الافتتاحية
يصدر هذا العدد فى ظروف صعبة فلا تحتاج أكبر قدر من اليقظة والالتزام، من أجل ذلك فلابد أن يصدر هذا العدد ومثله، وأن تستمر الكلمة المسئولة تسعى مهما تصور الناس عجزها عن ذلك، فما هى الا فترات من التاريخ ومواقع فى الجغرافيا تضطرب فيها الأحوال مرحليا بالضرورة ثم تعاود المسيرة تقدمها بلا تردد ولا تراجع.
وقد كنت انتهيت بالكاد من قراءة العدد الرابع من مجلة ‘فصول” منتهزا فرصة اتاحت لى ذلك، فهى مجلة تحتاج إلى درجة من التفرغ بلا شك، وجعلت أقول لنفسي، أى علامة طيبة أن تصدر هذه المجلة، وأين تقع مجلتنا من امكانياتها، وماذا يمكن أن نضيف بجوارها ومعها، حقيقة أنها مجلة للنقد الأدبي، ومجالنا موضوع آخر رغم مساحة ضئيلة من التداخل، لكن المهم الآن ليس موضوع المجلة – أى مجلة – وإنما هو عودة الجدية للكلمة، وعودة المسئولية للقلم، والقبول بالاجتهاد، والذهاب إلى العمق، وسألت نفسى: إلى أى مدى تستطيع مجلتنا هذه أن تسهم فى مثل هذا من موقعها المتواضع؟ و إلى متى نستطيع أن نواصل الصدور فى هذه الظروف الصعبة داخليا وخارجيا.
وأتلفت حولى فلا أجزع كثيرآ من ظاهر الجارى على المسرح السياسي، وإنما يملكنى تساؤل أعمق وأخطر عما وراء الجاري، فالمسألة الآن هى فى تقويم حقيقة فرص الحرية المتاحة أمام العقل البشرى هنا وهناك، فالنظم السياسية – فى كل أنحاء العالم – تتسابق مع الفكر فى اقحام مشاكلها وألاعيبها فى طريقه، فيدخل الفكر اختبار السياسة فيفشل التطبيق ويكاد ينعكس الفشل على الفكر ذاته، وتدخل السياسة فى مسار الفكر حين يصبح التلويح بأفكار شائعة بذاتها هو الوسيلة لاجتذاب الكثرة وتهديد السلطان، أو بالعكس، والقهر الفكرى تتعدد مصادره فى عصرنا هذا، فهو لا يقتصر على السلطة ولكنه يمتد إلى الكثرة وإلى الشائع، كلها مصادر قهر بلا حدود.
وهناك قهر بالازاحة، وأعنى به أن مساحة العقل يشغلها الآن كم من المعلومات الداخلة من مصادر سطحية وجاهزة مثل الكلمة المسموعة والصورة المرئية، وهذه المعلومات تلاحق العقل البشرى بشكل لا يترك له أى مساحة لانتقاء بديل مناسب، كما لا تترك له أى فترصة لإعادة توليف أو بسط أو تحريك أمامى لما إستوعب من معلومات، وقد تظل قلة منتجة عقليا بمنأى عن هذه الإغارة السطحية فيصير إليها توجيه سائر البشر من خلال تلك الوسائل، فينشأ من ذلك أن تصبح هذه القلة مسئولة – فى الخفاء – عن تسيير العالم بما تراه مناسبا، دون حوار، ولا عائد لأن القنوات تسير فى اتجاه واحد.
والنظر فيما يسمى القهر بالمسلمات يظهر حقيقة الخطر أى خطر، فحتى لو سلمنا بأن هناك مسلمات أصلا، مثل أن الدين حقيقة وضرورة، أو أن الشعب هو الحاكم، أو أن العدالة الاجتماعية لازمة، أو أن الحرية هى شرف الاسنان وقود العقل البشري، لو سلمنا بمثل هذه المقولات ابتداء فالأمر لا ينتهي، بل هو يبدأ، لأن لكل مسلمة من هذه المسلمات حواريين وكهنة ومفسرين، وهم بشر عجزة أمام الحقيقة مثل سائر العجزة البشر، فما بالك إذا أمسك بعض هؤلاء سلطة فيها مقاليد الاعلام والنشر، أو سلاح الفرض والقهر، أو شراء القدرة والفرصة؟ هنا يصبح القهر بالمسلمات مرعبا وخطيرا وساحقا ..، وواجب صاحب الكلمة ألا يقاد وراء حرب سهلة مع سلطة تخطيء وتصيب، ولكن قضيته تمتد إلى مجالات أعمق وأشمل.
وعودة إلى ما يجرى لمن أراد الأمانة مع نفسه لابد وأن يواجه مأزقا متعدد الجوانب، ففريقان من المعاقين الآن عن التعبير والمناقشة هم إذا ما ولوا السلطة – وبنص التزامهم – يصيرون من أعدى أعداء التعبير والمناقشة ومحظوراتهم أكبر بكثير من المحظور عليهم، وفى نفس الوقت فالذى يجرى مهما بدت مبرراته التى لم تعرف أبعادها بعد هو خطر أى خطر، ليس فقط خطرا على العقول والتفكير والفرص المتاحة للحركة العقلية والثقافية حاليا، بل إنه خطر على النظام ذاته، فلكل نظام ما يميزه، ولكل نظام عيوبه وحسناته، والصفقة – حتى تربح – لابد أن تؤخذ ‘على بعضها”، والذى يقهر باسم الدين يتصور أنه يعلى كلمة الله والله من ذلك براء، لأنه لم يكرم الانسان بعقله حتى يعين عليه وصيا من خارجه، والذى يقهر باسم العدالة الاجتماعية ينسى – لصالح فئة بذاتها لا تجرؤ أن تعيد التفكير أيضا فى مسلماتها – أن العدالة الاجتماعية والعدالة عامة هى وسيلة لتأنيس البشر واطلاق قدراتهم الابداعية فى أوسع دائرة وعلى أوسع نطاق، ولكنه عموما يجد مسلمة من المسلمات (المشكوك فيها بالضرورة) تبرر موقفه على الأقل أمام نفسه، أما الذى يقهر باسم الحرية فهو يوقع نفسه فى تناقض مؤلم، وحتى لو وجدت المبررات المرحلية وحسن النية والضرورة، فانه باب يفتح ولا يعرف أحد متى يقفل ولا إلى أين يؤدي، لذلك وجب إعانته بكل التزام صعب على التراجع والتأنى والتفوق ما دام يملك شجاعة لا يملكها خصومه، أو ينبغى أن يكون كذلك، وأظن أن عامة الناس فى مثل هذه الأوقات عليهم واجبات أساسية للحفاظ على المسيرة بالرغم من منطق المتصارعين، والواجب الأساسى هو الاستمرار فى الانتاج والانتاج هنا كلمة استعملها بالمعنى الشامل الذى ينبت الزرع ويصنع الطبيعة وقبل ذلك وبعده ينظم الفكر ويؤكد شرف العقل ويعمق الوعي.
ولعلنا نلتزم إذا – وسط ما يجرى وبسببه – بالاستمرار، لا ننحرف إلى فئة لا نعلم حقيقة ما ينتظرنا منها، ولا ندافع عن إجراء ليس واضحا تماما مبرراته ومدى خطره بالنسبة للخطر الذى قام من أجله، نواصل الحركة فى الاتجاه المناسب وبالقدر المناسب فى كل المساحة المتاحة، لا نضع لأنفسنا مخاوف أكبر من حقيقة الموجود، ولا يوقفنا عن السعى إلى الاسهام فى المسيرة العامة ألا فعل قائم مانع فعلا وليس وهما مشاعا.
وأملى فى واقع الأمر أن تتكون فئة من العقول ‘المنتجة” تصنع الجيد من الكلمة ومن الثروة ومن الوعي، وتسير موازية للمتصارعين، فيزيد حجم الوعى الذى يفرز فى النهاية أفضل نظام يحافظ على تقدمه وعمقه دون وصاية من أى جهة كانت وبأى لون طليت، مهما بدت المسلمات مغرية، والصياح على الجانبين براقا.
لابد أن يوقف كل عمل غث، وأن يمزق كل بحث كاذب مهما أتقن صاحبه تلميع أدواته، وأن يراجع كل قول شائع مهما التف حوله الكثرة من المخدرين أو المطبلين، ولا يتم هذا أو ذاك بمرسوم قانون أو استفتاء شامل، وإنما يصارع بالقول الأكثر اتقانا، والعمل الأثبت نفعا، والبحث الألزم أمانة، وتصورى أن مجلة مثل ‘فصول” (مجرد عينة مصادفة) هى من هذا النوع الذى يسهم فى تنمية الوعى الموازى للصراع الجاري، وأملى أن تكون مجلتنا – رغم الفارق الشاسع فى الامكانيات – هى إسهام شديد التواضع فى هذا السبيل.
* * * *
وعلى ذكر الامكانيات، فقد أرسل إلينا السيد الأديب المفكر وفاء خليل حوالى ثلاثة وعشرين تصحيحا وردت فى مقاله فى العدد السابق بعضها يخل بالمعنى لدرجة لا نجد معها طائلا من الاعتذار، مثل أن تكتب ‘نخفي” ‘ففي” أو ‘فكرك” ‘مكرك” وأخرى يمكن أن نستأذنه فى مراجعة المعنى الذى لم يختل حيث أن اللغة تسمح مثل ‘أدعوك تتعرف” بدلا من ‘أدعوك أن تتعرف”، وأن كان هذا التأنيب المفيد الذى أرسله لنا سوف يذكرنا بالاصرار على التمسك بما جاء فى ظهر غلاف كل عدد من شروط النشر وأن يكون المقال مكتوبا على الآلة الكاتبة بمسافتين من أصل وصورتين … الخ، كما لعلنا نذكر الأخ الكاتب محاولتنا ترجمة جملة الاعتراضية العامية إلى جمل عربية نحمد الله أنه لم يعقب عليها بالرفض مما قد يدل على أن التحرير قد حاول استيعاب الهدف الذى رمى إليه الكاتب جملة، وإن كان هذا فى ذاته ليس مبررا لكل هذه الأخطاء، ولعل خطأنا الأول هو أننا قبلنا مسودة مزدحمة احتراما للمادة الجيدة التى حوتها ورغبة منا فى الافادة بها بحجم عطائها، ولكن يبدو أننا أخطأنا بعجلتنا هذه، وإلى أن تسمح امكانياتنا بذلك سوف نصر على شروط النشر ونطلب ممن يشاء أن يطلع على بروفة مقالته قبل نشرها، وفى نفس الوقت نحاول أن نضاعف من اجتهادنا بامكانياتنا المتواضعة، ولا نملك إلا أن نشكر الكاتب لاصراره على حقه فى التنبيه والزامه لنا بالاتقان ولا نأمل كثيرآ فى أن يقبل عذرنا فسوف يكون اعتذارنا عملا أكثر اتقانا دائما بعون الله بفضل تعلمنا من أخطائنا.
وقد طلب الزميل د. مرقص فايز أن نقدم تعريفا بكاتب أى مقال وفهرسا للمصلحات التى ترد بكل عدد والتى يتم ترجمتها أو تعريبها، وهما اقتراحان جديران بالاعتبار، الا أننا فى مرحلتنا الحالية نحاول التركيز على الموضوع دون الكاتب حتى يفرض الكاتب نفسه بصفته الأساسية أنه “صاحب قلم” و “صاحب رأي” دون أى تاريخ خاص أو تخصص بذاته ولعل فى تجنب التعريف عمدا ما يحقق أهداف المجلة فى أن تكون منبرا متواضعا لكل غير المختصين من المعايشين لما هو انسان بصدق قابل للترحمة على الورق، وعدم التمييز بين هذه الفئة الغالية المثرية (وخاصة اذا ما كان صاحب القلم ممن تألم حتى شكي) وبين أصحاب الصفات والألقاب هو لازم مرحليا ومفيد فى تصورنا، أما المعجم فهذا أمر مؤجل نحاول التغلب عليه بأن نورد الكلمة الأجنبية فى متن المقال أو فى الهامش.
* * *
هذا العدد
ويحوى هذا العدد ما يشير إلى تحديد الخط العام لمحاولتنا الخاصة، وان كنا ما زلنا فخورين بتقديم الآراء المخالفة أو المعارضة لهدف المجلة التطوري، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لظهور حقيقة أشمل، فنجد الدكتور السماحى وهو يهاجم الغائية – كعادته – فيكاد يسحق معها فكرة التطور كما تقدمه المجلة وتقوم من أجله الجمعية، وننشر مثاله دون تعليق آملين أن نجد التعليق من أصحاب الرأى الآخر الذين شاركوه ندوة الجمعية الأخيرة عن نفس الموضوع (الغائية)، كما نجد الدكتورة يسرية أمين تقدم لنا جولد شتين فتؤكد تفوق الفكر التجريدى عن الفكر العياني، وننتظر من يرينا فى أعداد قادمة ضرورة العودة إلى الفكر العيانى كنقطة انطلاق لا غنى عنها فى التفكير الأرقى من التجريد الرمزى المطلق، وكنا نأمل أن نشير إلى موقف جولد شتاين كأحد إعلام الاتجاه الانسانى فى علم النفس، فرغم أن نقطة انطلاقه كانت ابتداء من الاضطرابات العضوية الا أن موقفه العلمى والحياتى كان دائما موقفا ‘انسانيا” شاملا كما ألمحت الكاتبة فى إيجاز خشينا معه أن يكون التفصيل التطبيقى لأفكاره قد أزاح موقفه الانسانى الأساسى إلى الظل بدرجة تقلب الميزان.
أما صديقنا العائد د. مرقص عوض فقد قدم علما هاما من أعلام الفكر النفسي، يذكرنا بدور هذه المجلة فى تحديد منطقة الالتقاء بين التجارب العنيفة التى تشمل التناثر المؤقت، وبين تجارب الابداع المؤلمة والصعبة، حيث تمثل هذه الشخصية التى قدمها ‘فلهلم رايخ” كيف صنعت الوحدة وقلة الحوار بأفكار صاحبها وبصاحب الأفكار فى نهاية المطاف، ثم تواصل الدكتورة هناء سليمان تقديم ‘بياجيه” وهو يحذرنا من الفلسفة ويغرينا بها فى آن واحد، وتخطو خطوة إلى اتخاذ موقف الناقد المعلق فنشكرها ونعلن انتظارنا إلى مزيد من آراء بياجيه بشكل محدد منفصل عن تعليقها حتى يتخذ القاريء موقفه الذاتى منهما معا، وبصفة عامة فان الكتاب الذى تقدمه لبياجيه هو مخالف لبعض الأمل الذى ظهرت من أجله المجلة وهو القضاء على الفصل التعسفى بين وسائل المعرفة: العلم والفن والفلسفة والخبرة الذاتية جميعا، ولكن ذلك لا يتم – كما أسلفنا – إلا من خلال الحوار المستمر رغم طغيان تقديس ما هو علم بالمفهوم الشائع حتى تاريخه.
”ويجد القاريء فى هذا العدد محاولة لفتح طبيعة التركيب البشري، لا من خلال ما تعود من أنماط تتحدث عن السمات والسلوك” بل من خلال دعوة إلى إعادة النظر فى إحتمال طبيعة الكيانات المتداخلة المسئولة عن جماع الوحدة البشرية، وعن دفعها النموى فى آن”.
أما الجزء الثانى فيتقدم إليه القاريء مختارا ليجد المنوعات المختلفة مما لا يحتاج إلى أى تقديم خاص، اللهم إلا إعلاننا بأن الكلام ‘المنشور مقطعا متفرقا” هو ليس بالضرورة شعرا، وأن اليومية الشعرية الطويلة هى هدية من الشاعرة زينب عزب ربما تحتاج إلى حوار لاحق كما أننا كنا نرجو من الفنان داوستاشى أن يهدينا عنوانا لحالات ‘الصمت” بدلا من أن تنزل كل مرة بأرقام قد لا تفيد القاريء غير المنتظم معنى كافيا.
أما الحوار وطريقته فهذا أمر يحتاج دائما إلى توضيح لأنه ليس حوارا بمعنى الأخذ والرد مباشرة (شفاهة) أو كتابة، كما تصور بعض القراء أنه ندوة، وأحتج بعض المحاوزين بعدم اتاحة الفرصة للإيضاح المناسب لموقفهم الشخصى متكاملا بما يظهر رأيهم باعتباره رأيهم حقا وفعلا، وهنا وجب الايضاح، فهذا الباب نشأ بفضل الأخ جاد الرب وكانت هذه هى الوسيلة الوحيدة لمواصلة الحوار معه، وإلا لكنا اضطررنا إلى تخصيص المجلة بأكملها لفيضه (أو فيضانه) غير المنقطع، ثم تطور الأمر مع سائر المشاركين والهدف دائماً هو إبراز اتجاه المجلة من خلال الرد على أفكارهم، فهذا الحوار إذا هو فى مركز متوسط بين ما يمكن أن يسمى ‘رسائل القراء” أو ‘مقتطف وموقف” وعلى من يريد إيضاح موقفه الشخصى أن يصيغه فى مقال متكامل، ولكن المجلة تعلن حقها – كما هو مبين ضمنا فى شروط النشر – فى الاستفادة من أى مادة تصلها بالصورة التى تراها مناسبة ما لم ينص صراحة وكتابة على غير ذلك، ولا شك أن المحاور المحرر له فرصة أكبر من صاحب الرأى الجزئي، ولكن اذا كان الهدف هو إبراز ‘قضية” أكثر منه التعريف بموقف شخص بذاته فليسهم الجميع – اذا شاؤوا – بالطريقة الممكنة حاليا حتى نجد ما هو أفضل، وعلى من يرسل إلينا أى رسالة أو مادة بعد ذلك أن يحدد كتابة رغبته أو عدمها فى أن تكون هذه المادة جزءا فى الحوار أم لا، فاذا لم يفعل فسوف يعتبر ذلك موافقه ضمنية مع اعتذارنا الحقيقى لأى تحوير قد يلحق صاحب الرأى من اجتزاء رأيه، شاكرين له دوره غير المباشر فى إيضاح القضية المعنية، فهذا هو المهم أولا وأخيرا.