذا “الغير” هو هو رأى المحاور الآخر تماما.
4 – أن ترجو من غريمك مثل ذلك.
5 – أن تواصل الحاجة باخلاص من يوقن أنه على حق (مرحلى بالضرورة) فتؤكد نقطة بدايتك وصفاتها ومرة ثانية: دون احتقار أو استعلاء أو انسحاب حكمى أو جبان.
6 – أن تضع احتمال أن تنتصر أو تنهزم طول الوقت، فاما (أ) أن تنهزم بأمانة الشجعان، فتبدأ رحلة التغيير على الفور وترعب وأنت تخطو إلى الجديد المجهول رغم تحديد بداية معالمه من خلال معالم الرأى المنتصر، أو (ب) أن تنتصر حين تدمغ حجتك حجته- فتزداد معاناة لأنك تتحمل أكثر وأكثر مخاطر يقينك (المرحلى بالضرورة) (وهذا يشمل تجنب إدعاء الهزيمة الإنسحابية المناورة أو الإنتصار الزهوى الماحى لوجود الغير).
7 – أن تحتوى محتوى الحوار بشقيه لأكبر فترة تقدر عليها، فيعاودك كلما أتيح ذلك- ويصبح – بشقيه: ما أبديته وما سمعته- زادا جديدا يساهم فى تكوينك الجديد، فيصاحبك المحاور الذى هزمك، يصحبك فى داخلك تأتنس به وتصارعه فى آن- بينك وبين نفسك رفيقا جديدا، أو يتبعك المحاور الذى هزمته يثير فيك مسئولية القيادة فاحتمال المراجعة.
( وبديهى أن ذلك يشمل إلا ينتهى الحوار بانتهائه الظاهري، بل لعل الحوارالمعايشة الذى نرجوه من مثل هذا الباب إنما يبدأ بانتهاء الجدل المواجهة).
وأوقف نفسى عنوة عن مواصلة تصور معالم وشكل وصحة “الحوار المعايشة” فما أصعب كل هذا وما أبعده عن التحقيق، ولكن ما ألزم الأمل والمحاولة.
د. السماحى … وحبل المهالك
السماحى: أما عن تعليق الدكتور يحيى على خوفى من قبول بعض الفروض الخاصة باللجوء إلى “الحدس الموضوعي” (1) فإننى أعتقد بناء على أسباب وجيهة أن من يفكر هو كمن يمشى على حبل مربوط فى بدايته فى الخرافة ومن نهايته فى اليقين، وما بين النهايتين طويل جدا وتحت الحبل توجد المهالك.
الرخاوى: لعلك تذكر يا سيدنا أنى حين قبلت خوفك على العلم من “الحدس” (حتى الموضوعى منه) رفضت أن يكون الخوف مبررا للجوء إلى “المنهج الأضمن”، كما رفضت أن يكون مبررا لإنكار “المنهج الأصعب”، “الخوف” أمانة علمية تشكر عليها ولكنى أرفض أن أحبس نفسى فيها فخورا بالحرص، وقد انتقلت أنت من الحديث عن المنهج إلى الحديث عن “… من يفكر”، وهذه نقلة محمودة ولا أشك، وخاصة وأنت تعتبر أن التفكير هو هو المشى على الصراط، وما دمت قد سمحت لنا بعد طول لهاث بأن يكون من بيننا “من يفكر” فليس من حقك أن تخاف إلا من التوقف عن التفكير، والمهالك “التى تحت الحبل” لا ينبغى أن تحدد محتوى التفكير أو طريقة التفكير، ولكنها فقط تلزم بجدية التفكير وجهاد المسير ومعاناة رؤية المهالك مع حتم الإستمرار.
السماحى: المفكر إما حريص وإما لا عب أكروبات يتشقلب على الحبل لأن الإحتمال الثالث هو الوقوع فى المهالك.
الرخاوى: أوافقك على الحرص، على ألا يعنى الخوف المشل، لأنه لو كان حرصا لدرجة التوقف فسيظل الواحد واقفا (لاعبا) فوق نقطة واحدة على الحبل، ومن تحته ما تقول، وتجمده خوفا لن يعفيه من الوقوع فى المهالك (ربما دون أن يشعر بحدة أسنانها وهى تلتهمه سرا)، أما التشبيه بلاعب الأكروبات المتشقلب فأقبل منه وجه الشبه فيما يتعلق “بالمهارة والدربة”، ولكنى لا أقبل وجه الشبه فى أبعاد الإستعراض واللاجدوي، وأذكرك – وأذكر نفسي- أن لاعب الأكروبات لاتنتهى مهمته بالوصول إلى الطرف الآخر (يقينا كان أم خرافة)، إذ أن مهمته الأولى هى الشقلبة فى ذاتها، وهو يصل إلى أى من الطرفين ليبدأ من جديد أبدا.
السماحى: … لكن لا مجال لشجاع أو ملهم أو موهوب فى الفكر… والآن إسترحت.
الرخاوى: آسف أن أحرمك من هذه الراحة لصالحنا معا، فإنى قد أوافقك على أنه لا مجال لملهم أو موهوب (وخاصة أنها أسماء مفعول) هذا بفرض أنك تتصور أن الملهم أو الموهوب هما وعاءان مفعول بهما لا أكثر ولا أقل، ولكن كل هذا ليس له علاقة بالحدس الموضوعى الذى أشرت إليه فى حوارنا السابق، إذ أنه يبدو أنك استبعدت أن تكون الرؤية حدسا” وأن تكون “موضوعية” فى نفس الوقت ، فتصورت الترادف المستحيل بين هذا الحدس (الموضوعي.. ) وبين الالهام والموهبة، ولست أدرى كيف فاتك ما ذكرته لك (ص 129) من نفس العدد) من أن “.. هذه الدرجة من الرؤية ليست منحة تمنح للخاصة ولا مزية يتداولها- أو حتى يتوارثها الصفوة- ولكنها نتاج تربية ومعاناة مستمرة، والتربية تشمل اكتساب مقومات التفكير وتعميق موضوعية الوجود بالخبرة والمواجهة والاحتكاك والجدل، ثم المعانة المستمرة لامتلاك أبجدية المعرفة، ثم يأتى نتاج كل هذا ما أسميته حدسا موضوعيا (وتصورته أنت إلهاما) نتاجا- ليس نهائيا بحال- ولكنه يعلن باستمرار التوازن على حبل التفكير المشدود فوق أفواه الحيتان فى محيط المهالك، ولكن أبدا لا يعلن “الوصول”، أو يؤكد “الحرص الجبان”، أو يصفق للشقلبات فى ذاتها وأكرر تذكرتك- كما عاد فذكرك وفاء خليل فى رده فى هذا العدد- على أن الإستقطاب بين الخرافة واليقين هو استقطاب مرفوض، ولأن الموضوع خاص بالمعرفة، فالحبل قد يكون مشدودا بين الفرض والتحقيق، بين التسليم الغيبى والمعاينة المباشرة، بين التلقين والتوليد، إلى آخر هذه الأقطاب والمسارات الموازية المشدودة، على طريق المعرفة فوق مهالك الضياع، أما الخرافة (- كما ترسمها وكما هي) فهى إحدى وسائل المعرفة، وأما اليقين (كما ترتاح تحت مظلته التجريبية المصطنعة) فهو بداية مسار جديد لأنه يستحيل أن يكون إلا إحتمالا أرجحا فى لحظة تاريخية بذاتها حتى لو سمى علما، أو كان نتيجة تجربة محددة المعالم.
ثم نعود إلى قولك “.. لا مجال لشجاع.. فى الفكر”، فأرفض هذا القول إبتداء وتماما لإنه لا يمكن أن يخطو على هذا الصراط إلا شجاع.. والشجاعة طبقات لعل من أولى درجاتها الإقتراب من المحظور والتساؤل حول المسلمات، ولكن الدرجات التالية (وهى التى أظن أنك تتوقف دونها) تبدأ من التنبه إلى صور الخداع ونحن نغير ملابس فكرنا دون مراعاة محتوى فعل التفكير ذاته، فمثلا تجد أن أشد الناس تعصبا للإلحاد لا يختلف فى قليل أو كثير عن أشد الناس تعصبا لدين بذاته، ثم تأتى الدرجة التالية من الشجاعة عند رفض الميوعة والتسوية والحلول الوسط رغم التعصب والحماس الإستقطابى التميزي، وهناك درجات أخرى منالشجاعة تقول كلها بأنه “لا يفكر إلا شجاع”.
ولا يوجد شجاع يرى حجم ما عليه وما هو فيه وما ينتظره .. ثم “هو يرتاح” حتى إلى ما تصوره يقينا، حتى ولوكان هذا اليقين نتيجة تجربة (لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمى فى الجنة). لذلك فان قولك: “الآن استرحت” هو الذى دعانى أن أدعوك لتعاود النظر فى هذه الراحة وأن تعذر وفاء خليل وهو يغامر بايلامك أو إيلام نفسه (رغم شكى فى قدرته على العودة إلى محراب الألم والحيرة مرحليا)، لا تسترح يا أخى بهذه السرعة، و فى نفس الوقت لا تصدق ما ندعيه من عدم الراحة.. وفى إنتظار حركتك القادمة المحسوبة أو المغامرة أستأذنك لنرحب بصديقنا الجديد:
وفاء خليل .. واللعب بالنار
وفاء خليل: أنا قاريء من قراء المجلة.. شبهة حب الشهرة تزعجنى وأنا أودع عالم الذهن.
الرخاوى: أهلا وصعبا (نزلت أهلا وحللت صعبا)، … ولكنى أنبهك ومنذ البداية لخوفى ممن يودع عالم الذهن، خوف حتى الرفض، فماذا نحن بدونه، اللهم إلا إذا كنت تعنى بالذهن: “الفكر النظرى الممنطق والمجرد”، كما أحذرك من أى تبرير يرضيك عن نفسك وأنت تفخر بتجنب الشهرة، وكأن فى هذا شيئا من التواضع، فالشهرة مسئولية مثل الجهر بالكلمة وحتى مثل الإسم الذى ينادونك به (اسم الشهرة… وكل اسم هو للشهرة)، خوفك على العين والرأس ولكن هروبك المبرر بالتواضع مرفوض تماما.
و. خليل: إنى شخص كسول يرهقنى الرد وتفنيد الحجج…. …. لكنى لا أميل للكتابة حاليا، الكتابة لا بد أن تكون جزءا من قرار واختيار.
الرخاوى: لا الكسل مبرر، ولا شرف وجودنا ولا تأجيل القرار إلى حيث لا قرار بعذر عن مسئولية الإمساك بالقلم والجهر بالقول، ومع ذلك فقد كتبت وفندت الحجج، وآلمت غريمك وآلمت نفسك وآلمتنى معكما، ولم يفلح كسلك أن يرحمنا جميعا من قلمك، كما لم يفلح يقين غريمك أن يرحمه مما وراء قلمه، وما صدرت هذه المجلة- فى الأغلب- إلا لتواجهنا بأن النشر لمثل هذا الكلام ممكن، فأنت تعلم أن مثل هذه الكتابة- إذا لم تجد فرصة التواصل – تموت فى الأدراج، هذا إذا لم تمت قبل فى الخلايا الرمادية، والفكر يتضاءل فى ظلام الوحدة، ولكن هذا هو كلامك منشورا، ولا بد من تحصيل الفاتورة كتابة والتزاما ونظرا ومعرفة.
و. خليل: قبل أى شيء وبعد أى شيء فانى أرى الجنون معرفة، معرفة مختلطة بأشياء أخرى ولكنها معرفة، وأنى أتعرف حاليا على الجانب منى الذى يود أن يعرف عن هذا الطريق… … .. وقد يطمئنك أن أملى أن أجن وأنا عاقل.
الرخاوى: الجنون معرفة!! ليكن، ولكن لماذا تسميه جنونا إذا؟ وحكاية حكمة المجانين أصبحت قديمة، لأن القول الأصح هو أن نأخذ الحكمة من أفواههم- لأن حكمتهم – رؤيتهم – لاتتخطى حدود شفاههم، والمعرفة ليست صورة ساكنة أو حركة شفاه مهزوزة مهما بلغ صدق ما تنطق به، إنى أفضل أن أتصور المعرفة فعلا وليست اسما، عرف يعرف فهو عارف، والمنطقة التى تتحرك فيها رغم ثرائها هى من أخطر مناطق الوجود، وهى هى التى أخافت صديقنا السماحي، فهل أحذرك من اللعب بالنار، وهل تسمع؟ وكيف أفعل وقد وقفت عكس هذا الموقف مع السماحي؟ أنا لا أملك إلا أن أرفض الصمت والوحدة ثم أقبل بكل مغامرة ولقد كتبت فـ…
و. خليل: (مقاطعا): – (إن) “من يكتب” يعرف، وإن لم يذب ما يعرفه فى دمه لعل الكتابة كلها تنقلب محاولة للهرب من الكاتب.
الرخاوى: دعنى أكمل سامحك الله، وعلى كل فها أنت ذا توافق أنه حتى الكتابة قد تنقلب هربا ثم تتكلم على ذوبان المعرفة فى الدم فما رأيك فى إنبعاث المعرفة فى الفعل؟ إن هذا يعنى أن تكف عن الإعلاء من دور معرفة الجنون حتى لو لم تجد لفظا أفضل، فالجنون توقف وتناثر (وهو يشمل التبرير والتحوصل والتليف والتبله والبلادة فى النهاية.. الخ)، ومعادلتك الصعبة أن تجن وأنت عاقل تجعلنى أصدقك ولا أطمئن من كثرة إنبهارك بالتجربة الكلية كما لا أطمئن إلى دورانك حول المعرفة المطلقة مع قلة الدفع وخطورة الكسل، الجنون على العين والرأس والمعرفة عن طريقه هى معرفة فنية فى المقام الأول (إنظر كيف تناولها د. مجدى فى هذا العدد)، وكأننى أدرك مقصدك وأرفض ألفاظك، أحترم إصرارك على الممارسة ولا أراها تخرج أبعد من جلد رأسك. وكل هذا مما أرعب السماحى وجعل رائدا مثل جانيه يرفض المعرفة عن طريق الفلسفة وهو من تعلم حجما وتاريخا.
و. خليل: أليست الممارسة إنغمار للكل ومغامرة للكل فى التجربة، من ذا الذى لا يخاف منها؟
الرخاوى: خف يا سيدى كما تشاء ولكن إياك والهرب أو التوقف تحت أى عنوان.
و. خليل: … يبدو أن الهروب فى الجنون أو الفن “ملعوب”.
الرخاوى: قلتها بنفسك… فما الحل إذا؟
و. خليل: إنى أعتقد أنه خلافا للوسائد الإنسانية والعواطف البشرية الرقيقة نخفى العلاقة التى طرفاها كل يريد أن “يعرف” فنحن نحتاج إلى التمهل فى تأملها وهى تعكس مطلق النهم الإنسانى للوجود ككل فى نسبية الأشواق الشخصية ككل الأشواق وخاصة المعرفية فى الإنسان.
الرخاوى: فى تصورى أن هذا النهم المعرفى هو محور الوجود ذاته، وهو يبدأ مع غريزة (أو إنفعال) “التطلع” (2) عند الأطفال ويستمر حتى يصبح وقود الإبداع والكشف الفنى والبحث العلمى والمشاهدة الصوفية جميعا.، ولكن هل تتصور أنه نهم للمعرفة لذاتها؟ أم أنها الوسيلة الوحيدة للعقل الأكمل والوجود الأحق؟ إنى أراك مجذوبا- ولا مؤاخذة- تدور حولها تريد أن تعرف وأن يعرفك آخر، ولا أشك أن هذا هو أبسط حقوق الموجود البشرى ولكن كبداية يا عمنا وفاء…
نعم بداية .. مجرد بداية بعدها بدايات بلا حصر، وأخشى ما أخشاه أن تظل “حلقات الذكر” المعرفية تدور وتدور وتدور (إنظر آمال “ماجى لبيب” بعد قليل) وإذا بالمسألة تصبح إستمناء بالوجود الكلى كبديل عن ديكورات قفص العقلنة الذهنية المذهب، ومن روعة الكلية المشلولة إلى ديكورات العقل المزركشة يا قلب لاتحزن. أو فاحزن وولول ما شئت، يا عم وفاء إن صدقتنى فهيا نرجع البصر على مهل .
و. خليل: التمهل فى التألم مؤلم.
الرخاوى: وما الألم؟ ما هذا الألم؟ أليس هو علامة الحياة ودافع المسيرة لو لم نكتف بالغنج العقلانى حتى لو دخل معمل التجارب، أو بالتنويم الذهولي… حتى لو لبس مسوح أدعياء التصوف؟
و. خليل: ما رأيك فى التعرف بالقلب؟ الحلاج المقتول.. السهر وردى المقتول.. النفرى المقتول. يا ترى ستقوس على معرفتهم؟
الرخاوى: لم توجه إلى السؤال، وإلى أن يجيب د. السماحى إن كان سيفعل، فإنى أستغل سلطتى التحريرية لأقول: رحم الله الجميع ولكنا نعيش الآن عصرا مختلفا، ولم تعد الأقمار الصناعية والمخابرات على الجانبيبن تسمح بمحاكمة سقراط أو الحلاج لأنهم يئدونهم أطفالا أولا بأول، وأصبح الإستشهاد الصوفى ثمنا لمعرفة أو دفاعا عن حق لا يحق له أن يكون نورا فى وجه البشرية، فعلى أحسن الفروض هو لن يعدو أن يكون خبرا فى صفحة الحوادث أو الوفيات أو فى أقل القليل قد يثير فكرة لكتابة مسلسل تليفزيونى سخيف، أو قد يكون رقما ضمن أرقام دراسات الإنتحار الإحصائية، فهل يجرؤ بعد ذلك أى صوفى أن يستشهد دفاعا عن قضية أو ثمنا لرؤية لاهربا من مسئولية، وهل سيصل معنى استشهاده إلى الجالسين حول الشاشة الصغيرة أو الغارقين فى المسرح الكبير، إن المعرفة بالقلب لا بد وأن تجد الصياغة والجنود واللغة وأن تقبل التحدى بالممارسة والرجال فى معاقل الفكر ومؤسسات العلوم ومعابد الفنون ثم على أرض الحياة وسوف تكتشف أن القلب فى العقل، بل هما واحد فى “الكل” الذى تتمايل نهما لاحتوائه لتكونه ليكونك، وهذه المجلة قد صدرت لتخرج هذا الأمل إلى واقع متواضع مهما كانت إمكانياتها ضئيلة وطريقها كما تري.
والآن هلا عدنا إلى ما أشرت إليه عن موقف المجلة أثناء حوارك مع السماحي؟
و. خليل: .. نمسك بالتقديم الذى قدمته المجلة… “نشعر أن الحديث حول الدين ينبغى أن يفتح على مصراعيه لكل صاحب فكر يتحمل مسئولية شرف وعيه”.
الرخاوى: (مقاطعا) ثم تساءلت عما إذا كان الكاتب (السماحي) يتحمل خوفه وحيرته باعتبار أنهما إذا كانا نتاج معاناة واقتحاما للغموض يكونان هما شرف الإنسان، وأنا معك، ولكن هل ننتظر قبل النشر لنحكم على إنسان يحاول فى شجاعة قبل أن نعرف ماذا يحاول، وإلى أى مدى سيستمر فى المحاولة؟ أليس علينا دائما أن نغامر؟ وأن نفترض وباستمرار صدق البداية واحتمال جدية المعاناة؟ فاذا استمر واستمررنا معه وبه كان هذا هو هو شرف وعينا جميعا، وعلى من يتوقف أو يكسل ويدعى التواضع أن يضع نفسه حيث رضي.
و. خليل: تقول المجلة: ولا يضار الدين الحق بمحاولة السعى نحو الحق فالسؤال حاليا (موجها للسماحي) أين كتابتك نفسها (ناهيك عن نسيج وجودك) من الدين الحق.
الرخاوى: إن من أخشى ما أخشاه هى تلك الألفاظ التى إستعملناها ونستعملها فى حديثنا عن الدين الحق وما إلى ذلك، فكل صاحب دين يتصور أنه الدين الحق، ولكن الذى حدث أننا كففنا عن السعى نحو “الحق” أصلا وأصبحنا ننتظر أخباره فى صحف الصباح وفى خطبة الجمعة أو الأحد، وفى “روشتات” الأطباء وعلى أحسن الفروض ونحن ننتشى – إسقاطا- بالإغتراب الفني، أما السعى نحوه، أما الكدح إليه “فتلاقيه” (يا أيها الإنسان إنك كادح إالى ربك كدحا فملاقيه) فهذا هو الجنون ذاته… هكذا يقولون، فهل نستسلم؟ .. هل نكسل..؟ هل نتباهى كل من موقعه؟ أم نستلهم الشجاعة ونتوكل؟ لقد حاول السماحى أن يكون شجاعا، ولهذا- مع كل الإختلاف- نشرنا له وسننشر له ولك ولكل من يحاول بصدق مناسب دون حكم مسبق أو نهائي.
و. خليل: هل هو مكافأة لشجاعة الحديث فى هذا المجال الحساس؟ أم هى فرحة بالدكتور الذى يرى خارج مجاله؟ أم أن السبب غير ذلك.. لعله فى المقطم الجبل الصامت.
الرخاوى: ولم لا تكون مكافأة للشجاعة وفى نفس الوقت سعيا إلى حوار كما حدث فعلا؟ ولم لا نفرح بالدكتور الذى يتكلم خارج مجاله وقد سجنتنا لعبة التخصص الحديثة بنفس الدرجة التى رعبت أنت منها من جراء التقسيم الجزئى للعقل البشرى الكلى الجبار؟ أما حكاية المقطم فنحن أحرص ما نكون على الحذر من الثللية إن إستطعنا- وفى نفس الوقت نحن أعلم بعجزنا عن الإنفتاح…، والله المستعان…، إن ما نتصوره مفيدا فى مرحلتنا هذه هو مجرد فتح ملفات ثلاثة (1) الحق فى التفكير (2) الفرصة للتعبير، وأخيرا (3) ضرورة الإستمرار، وقد نتنازل عن القيمة العلمية أو الفنية كما ترى فى مقال تأكيد هذه البديهيات التى لا بديل عنها والتى ترعب من يقترب منها رعبا يجعله ينحرف إلى أقرب مصطبة ساكنة، أنت شخصيا تتصور أن السكينة هى اليقين وتسأل عن إحتمال وجودها فى الحياة حتى لا نقصرها على الموت الذى لا نعرفه إلا إشاعة مغلقة عن أى خبرة مستعادة، وأكاد أتصور أن المطلوب الحقيقى هو “الحركة التوازنية المستمرة” لا “السكينة”.
و. خليل: …. بحث مضن عن السكينة بحث يأمل فى عدم التضحية بالوسائل (العلم على مذبح الغاية- اليقين أو حل اللغز الفردي) مع فسحة داخلية ميتافيزيقية تشمل تصورا للسكينة…
الرخاوى: ليكن البحث عن السكينة هو إعلان ألم اللاتوازن، إلا أن السكينة من السكون، وحتى اليقين الذى يتصوره السماحى فى التجريب المعاد وتتصوره أنت فى الكل الغامض الممكن معا” ويتصوره غيرك فى الموت.. الخ، هذا اليقين هو إعلان للإرهاق من عنت الحركة غيرالمتوازنة وخليق بنا أن نبحث عن “التوازن القلق” الذى يحمل فى طيات تناسقه عدم الإستقرار المولد للطاقة والدافع للفوق دائما أبدا، بدلا من أن نبحث عن السكينة : ننتظرها أو حتى نسعى إليها رغم أشواق فرويد لغيبوبة النرفانا.
و. خليل: هناك فى الأفق الرحيم يكون الله الرحيم تقابله فتقول لك ذراعيه أهلا، تجيء إليه محملا خفيفا معك الآخرون، وأنت الآخرون.
الرخاوى: ولكنك يا “سيد العارفين” لا تحتاج لأن أذكرك أنت بالذات من واقع مقالتك أن “هناك” يبدأ “هنا” وينتهى “هنا”، وأن التوازن ليس لعبة بشرية فردية ولكنه قانون كونى شامل يمثل فيه الإنسان وحدة يقال أنها كون كامل بشموسه وأفلاكه ودوراته، وكما هو نحن، فنحن هو… والله أعلم.
و. خليل: نسيت الضحك… فى صدرى من أعماق الأعماق كلمة “يا رب” .
الرخاوى: ….
والآن أستأذنك رغم إغراءات ألفاظك واستطراداتك وابتهالاتك وصورك الفنية لأرد على طالب كلمة، لا أعرفه ولا أوافقه ولكنى أريد أن أعترف به.
و خليل: لا دموع.
مصطفى فتحى: والمعادلة الإرشادية للطاقة النفسية
مصطفى: تتبنى مجلتكم نشر الآراء الجديدة، وإنى أرجو من سيادتكم إعطائى فرصة النشر…، فى أول مقال تحت عنوان “المعادلة الإسترشادية للطاقة النفسية”
الرخاوى: خيرا؟
مصطفى: لو أصر السابقون على عدم قياس أى ظاهرة إلا بعد فهم أصلها لما كان أى علم، فالكهرباء لا يفهمها أحد ومع ذلك فجهلنا بالظاهرة لم يمنع قياسها، وتوجد الآن آلاف الأجهزة التى تقوم على ظاهرة لم نفهم معناها بعد.
الرخاوى: حصل، والآن ماذا عندك؟
مصطفى: من هذا المنطلق فاننى أتقدم بمحاولة متواضعة لوضع معادلة استرشادية للطاقة النفسية وهى على الصورة التالية:
الطاقة= الطاقة الداخلية (الطاقة الجنسية + الطاقة العدوانية) + الإنفعالات.
الرخاوى: ولكن من أنت يا مصطفى أولا؟ أرجو أن تكون تابعت على صفحات المجلة هذا المأزق الذى نعانيه من جراء هذه الإفتاءات الدامغة دون جذور أو إحاطة أو تجريب، وكيف لا أعذر السماحى فى خوفه منك وأنت تسمح لنفسك – وها نحن نسمح لك- بأن تدلى بدلوك دون شروط مسبقة، فمثل هذه الفتوى قد يسمع لها إذا أتت: (1) من واقع خبرة معاشة فى المجال الذى سأفتى فيه، والخبرة فى مجال البشر لا بد أن تكون مساحة هائله من الإحتكاك بالبشر وعمق حقيقى فى مواكبتهم، (2) أو من واقع خبرة ذاتية حتى ولو كانت جنونا، فإن صدقها فى وجودها المباشر، وهى ذات معالم مخترقة أصيلة بطبيعتها ، وعيبها الأول هوالعجز عن التعبير والتوصيل (3) أو من واقع تجربة فى ظروف علمية مضبوطة (4) أو من واقع حجم معين فى الإطلاع والإبداع المتسق فى ذاته، أما هكذا، فخذ عندك من السماحى ومنى وممن لا تعلم حتى لو قلت الحق عينه، على الأقل عرفنا بنفسك أولا وموقعك الذى تفتى منه، ومع ذلك:
ليكن، ولكنك بدأت بمفاجأة تحتاج إلى وقفة، كما أجد نفسى ملزما بإيضاح ، والمفاجأة هى أنك تتحدث عن “الطاقة”، وأعتقد أنك على حق، وأن ما وصلت إليه بحدسك قد يكون عين الصواب، ألا أن العلم له موقف آخر، فقد اعتبرالعلماء التقليديون الحديث عن طاقة نفسية هو ضرب من الميتافيزيقيا، ولم يعترف السلوكيون إلا بالسلوك، وتجنبوا (أو قل أغلبهم) كل ” ما يدفع”، فما بالك وأنت تتكلم عن كمية الطاقة وتصيغها فى معادلة جبرية؟
مصطفى: … الذى أقصده من الطاقة هى الطاقة الناتجة من إحتراق الطعام فى الجسم وهى التى تتدفق فى حالات أربعة (1) تغذية أعضاء الجسم والأحاسيس الخاصة بالجسم من متعة وألم (2) الجنس (3) العدوان (4) الإنفعالات المصاحبة لتحقيق أو كبت الجنس والعدوان.
الرخاوى: يا سيدى واحدة واحدة، ماذا تفعل وأنت تحس بالطاقة وتقسمها وهم ينكرونها، لقد أنكروها حتى أنكروا الغرائز والدوافع أصلا ، وقد وقفت شخصيا أمام هذا الإنكار طويلا حتى كدت أقتنع به، لكنى إنتهيت فى النهاية إلى تقسيمى للوظائف النفسية معترفا بالوظائف الدوافعية ككيان قائم بذاته، وتشمل الإنفعال (والعواطف) والدوافع، وكدت أقع فى خطأ مشابه لما وقعت فيه أنت من الخلط بين الطاقة السعرية الناتجة من التمثيل الغذائى والطاقة الدوافعية، وانتهيت مرحليا إلى إعتبار أن الطاقة النفسية ليست كما مخزونا من وحدات لا نعرف طبيعتها ولا هى نتاج توليد تمثيل غذائى ولكن الأرجح أن تكون “مردافة لتنظيم نيوردنى معين، بترتيب جاهز للإطلاق لإصدار سلوك معين” (3)
أقول: لقد خطر ببالى ما خطر ببالك من أن أربط الطاقة الأيضية (المتعلقة بالتمثيل الغذائى والرباط الفسفورى عالى الطاقة) وبين هذه الطاقة النفسية، ثم تراجعت لاختلاف طبيعة كل، ولكن ظل احتجاجى على من أنكر الطاقة النفسية إحتجاجا راسخا لأنهم كانوا كمن ينكرون الطاقة الشمسية أو الطاقة الكونية بصفة عامة، وقد تحدث فرويد عن اليبيدو باعتباره الطاقة الأم (جنسية بالمعنى الأشمل) كما تحدث فى هذا العدد الأستاذ الدكتور صلاح مخيمر يتكلم عن طاقة العدوان والموت، لكل هذا رحبت بهذه اللغة منك وإن كنت تحفظت تجاه التفاصيل، وتجاه موقعك، وتجاه منابع خبرتك.
مصطفى: …. وقد فصلت بين الطاقة الداخلية والطاقات الأخرى على إعتبار أن الطاقات الأخرى هى الغايات الإجتماعية التى يتعامل بها الإنسان مع مجتمعه.
الرخاوى: أكاد أحذرك من مجرد إبدال لفظ محل لفظ وكأنك عثرت على فكر أصيل فمثل هذاالحديث ينطبق على الدوافع البيولوجية فى مقابل الدوافع الإجتماعية… الخ ولاجديد، وليكن إحترامنا لمفهوم الطاقة أشمل وأعمق، وليكن مكسبنا من الإعتراف بمفهوم الطاقة هو معرفة أشكال مساراتها وبدائلها
مصطفى: … فإذا كبتت الرغبة الجنسية فان الطاقة تتجه نحو العدوان أو الإنفعال، أما إذا كبتت الرغبة العدوانية فإنها تتجه نحو الجنس والإنفعال وهذا شأن المرضى النفسيين بصفة عامة.
الرخاوى: أليست هذه هى ظاهرة “إزاحة النشاط” التى أشرت إليها فى موقفى من نظرية أ.د صلاح مخيمر، وعموما فشكرا أنك تعيد إكتشافها بهذه البساطة، ولا أشك أنى أفرح لإعادة اكتشاف المعروف رغم دلالته على الجهل- ولا مؤاخذه- لكنه أيضا يدل على أصالة التفكير، وعلى أننا – حتى غير المختصين منا- قادرون على الوصول إلى نفس الحقائق.. لم لا؟ وسيأتى اليوم الذى نكتشف الجديد الجديد بعد الإستيعاب الذى يرحمنا من قصور الجهل، – وما دمنا بشرا- لنا حق الإكتشاف وحق الإعتراض ولا يهمك.
مصطفى: … وهذا الخطأ قد صور لفرويد أن المرضى النفسيين تكون مصادر أمراضهم جنسية ، و هذا غير صحيح اذ أن نتيجة المرض هى الجنسية و ليست السبب ، اما السبب فهو كما قال أدلر من أن السبب هوكبت غريزة العدوان وهذا واضح من المعادلة.
الرخاوى: وماذا أضفت أنت إذا؟ مادام “أدلر” قالها ولم تقل لنا أين الإضافة بالضبط، وإنى أدعوك أن تقرأ بحثى الإبداع والعدوان الذى صدر فى هذه المجلة العدد الثالث سنة 1980، وبحث الدكتور مخيمر الذى إقتطفنا بعض فقراته فى هذا العدد، ثم بعد ذلك تقول لنا أين الإضافة وأين الجديد: لو سمحت، وكلامك بعد ذلك عن الأمراض السيكوسومائية يقع تحت نفس التكرار.
……………..
ويا عزيزى مصطفى لقد رحبنا بك فى الحوار لنثبت شيئا أساسيا وهو أنه من حقنا أن نفكر حتى لو لم نأت بجديد، ولكن من واجبنا أن نقرأ ونستوعب ونستغرق ونعانى ونراجع وننتظر ونفكر وتفكر فيأتى الجديد، طريق التفكير شرف والإستسهال عار، والغرور قبح، والبداية من حيث انتهوا لا بديل لها، ماذا وإلا سأسلط عليك د. السماحي… ولك تحياتي.
جاد الرب… يعين نفسه دكتورا
(الدكتور مجر)
وصلنى من الصديق جاد الرب صاحب فضل السبق مجاميع الأوراق المليئة بالكلام الفحل والآمال الأنهار الفيضانات والهجوم والتخطيط والمودة والألم، وطلب من الرسول بيننا أن أكتب له مقدمة لكتابه، وحين سألت الرسول عن أى كتاب يعني، أجاب “الكتاب الذى ننشره فى المجلة” وحين قلت له أنى لا أنشر كتابا للصديق جاد الرب وإنما أنشر “كتابة” بدأت بمقتطفات كاملة وتعليق مطول ثم إنتهت إلى هذا الحوار الموازى لمثله مع آخرين مثله وغير ذلك، حين قلت ذلك وأصر الرسول على الرسالة سلمت أمرى لله ورجعت لعشرات الأوراق التى وصلتنى من جاد بعد صدور العدد الأخير (إبريل 1981) ووجدتها تكفى كتابا كما يسميه ولكنى عدت أحاول أن أختصر جاد الرب فوجدتنى أكاد أوجز موقفه كالتالى “يعيش البرت شفايتزر وأخناتون والرسل والمحبون والرواد ، ويحيا الحق …. لأنهم أناس تمام ومخلصون طيبون يحبون الإنسان وأنا إنسان وأحب الإنسان … وأحبكم… يعيش يعيش يعيش”.
الرخاوى: وهذا عتابى عليك يا جاد … ومع ذلك فكل التفاصيل التى تموج بها كتاباتك هى فى حبة عينى ولها كل إحترامى ولكنى أخشى أن تكرر نفسك فأكرر ردي، فليعذرنى القارئ ان فعلت رغما عنى، وليعذرنى جاد الرب إن لم أفعل راجيا ألا يتراجع نتيجة إصرارى على تجنب التكرار، فما قولك؟
جاد الرب: هو حوار مفيد على أية حال، ولهذا أفكر فى دعوتك إلى أتيليه القاهرة، هناك ندوة أدبية مساء كل أربعاء، سوف أقرأ أمامها ذات مساء رسالتى هذه …
الرخاوى: عندك عندك… دعنا ندخل فى موضوع اليوم مباشرة، دون أتيليهات ولاتلكسات، ولا نهر بدلا من الشهر، ولا تقويم جديد.
جاد الرب: إن كل من يرفض مبدأ إعادة بناء تقويم الزمان يرفضنى والذى لا يصادق هذا المبدأ لا يصادقني.
الرخاوى: لا وألف مرة لا…، سوف أصر على رفض ما لا أراه مفيدا أو جديدا أو مقنعا دون أن أرفضك مهما قلت وسافرت وعدت “وتلكست” وأرهصت وأشرقت، فلا تلو ذراعى فمن حقـى أن أرفض الرأى دون صاحبه مهما هددت وتوعدت.
جاد الرب: إن المناداة ببناء تقويم جديد للزمان كالمناداة بوضع مفتاح “صول” فى مقدمة أى قطعة موسيقية وسوف يكشف لنا المفتاح إذا كان هناك لحن أو قطعة موسيقية أم لا، ويجب أن نضع أسماء مارى كورى وبرستيد و (ذكر اسمي) بدلا عن يناير وفبراير لأنها دعوة للفهم.
الرخاوى: يا ذى الأسماء والبدائل والشهور والنهور، ألا تشبع أبدا يا جاد من تغيير اللافتات على أمل تغيير المحتوي؟… هه أنا لا أوافق ولن ألتفت إلى ندائك.
جاد الرب: (إذا) نداء إلى توت عنخ آمون:
إستيقظ أيها العليل .. أنت يا من تنام، لقد رفعوا رأسك ناحية الأفق، اظهر، لقد ظهر حقك ضد الذى أساء إليك وصرع بتاح أعداءك.. وأمرك أن تنشط ضد الذى تصدى لك، أنت حورس ابن حتحور، الذى أعيد إليه رأسه، بعد أن قطع، ولن تنزع منك رأسك فى المستقبل، لن ينزع رأسك أبد الآبدين.
الرخاوى: يا ترى إلى متى ستتوه وسط دهاليز التاريخ يا عمنا جاد، ومع ذلك بغير تاريخ لا يوجد حاضر، ولكن هل تعود رأس بعد أن تقطع؟ وهل يعود فكر ينبض بعد أن ينكر ويتجنن صاحبه لمجرد إنكاره؟ ودائما يا جاد تنادى بالعودة، وأنا ضد أى عودة إذ أننى مع كل أمام، وهذا عنوان كتابك الجديد ” عودة توت عنخ آتون” يصر على العودة تأليف دكتور “مجر” وحوار العبد لله وتصوير عدلى رزق الله، وقد عينت نفسك دكتورا بكل بساطة بعد أن أعلنت فى العدد السابق (ص 112) أنك لست دكتورا فى أى شيء، ورغم تنبيهى لك ألا تنتظر الحل الدكتورى يأتيك فى مؤتمر أسطورى ومع ذلك فقد فضلت أن تأخذ الحروف الأولى من إسمك “محمد جاد الرب” وتمارس الدكترة الطبية النفسية مباشرة.
جاد الرب: كيف أصبح محمد جاد الرب فوجد نفسه الدكتور مجر فحسب، كان الدكتور يحيى الرخاوى يرفض دائما يسمع رأى مجنون بالعمل فى حقل الطب النفسى إلى أن عاد أحد أصدقائى من باريس (نجيب شهاب الدين) ليؤكد لى أنهم هناك قد تطوروا إلى درجة منح المريض النفسى الذى يواظب على التردد على عيادات أطباء النفس 7 سنوات يمنحونه بكالوريوس فى الطب النفسى وتصريحا بفتح عيادة للمرضى الجدد، وكان الدكتور يحيى الرخاوى يرفض ذلك ولما كانت باريس هى المدينة التى تعلم فيه الدكتور يحيى الطب النفسي، لذا فإننى أتصور أنه الآن قد أحيط علما بهذا التطور الإدارى الطب نفسي.
الرخاوى: لوكنت تتكلم عن شخص غيرى لصدقتك، ولكن يا سيدى إن هذه الفكرة 0الإستعانة بالمرضى السابقيين فى علاج المرضى الجدد) هى فكرة قديمة قدم المثل القائل “إسأل مجرب” ولم أكن فى حياتى ضدها، أما أن ينفرد مجنون (كما تقول) بفتح عيادة لمجرد أنه تردد سبع سنوات أو سبعين (دون معرفة كيف انتهى تردده وإلى أين؟) فهذا ما أشك فيه فى فرنسا أو بلاد الواق واق، وأذكرك يا سيدى أنى لم أتعلم علمى فى باريس، بل فى بلدى هنا من عصير ألم أهل وطنى ونفسي، وحين ذهبت إلى باريس وقد قاربت الأربعين اطمأننت يقينا أن كل ما تعلمته بنفسى فى وطنى هو علم أى علم، هذه هى علاقتى العلمية بباريس، أما دور مهمتى فى باريس فى نمو فكرى عامة فهذا أمر آخر ولست أعرف ماذا ستفعل بشهادة بكالوريوس الطب النفسي؟ والتى قلت فى موقع آخر أنك ستزورها إلى دكتوراه؟ هل صدقت أنها “بلد شهادات”؟ وهل رضيت بعطاء حاملى الشهادات حتى تحذو حذوهم دون شهادة، وسواء كنت جاد الرب، أو الدكاترة (مجر) فأنت أنت، فما رأيك؟
جاد الرب: فى مثل هذا الزمان الفاشى لا قيمة لا سمى فى ذاته ولا سمك فى ذاته وعليه فليكن كاتب هذه الأوراق: الدكتور مجر منذ اليوم وإلى الأبد، وربما زال النحس بهذه التميمة الجديدة التى وجدتها مؤخرا فما رأى الدكتور المعالج؟ إننى سوف أجد بهذه الشهادة يا سيدى الفرصة لافتتاح عيادة للطب النفسى فى باريس… صحيح أنهم فى القاهرة قد لا يفهمون لكنهم فى باريس- ما دمت لا تعض المارة- فلا داعى لأن يعضوك.. هنا سوف يقولون أن ختم (صقر قريش) غير موجود على الأوراق أنا أسأل عزرائيل شخصيا:
- هل يرضيك هذا يا سيدى عزرائيل؟ هل يرضيك أننى أعيش فى دولة لا تزال تستخدم تميمة قريش التى قضى عليها نور الإسلام الحقيقي؟ هل يرضيك هذا يا سيدى عزرائيل؟
إمضاء (دكتور مجر).
الرخاوى: الآن من حقى أن أرجح أنك فنان تمزح وتتحدى بريشتك ، فقد كدت أصدق ما تقول عن شهادة البكالوريوس والدكتوراه، ولكن ما دام الأمر سيتم فى باريس ومادمت لن تعض الناس، فمنك إلى صديقنا متران، ومبروك عليه الحكم ويا ويله من الممارسة، ومبروك عليك الدكتوراه… ويا ويل أحدنا (أو كلانا أو كلنا) من سوء الفهم.
جاد الرب: ليس من حق القاريء أن يندهش أو يحتج على إتخاذى اسم وصفة الدكتور مجر، فلقد سبق أن عملت ما هو أشنع إلا وهو الإدعاء بأن الكاتب السويسرى العظيم “فلافين جان جاه” سوف يزور القاهرة بصحبة قرينته رئيسة جمعية أبو الهول العالمية للصداقة النرويجية السويسرية المختلطة، ولم يكن هناك كاتب بهذا الإسم (فلافين جان جاه)، ولم تكن هناك قرينة ولم يكن هناك أبو هول سويسى أو نرويجى مختط، وإنما كان هناك العوز الشديد المغلق، والإفلاس الصحفى فى نفس الوقت، كان سعر الخبز شلنا واحدا، وكنا فى أوائل الستينات، وما كنت لأفهم كيف يمكن لى بشلن واحد أن أركب مواصلات بحثا عن الخبر الواحد اننى أكتب هذه الكلمات بعد أن قرأت مقالة الدكتور “شكرى محمد عياد” بمجلة العربى عدد 1981 وفى صدر المقال قرأت هذه العبارة:
”الشيء الذى لم يتغير أبدا فى هذا النظام العالمى الجديد هو الفرد المقهور المرعوب الذى تلاحقه السلطة حتى وهو فى الفراش وتسجل عليه حتى الخواطر والأفكار”
ولم يقترح الدكتور شكرى عياد حلا لهذه الأزمة، ولكننى أقترح عليك أيها القاريء أن تحترف الكتابة والأدب وأن تغير إسمك، فيكون أن النظام العالمى الجديد يحتار فى أمرك، ويكون أنك تنفذ بجلدك كما تنفذ أسماك “السلمون” بجلدها وسط البحر المحيط لأن النظام العالمى سوف يهجم على سريرك باعتبارك “محمد جاد الرب” لكنه لن يجدك بعد أن أصبحت الدكتور مجر أو الدكتور فلافين جان جاه.
الرخاوى: بالذمة ماذ أقول لك؟ لكنك كسبت هذه الجولة فأنا لم أعد أعرف معك متى تجد ومتى تهزل، ولا أين الصورة الفنية االكاريكاتيرية من الإقتراحات التنظيمية العالمية، ولست متأكدا إن كنت أنت شخصيا قادرا على مثل هذا التحديد طول الوقت، وما زلت أحترم محاولاتك وأرفض كل ما عدا ذلك، وأرفض بوجه خاص ما تفعله من هذا التكرار، ودعنا نسميه “الوقوف على الأطلال” رغم أنك لا بد ستهب تنفى عن أصدقائنا الراحلين تهمة أنهم أطلال.
جاد الرب: لقد قال لى صديقى الفنان “جودة خليفة” يوما أننى قد تحدثت بما يكفى عن إخناتون وثورته، ولابد لى من البحث عن موضوع جديد لأننى زودتها كثيرا، وأقول للفنان جودة خليفة “أيها الأخ الكريم لقد ضحى عيسى الناصرى بنفسه من أجلنا فكيف ننساه؟ ولقد ضحى إخناتون وتوت عنخ آتون وأى بأنفسهم من أجلنا ومن أجل الناس فى كل زمان أو مكان فكيف ننساهم؟ الواقع أننى مطالب بالإعتذار عن التقصير فى حقوقهم علينا.
الرخاوى: لا يا عم .. أنا مع صديقك جودة خليفة فى هذا التحذير طول الوقت، إذ أن مجرد التكرار هذا لن يقدم ولن يؤخر، بل لعله سيفرح من لا يهمه الأمر، لأنهم مشغولون بأمور أهم أنت أدرى الناس بها، فأنت خير من يعرف الإهتمامات الحديثة فى التدريب على طريقة لف الشال على العمائم السياسية، واحتكارات مصادر التفكير، وحظائر تسمين العقول.. وكل هذه المشغوليات لا تجعلهم يلتفون إلى قصائد مديحك الراحلين، أو نداءاتك على سمك السلمون Halloo Salamon أو تلفيقك لأسماء زوار أجانب التقطت أسماءهم من اسم نوع خيط فى “فترينة” مزينة، ولن ينفع أن نشد الرحال وندعو فلاحى مصر لنزور سيدنا توت عنخ آتون كما نزور سيدنا الحسين، قد ننتبه من خلال سخريتك وتعريك… ولكن هل يكفى مجرد الإنتباه؟ هل التغيير الذى نأمله ويؤذن به سيدنا شفايتزر وتنصب له سيادتكم حلقة الذكر حول مقامه يمكن أن يتم بهذه الكلمات؟ أوحتى بالحديث الحماسى وقصائد الشعر عن التطور والحضارة؟ الكلمات يا جاد أصبحت أكثر من خدعة واسمع معى:
ماجى لبيب وهى تريد أن تتطور
ماجى لبيب: الخيط الوحيد الذى يمكن أن يربطنى بمجلتك هو أننى إنسانة وأريد أن أتطور.
الرخاوى: أهلا وسهلا يا ماجي..؟
ماجى: هذه هى القيمة الأساسية فى حياتي، والتطور بالنسبة لى يعنى أشياء كثيرة: هو إكتشاف نفسى والعالم، محاولة التعرف على كل شيء يخصنى ويحيط بى من قريب أو بعيد. ثم التطور يعنى أن أنمى كل شيء جميل، وكل عنصر إيجابى فى داخلى وفى العالم الواسع، وأسمو وأرتفع نحو المثالية.
الرخاوى: يا ماجى لقد نزلت ضيفة على صفحات هذه المجلة فى العدد الماضى وكم كانت كلماتك مضيئة حين أغفلت تماما ذكر حكاية “التطور” هذه ، حين تحدثت عن “صوت الله” و “النبضة القوية من داخل العقل” و “الجندى المسكين الذى يجمع أشلاءه ويتشبث بآخر فى لمحة أمل”، كنت بسيطة وواضحة وصادقة وفنانة، إلا أنى – وربما نتيجة لخبرات سابقة- يصيبنى نوع من الحساسية اللاتطورية حين أسمع واحدا أو واحدة يقول أنه “يريد أن يتطور”، حدث ذلك نتيجة “أبحاث المتابعة” خلال ممارستى لمهنتى حين اكتشفت أن أحدا ممن أعلنها فى البداية لم يفعلها، ولم تكن إلا لافتة يغطى بها كسله وعجزه ويطمئن بها نفسه، وحين كتب ابراهيم عادل فى عدد أكتوبر 1980 يحذر من مجرد الكلام عن التطور فهمت أن إنذارات الخطر هذه ليست مخاوفى الخاصة بل حقيقة أحسها غيري، وقد صغت مثل هذا شعرا عاميا أصف به صديقة عزيزة، لامعة الكلمات، وقد تراجعت عن المحاولة ورضيت من الغنيمة بالزواج قلت على لسانها “… وأن كان لازم نتطور؟ نتطور.. !! ما يضرش، بس أرجع تانى لعشي، ولفندى بتاعي، أيوه بتاعى ملكي، يطوينى تحت جناحه، وأنا ما سكة الخيط بالجامد، ليطير” كتبت ذلك لأعلن فساد الألفاظ، يا ماجى التطور نتيجة طبيعية لفعل يومى متوازن خلاق وليس هدفا محددا فى بؤرة الوعي.. نسعى إليه بذاته وكأن ذلك ممكن أصلا، المصيبة التى إبتلى بها بنى البشر هى أننا وعينا باحتمال تحقيق التطور فتوقفنا دون الفعل، وطفقنا نحلم ونتكلم عن السمو والإرتقاء نحو المثالية.
ماجى: (أعلم أن) هذا طموح زائد بعيد كل البعد عن الواقع حتى يقترب من الهلوسة ولكن أليس من حقنا أن نحلم بالجنة؟
الرخاوى: نعم من حقنا أن نحلم بالجنة وأن نهلوس بل وأن نجن، ولكن الشعور بالحق لايبرر ممارسته بلا قيد أو شرط، فضلا عن تصور تحقيقه لمجرد أنه حق..
ماجى: أعرف أن التطور الحقيقى لا يكون إلا بالعقل، العقل الذى يفك ملامح كل شيء، يخضر الصحراء، يعمر الأرض الفضاء ينير العقول ويفتح العيون على كل مجهول، ولكن العقل طاقة فمن أين أجيء بها؟ أين المصدر؟ هذا ما أبحث عنه ولا أعرف هل أجده فى داخلى أم عند شخص آخر أقوى منى أم أطلبه من السماء؟
الرخاوى: قبل صفحات تكلم مصطفى فتحى عن نظريته فى الطاقة، وثار نقاش حول طبيعتها ومصدرها، ووصفت تصورى للطاقة وأنها نظام نيورونى (جزيئى فى نفس الوقت) قابل للإطلاق إذا سار الهارمونى فى ما هو معدله، وقد يكون محرك هذا النظام هو الهدف منه الذى يعتبر جزءا من ترتيبه، والبحث عن الطاقة مثل إعلان الرغبة فى التطور، كلها توقفات مرعبة رغم مظهرها الإيجابي، فالطاقة البشرية فى تصورى هى مواكبة للفعل ومتولدة عنه وليست فقط باعثة له، فهى ليست وقودا منفصلا عن التركيب البشري، بل هى هى توافق التركيب البشرى حالة كونه فاعلا، والعمل الحقيقى هو الذى تتولد منه طاقة أكبر مما بدأ به، وأعجب – أحياناـ لمن يريد أن يرتاح بعد العمل، وأتصور – كثيرا- أن العمل هو الراحة الحقيقية، وما التوقف عنه إلا إعداد لتنظيم فاعل جديد، وتصورى عن الراحة والعمل هو تناوب نوعين من التنظيم ، وليس تناوب إرهاق وسكينة، أو نشاط وكسل، وأتصور أن القعود والكسل أكثر إرهاقا من التنظيم والعمل، فهل صدقتنى يا ماجى فى وجوب ألا ننتظر العثور على الطاقة لنشغل أجهزتنا البشرية، بل نبدأ فى تشغيلها ولو “بمانيفيلة” العناد للاستمرار، وستتولد الطاقة من واقع التناسق الهارمونى الفعال
ماجى: إن ما أعرفه الآن جيدا عن نفسى هو ضعفى وعجزى وجهلى وما أريده بكل إصرار هو القوة والطاقة والمعرفة، أريد أن أكون شعلة من الذكاء والحركة، وهذا هو مفهومى للتطور فهل تقول لى كيف يكون ذلك؟
الرخاوى: طبعا لن أقول لك أكثر مما قلت، وأعلن خيبة أملى – ولا مؤاخذة – إذ شعرت وأنت تقولين: “أريد أن أكون شعلة من الذكاء” أنك طفلة لا يعتمد عليك، فاعذرينى: ولنبدأ بأبسط الأشياء، ثم يأتى التطور وحده، أو لا يأتي، فحسابات المستقبل لها قوانين أخرى تخلقها من واقعها.
وتصبحين على خير.
[1]- نلاحظ على صفحات المجلة عامة وفى هذا الباب خاصة أن مشكلة “طبيعة المعرفة” قد احتلت مكاناً خاصا، ويبدو أن ذلك يعنى ضمنا أنها فعل يومى ينبغى علينا الإحاطة بطبيعته ومخادعه، وأنها ليست قضية فلسفية متخصصة ممنوع أن يخوضها سوى مختص، فبدون أن نعرف ماذا نعرف سوف تظل سراعاتنا تدور حول كيان مجهول نستعمل فيه ألفاظا مهزوزة بلغة خطرة.[2] – مازلت أجد صعوبة فى ترجمة هذا المعنى الخاص وهو أحد معانى كلمة Orientation التى تشمل الرؤية الجديدة والادراك والتطلع والمعرفة الأولية والتوجه والتألق معا.
[3] – ى. الرخاوى “دليل الطالب الذكى: فى علم النفس” ص 72، وأضيف هنا على “نيورونى” احتمال أن يكون الترتيب “نيورونى جزيئى وحتى ما دون ذلك مما لا نعرف”، القاهرة، دار الغد للثقافة والنشر 1980 .