حـــوار
السماحى “يسمح” ويواصل
د. السماحى: فى الحوار السابق اختلفنا فى نقطة أساسية واحدة وهى “هل الدين فى موقف ضعيف؟” فأشرت إلى أن الدين ليس كذلك إستنادا إلى ما ألمسه من إقتناع تام لدى الغالبية العظمى من الناس به وهو اقتناع لا يخص طبقة إجتماعية أو ثقافية بل يكاد يكون عاما، إننى لا أرى تيارات مضادة للدين حولى إلا إذا أسمينا دعاةعدم اتخاذه وسيلة ضد الصراع الطبقي، هراطقة، وهو ما لا أوافق عليه، أو إذا اعتبرنا الاتجاه إلى قبول الحضارة الغربية مهددا للدين وهذا أيضا غير صحيح.
الرخاوى: دعنى أشكرك إبتدا على موافقتك على نشر خطاباتك إلينا فى صورة “حوار’ فقد كان آلم ما يشغلنا أ يكون فى هذه الطريقة ظلم يقع عليك حيث نحرمك حقك فى إبداء رأيك مباشرة، حالا، ثم دعنى أذكرك أن نقط الاختلاف الأساسية كانت كثيرة، كثيرة، من وجهة نظرى لى الأقل، وإن كان يبدو إنك لا تعتبرها أساسية، لهذا، فقد اعتبرتها “نقطة أساسية واحدة’ فى حين أنى أصر على أن الاختلاف هو فى التوجه الأساسى لتناول القضية.
السماحى: تحفظك على زعمى بوجوب ترك باب الاجتهاد مفتوحا للجميع خوفا من بعض عواقب وضع كهذا (هو أيضا محل خلاف) ولكن الخوف من سلبيات المبدأ لا يجب أن يحرم المبدأ ولابد أن نخطئ لكى نصيب ولم أشعر بمعارضة حقيقية-رغم التحفظات- لدعوتى بانتهاج أسلوب رمزى فى تفسيرالنصوص الدينية. وفى هذا الشأن أوضح أننى لا أدعى أن هذا المنهج مأمون تماما لكنه أكثر أمانا ولا شك من المنهج الحرفى الذى عجز دائما عن تقديم صورة ميسرة ومتكاملة للدين ومع الحرص والتدقيق يمكن أن نصل إلى فهم أفضل للدين من خلال الرمزية فى التفسير . كذلك لا أقصد أن الرمز يتضمن عدم صحة عبارة معينة فقولى أن قصة عصيان إبليس قصد بها الرمز إلى أن الشر ليس أساسيا فى الإنسان لا يعنى أنها قصة كاذبة بل يعنى أن الدين لا يسردها لنا لمجرد احاطتنا علما بواقعة ما، وإنما ليرمز لنا من خلالها بمغزى أخلاقى.
الرخاوى: أنا مصر على أن الدين ليس دعوى أخلاقية، أو إصلاحية، وإنما موقف جوهرى فى الوجود، ولكنى أقدر إجتهادك وحسن نيتك.
السماحى: أرى أن الدين كان كريما عندما ترك لنا معظم النصوص غير جامدة، وقابلة لتجاوز حدود الاسم والفعل والمفعول به وحرف الجر، ولا مبرر لخوفنا من حدود اللغة، لأنها – أى اللغة – وسيلة لنقل الأفكار، وليست كيانا عاليا واجب التقديس فى حد ذاته.
الرخاوى: موضوع اللغة عندى خطير خطير، فهى من ناحية بنية أساسية وليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار، أى أنها هى الأفكار من عمق معين، وفرق بين اللغة والكلام، وفى نفس الوقت، عندى أنها كائن نابض متطور لا يصح أن يسجنه تفسير سابق.
السماحى: أرى أيضا أن الدين قد ترك مكانا للمتغيرات الأرض والأحوال التاريخية ولم يضع مذهبا صلبا لا يقبل تقلبات العالم الإنساني، فقد كان الدين واقعيا ومرنا وكفى بنا مثال عدم تحريم تعدد الزوجات، بشكل قاطع، ونحن نعلم أن بعض الظروف تجعل الزواج بأكثر من زوجة ضرورة تحمى من الانقراض أو الهزات الاجتماعية بينما لا تدعو الحاجة إلى ذلك فى الأوقات العادية.
الرخاوى: ليكن .. ولو مؤقتا.
السماحى: والآن أدعو إلى فكرة أساسية حول فهمى للدين، إننى أؤيد إختزال العنصر النظرى فى الدين إلى أقل ما يمكن بحيث نجعل تفسيرنا له معينا للإنسان البسيط على الحياة وحماية للمتحذلقين من شطحات أنفسهم إذا حاولوا إستخراج ألاعيب ميتافيزيقية من بين سطوره لا أظنها تفيد، بقدر ما تعوق.
ومن الأمثلة على تكاثر النصر النظرى غير المقيد، ما يغرق المكتبات من أبحاث تفيض فى شرح قضايا تنتمى إلى عصور قديمة مثل تبعية المرأة للرجل، وإلتزامها البيت، وخصائص الجن، ونجاسة الكلب، والحائض.
الرخاوى: أنت تصنف القضايا “هكذا’ بشجاعة المتنور، ولكن من ذا الذى يوافق على ما تضعه لنا من هيراركية لقضايا الدين: أساسية وفرعية، قديمة وجديدة، ومفيدة، وغير ذات أهمية، وضارة، يا لهفى على الفكر البشرى مكبل بالخوف والطمع وكياب الوعى جميعا.
السماحى: الأخطر من تعدد الكتابات النظرية فى أمور فرعية تشغل الناس عن الجوهر، هو استرسال الناس ورجال الدين معا فى لعبة: إسأل أيها المسلم ونحن العلماء سنجيبك، فنرى فى المساجد وبرامج الإذاعة والتليفزيون، وفى الصحف كيف يتمادى البعض فى السؤال عن حلول لألغاز محيرة، وكيف يستمتع المجيب والسائل معا بمتابعة الحل الذى يكون أشبه بتمرين رياضى فى نظريات الحلال والحرام، إن خطورة هذه العادة هى أنها تخلق فى الناس الرعب من الاقتراب من أى مشكلة تتعلق بالدين دون إستشارة المختصين، وكأن فهم الدين ليس مباحا لكل انسان بل لطبقة علماء الدين وحدهم، لكى أختصر فأننى أجد لدى نفس الشجاعة لكى أطالب بعدم تحميل الدين تأويلات فوق جوهره المباشر البسيط.
الرخاوى: طالب يا سيدى كما تشاء!!
السماحى: إن جوهر الدين لا يتجاوز إعتقادا فى أمور قليلة هى الألوهية وخلود النفس والعدالة النهائية، وضرورة اتباع طريق أخلاقى يؤدى إلى الخير العام للإنسانية، وحول هذا الطريق تحدث الرسل فقالوا بوصاياهم الخالدة، وما يزيد عن ذلك فى الدين ليس إلا تكميلات وشروح وأمور طقوسية تهدف إلى تكميل الجوهر أو إلقاء بعض الضوء عليه، فلنحذر من توسيعها على أنفسنا فننسى الجوهر أو ننسى الحياة،. أو نغفل عن أن الفضيلة هى حجر الأساس فى الدين، أما ما يحتاج منا إلى جهد فهو تبصير الناس بأن المسألة لا يجب أن تختلط علينا فنظن أن الانسان قد خلق لخدمة الدين وليس العكس، الحقيقة أن الدين أهدى إلى البشرية لاسعادها عن طريق هدايتها إلى طريق سلوكى يجنبها الشقاء، فهو وسيلة منحها خالقهم لهم ليتقدموا بها، ولم يتوقع منهم مقابلا لذلك، أما الوقوع فى وهم أن الدين هو سلوك يقصد به إرضاء الاله عن طريق وصفه بأوصاف جليلة، وتسبيحه، والاعتراف بالضعف أمامه، وكأننا نكافئه على خلقه للعالم، فهو وهم دخيل علىالاسلام، وفهم خاطيء للنصوص، وتأويل ساذج لكلمة “العبادة’ – تمتد جذوره إلى الديانات الوثنية التى حرصت على إستمالة واسترضاء الآلهة بالترانيم.
الرخاوى: آليت إلى نفسى ألا أطيل فى الردهذه المرة لأعطيك المساحة الأوسع، لذلك أكتفى بالتنبيه أنى أرى أن جوهر الدين يتعدى ما ذكرت، وأن تفسيرات ما ذكرت (مثل خلود النفس) ليست بسيطة، وأن الدين ليس لخدمة الانسان، بل هو وسيلة لرؤية الحقيقة، والانسان جزء من هذه الحقيقة، يسايهرها بفطرته بقدر وعيه بتناسقها، وأنه ليس سلوكا يجنب الشقاء، بل هو موقف وجودى يعمق الوعى لدرجة “الشقاء الأشرف’ (مما أسماه: كدحا) وبالتالى فاختلافناما تتصور، وأحسب أنك تتذكر تحفظى على إحتمال اختلافنا حول ما أسمته التفسير الرمزى لأنه سيفتح الباب لترجمة قد تغيب القضايا الأساسية، ثم إننا لم نتفق على ماهية أو حدود أو تعريف ما أسميته “بالتفسير الرمزى”
السماحى: (أن) معظم محاولاتى التعريف يندر أن تكون ناجحة تماما لكنى مع هذا أقول إن الرمز يعنى البحث عن مغزى أخلاقى وراء النص عندما يوجد مكان لذلك.
الرخاوى: أكرر تحفظى أن الدين ليس لخدمة الأخلاق (مع اختلافنا على تعريف الأخلاق) .. كما أننا سنختلف حول قولك (عندما يوجد مكان لذلك’.
السماحى: بالطبع، هناك القليل من الأوامر الصارمة (مثل تحريم القتل) والوصايا المباشرة (مثل النهى عن المنكر وإكرام المساكين) التى لا تقبل تأويلات رمزية، لكن هنا مواضع أخرى كثيرة (خاصة القصص القرآنى وأوصاف الجنة والنار) تفهم بشكل أفضل اذا ما أخذت لى أنها أمثلة تشبيهات يقتدى بها لهداية السلوك، لا على أنها سرد تاريخى لوقائع حدثت فى الماضى، وفقط.
وأظن أننا اذا ما أحصينا الأوامر الصارمة والنواهى القاطة فى الدين، لوجدناها أقل من التوجيهات العامة والوصايا الشاملة التى تتحدث عن إطار عام للسلوك، أعنى بذلك أن غالبية وصايا الدين هى ارشادات ذات طابع عام يسمح للإنسان باستعمال عقله فى المواقف التفصيلية، فلا يكون مجرد آلة أخلاقية تعرف الحل السلوكى مسبقا، وتخزنه فى الذاكرة لاستعمالهعند اللزوم دون أى إبداع أو اختبار حقيقى للضمير الفردي.
الرخاوى: بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره’، وقد ذهب بى الظن أن من بين معاذيره، التفسيرات الجاهزة والراشية، والتكيفية …الخ
السماحى: بفهم غير حرفى للدين سنرى فى النصوص تمشيا أكثر مع طبيعة رحلتنا البشرية الديناميكية عبر الصور، هى رحلة لا تعرف الثوابت، ولا ينفع مها كيانات مطلقة أو لوائح جامدة، وبروح غير حرفية يمكننا تجنب الكثير مما يعقد الدين كما يمكننا إسكات الزاعمين بأن الدين إمتداد للعصر الخرافى، ثم لماذا هذا الخوف من الاختلاف عن طريق فهم إعراب الحجاز القدامى للنصوص؟ هل كانوا أدرى من دون باقى البشر بطبيعة ومقاصد وحكمة الله؟
الرخاوى: أعتقد أنهم كانوا أدرى بما كان، ولكننا أدرى بما هو كائن، ولكن الاختلاف الجوهرى بينى وبين ما زال فى التوجه الأساسى ما اذا كان الدين هو موقف أخلاقى ونفعى، أم أنه رؤية ومعرفة للحقيقة يترتب عليها ما يترتب ، وكل من اجتهد، فى تصوري، بمن فى ذلك من أسميهم إعراب الحجاز، قد اجتهدوا فى هذا الاتجاه.
السماحى: لا أظن، فالكل بعيد عن فهم هذا كله، وما أصعب الادعاء بأن بشرا فهموا الله، ولم يكن أهل سهول الجزيرة العربية استثناء، وهل يظن المسلم أنه يصبح أكثر إيمانا إذا تصور إبليس على أنه شخص مجسد بينما يتحول إلى الكفر إذا تصوره شيطانا قابعا فى الضمير؟
الرخاوى: وهل يمكن أن يكون الضمير شخصا مجسدا فى الداخل؟ إنى يا سيدى أهتم بشخوص الداخل بقدر اهتمامى بشخوص الخارج، وأحاول بعنف، وخاصة فى مجال الابداع أن أركز على هذا التجسيد الحي، حتى للضمير، ولست أفهم ما جدوى اختزال العيانى إلى المجرد لسهولة التصور، ورفض التعدد الكياناتي، ومع ذلك فلندع هذه القضايا جانبا لنقترب من أمثلة أبسط.
السماحى: أيظنون أن الأنفع للدين أن نؤكد أن أنهار الجنة هى تيارات مائية مثل نهر النيل، وأنها لا يمكن أن تكون أنهارا رمزية تعنى اللذات الإنسانية؟
هل هناك بطولات دينية فى الاعتقاد أن حواء خلقت من عظمة فى القفص الصدرى كانت أصلا تنتمى إلى جسد آدم؟ وهل هناك سقطة مروعة فى الاعتقاد فى أن هذا مجرد رمز للوحدة بين الجنسين؟
هل يعتبر شخص ما ملحدا إذا زعم أن زبانية جهنم ليسوا أشخاصا حقيقين بقدر ما هم شخصيات رمزية تمثل الشقاء الذى ينتهى إليه الأشرار من اخواننا الآدميين؟
ما العيب فى تصور الدين كجوهر لا خلاف عليه، مكون من نقط قليلة أساسية لا تحتمل الجدل الكثير، وكيان تكميلى يقرب هذا الجوهر إلى النفوس، وهل هناك أى صواب فى تصور الدين كعلم معقد لا يمثل السلوك الفاضل فيه إلا ركنا صغيرا والباقى لا يعلمه إلا علماء الفقه؟
الرخاوى: لا تعليق.
السماحى: يا أيها المسلمون تشجعوا، ولا يرهبكم الماضي، ولا تتخلوا عن قولكم لحساب قول مفكرين قدامى كانت حصيلتهم المعرفية، أقل مما يتاح لكم الآن، واعلموا أن فى الدين إبدا أكثر من التقليد، وأن الله لم يطالب أبداً بالتحجر أو الفزع من محاولة التفكير، بل إنه لا يؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا فى فهمه طالما لم تكن النية هى الاضرار بالناس، أعتذر عن نوبة الخطابة هذه، فليس كل الأفكار تترجم إلى عبارات هادئة.
الرخاوى: بل أشكر المأزق الذى أخرجك من هدوئك، وقلقل منطقك المسلسل.
السماحى: تظننى دائما من الموقنين بقدسية المنطق، فأوضح أن المنطق فى رأيى ليس إلا جهدا بشريا متواضعا قصد به حسن عرض الأفكار المتعلقة بقضايا المعرفة الطبيعية والرياضية.
وهو لا يزيد عن كونه تطويرا صوريا لقواعد الحس السليم (أو الحس المشترك) ولهذا فهو مفيد فى مباحث الظواهر الطبيعية والمحسوسة، أما فيما يختص بالسلوك والإيمان، فيصب تطبيق القالب الإستنتاجى الجامد “إذا كان إذن ص’ لذلك يجب التخلى عن فكرة أن المنطق نافع فى الإعتقاد الديني، والسلوك الأخلاقي، فإذا حررنا الدين والسلوك من صرامة المنطق التى تصل إلى إعاقة الفعل الأخلاقى أحيانا، لكان أفضل، فبالمنطق يمكن للمجرم تبرير جريمته، وللملحد تبرير الكفر (ولقد تحاورت مع أحد كتاب المجلة وهو عادل مصطفى فى الماضى، وإختلفت معه فى محاولة منطقة الأخلاق ردا على “بشرف منطقي’ نشره فى عدد سابق).
الرخاوى: أين أنت يا عادل؟ ما أصعب المسئولية وما أشرف الاستمرار، ولكن يا عم سماحى إسمح لى أن أتحفظ بدورى على إعفاء الدين من صرامة المنطق، وخاصة إذا كان يحمل معنى الحس المشترك، كل ما هنالك أنى أقول أن ما نسميه منطقا هو ليس كذلك بالضرورة، أو هو أحد أوجه المنطق، وربما أسهلها وأقلها دلالة، وأن ثمة مستويات (منطقية) أخرى توصل للحقيقة، غير أنا لا نوليها حقها، بل قد لا نعرف قوانينها حالا، وأولى بنا أن نفتح باب الرؤية على مصراعيه، فتتدفق موارد المعرفة لا يصقلها وينقيها إلا الحوار والممارسة على أرض الواقع، دون أدنى وصاية، فقط نشترط الجدية والاستمرار، ثم الاستمرار والجدية، مهما أدى بنا المسار، وأخشى ما أخشاه أن يكون حماسك هذا يا سماحى هو من نوع المجادلة اليائسة التى يحاولها أستاذنا زكى نجيب محمود، والذى أرى أنه لم يضف جديدا إلا إعلان – ضمنى – لمأزقه الشخصى فى هذه السن، فأنت بهذا (رغم منطقتك)، مثله، لا تفعل إلا أن تدافع عن الدين بأوهى ما يمكن من وسائل وأساليب، وأكاد أتفق مع إبراهيم عادل فى أن تفسيرك الرمزى هو نوع من هذا الدفاع.
السماحى: أن هذا التأويل لا يتفق مع فهمى للرمزية حيث أراها منهجا لتأويل النصوص التى لا تأخذ شكل “إفعل كذا، ولا تفعل كذا’ بإختصار، فان النص الذى يأخذ شكل “إفعل س، ولا تفعل ص’، هو الجدير بفهمه بدون تأويل، أما النصوص الأخبارية فأخذها على أنها إيحاء بمغزى أخلاقي، يضاف إلى وصايا الدين، أو يوضح بعض زواياها أكثر مما أفهمها كعبارات تقريرية، وأما قوله أن التفسير الرمزى للدين يزيد الحال سوءا، فمرجعه إلى الخوف من أن يفرغ الرمز النص من محتواه، ويختزله إلى معنى ذاتي، وهو خوف له فيه كل الحق، فقد يساء استخدام المنهج الرمزى بحيث ينتهى إلى مفاهيم غير موضوعية، لكن العزاء الذى أجده دائما، وأطمئن إليه هو أن جوهر الدين لا يحتمل الخلاف فهو واضح بذاته، وغنى عن التأويل، ويمكن صياغته فى سطور قليلة “أعتقد فى وجود الله وفى الفضيلة والحساب، وأقبل الوصايا الأخلاقية المنبثقة من الدين”، فإذا أخطأ أحدنا فى أمر تكميلى فى الدين لا يتعلق بصحة وجود الله، وضرور عمل الخير، فالفرصة قائمة للتصحيح، هل فى ذلك عزاء لك أنت أيضا؟ وهل يوجد أى أسلوب على الأرض يضمن لنا عدم الوقوع فى الخطأ؟ إذن فلنمض بشجاعة فى محاربة الوهم الذى إزدهر فى حياتنا بأن الحقيقة توجد عن القدماء وأن الماضى أفضل من المستقبل، وأننا على وشك الغرق وعقولنا لا تستحق الثقة.
الرخاوى: أعتذر أنى لم أشرك إبراهيم عادل أصلا، لضيق الوقت، وإتاحة الفرصة لك أكثر فأكثر، وإن كنت أعتقد أن زيادة التبسيط لها مزية هائلة فى الحفز نحو المباشرة فى العلاقة بالله، والاطمئنان للفطرة، إلا أنى أخاف منها لو فتحت باب الاختزال والاستسهال، وخاصة أن الناس – بعد أن حرمت حق التفكير والنقد والحوار – لا تمانع فى الخلط واللبس والتقريب بشكل خطير فعلا.
السماحى: قد تكون هذه مناسبة للإشارة إلى التباس شائع عند الناس عندما يخلطون بين الله والدين، فالله مطلق وثابت ومتعال، أما الدين فهو تقريب لإرادته من عقليات ونفوس الكائنات الآدمية، ولهذا فهو يخضع لقوانين الاستيعاب الانساني، نحن نتفاعل مع أفكار الدين التى تعيش داخلنا فتجرب الحياة داخل كائنات متنامية لا تطيق طبيعتها الثبات، ولا تتحمل الأمور المطلقة خلال رحلتها القاسية فى العالم الأرضى لذلك فى الدين شيء إنسانى أيضا، أن الله مطلق متعال إلا أن رسالته إلى الأرض قد روعى فيها – رأفة بنا – أنها موجهة إلى كائنات آدمية، وإنها لابد ستواجه محاولة الاستيعاب البشرى ولا ينفع مع رسالة الاله الفزع منها أو الخوف من تأويلها، بمعنى أخر: الدين يعمل حسابا لطاقة البشر ولحدود استيعابهم، ولذلك فهو غير جامد، وإذا سلمنا بأن فى كل رؤية نظرية شق شخصى يعجز عن الخروج من قيد الذاتية، يفرض على لوائح جامدة مثل لوائح القانون الوضعي، وأنه أراد بالدين أن يسهل على الخلاص من متاعبى الأرضية، لا أن يأخذ حقه منى فى شكل ابتهالات، وأن خير شكر أقدمه إليه وما أغناه عن شكرى – هو أن أكف عن إلحاق الضرر بإخواني، وأن أنفعهم كلما استطعت، وأن أدعوهم إلى التعاون معي، على تيسير الأمور على عقولنا حتى تكون أكثر عطاء فى كل مجالات الخلق البشري.
الرخاوى: ما أطيبك، نعم … ما أطيبك يا أخى … ولكن ..، لكن “لا’ ..، فلنتفضل بالاستمرار، فهذا أطيب.
السماحى: قد استخلص من ذلك لنفسى أن الدين ليس بديلا عن التقدم الانساني، ولا حتى هو شيء مواز له، بل هو وسيلة إليه ساهم بها الله من أجلنا، لا من أجله هو، وأراد أن نعمل لنتقدم، وبذلك نحمل الأمانة، فلعلنا نحسن حملها ونكون جديرين بها.
الرخاوى: هذا كلام جيد، يقوله رجال الدين، ومجلس الشعب، وفى المناسبات السعيدة، وعند كل بداية “ثم لا نري، يا سيدى إلا عكسه تماما فى التفسير والتطبيق والترهيب والترغيب’.
السماحى: أعلم أن ذوى النزعة المحافظة (أى أنصار أن الحقيقة وجدت فى الماضي، وبالتالى فلا مجال لفكرة جديدة) لن تروق لهم الدعوة إلى اللاحرفية الدينية، ولكن هل سيصمدون أمام حاجة الناس إلى فهم مستنير للدين، ولا يجبرهم على مواجهة قاسية مع ثقافة العصر، بل يساعدهم عليها؟ ألا يدركون أن قدرة الدين على إحتواء التطورات الثقافية مع مرور العصر هى أعظم نقاط القوة فيه؟
الرخاوى: إسمح لى يا د. سماحى أن أترك الرد لك وللقراء، ودعنى أنهى الحوار بطرح خطوط القضايا العامة، بعد أن حاولت عامدا – كما لاحظت – أن أترك لك معظم المساحة هذه المرة، من باب وزن الجرعة المتاحة للرأى الآخر، ثم أن اللهجة هادئة، هادئة، حتى توارت قضايا الاختلاف وراء الطيبة، وحسن النية والتعميم، فلم يكن ثمة مبرر لاثارتها اقحاما، ولكنى أذكرك وأذكر نفسى (والقاريء) أن القضايا المثارة حول الاسهام الدينى “الايماني’ فى الموقف الحضارى الراهن هى أكبر وأخطر من كل تصور، وأنا شخصيا عازف عن الخوض فيها، لا لأنها ليست فى بؤره إهتمامي، ولكن لأنى أعرف الحد (العتبة Threshold) التى إذا تخطيتها فتحت على النيران من كل جانب، وهذا فى ذاته لا يهم، ولكن المسألة أن الحوار سيجهض قبل أن يبدأ (وتذكر الطرقات المترددة لتوفيق الحكيم على باب الله، ومحاولة المستشار العشمارى) نعم فالهجوم على أى فكر “آخر’ جاهز ومتربص، وهو يحمل كل أسلحة إثارة الغرائز الدينية، ودروع المسلمات القبلية، قبل بداية الحوار أصلا، وخذ مثلا آنيا، وكيف يديرون الحوار حول بهائية ببكار، وأنى أرى أنهم يمتهنون الفكر بهذه الطريقة وأنا لست فى موقف أدافع فيه عن البهائية أو غيرها، لأنى لا أرى الحل فى دين جديد بجمع عددا من الهواة والطيبين، مع وجود ديننا القوى المتطور القادر على القفز – تطوريا = إلى كل الآفاق، ومع ذلك فالسماح بهذا الهجوم المنظم على “فكر ما’ أو دين ما، من جانب واحد دون أن نسمح للجانب الآخر بالرد أصلا، حتى لو كان ذلك الجانب الآخر هو الشيطان نفسه، هو مبدأ يمتهن العقل ويقف باب الحوار قبل أن يفتح لا فى مجال الدين فحسب، بل فى كل مجال.
وأكتفى الآن أن أحيلك، والقاريء، على بعض القضايا التى طرحتها هذه المجلة منذ العدد الأول ([1]) مثل (أ) ماهية الفطرة، قبل وبعد التفاصيل السلوكية (بيولوجيا ودينيا)، (ب) وماهية الحرية من خلال التوحيد (لا إله إلا الله)، (جـ) وماهية الولاف الاسلامى فى مواجهة الأطروحات الثابتة (د) وماهية النمو البشرى بالسعى إلى وجه الله كدحا …، ثم أذكرك سيدى – مرة أخرى – بالاختلاف الجوهرى بين بعض منطلقات وسلوكيات الحضارة الايمانية، فى مقابل الحضارة المادية (بالمعنى المحدود) وهو ما أشرت إليه فى حوار العدد السابق ص 188 ، 189، وقد أوردته فى صورة أسئلة لم أجد فى إستمرار حوارك ما يرد عليها، ثم أنى لا أطالبك بالرد، ولكن فقط أذكرك بالمأزق، وأن التلفيق مع حضارة الغرب المنذرة بالأفول، و المدعية ذلك، هى قضية خاسرة، كما أن التخاصم معها حساسية عاجزة هى قضية أكثر خسارا وغباء.
وإلى حوار قادم أشكرك، وأدعو الله بمواصلة التفتح والمغامرة من يدرى؟
*****
[1] – الله .. الانسان .. التطور .. الله (للكاتب)، الانسان والتطور، المجلد الأول، العدد الأول، يناير 1980 (ص 71 – 80)