الفنان محمد ناجى[1]
1888 – 1956
بدر الدين أبو غازى
لا يزال الفنان التشكيلى فى مصر أقل من قدره ومن عطائه .
ولعل أصحاب هذا الفن مسئولين الى حد ما عن هذه الظاهرة، فغيرهم من أصحاب الفنون الأخرى فى الشعر والأدب والموسيقى يحتفون بروادهم تأكيدا لأثرهم فى الحياة الثقافية. وفى هذا الاحتفاء تأكيد لمكانة أصحاب كل فن بعامة .
واذا كان الاحتفاء بالراحلين سمة من سمات الوفاء فانه يرسى فى ضمير المجتمع شعورا بالتقدير للأحياء ويؤكد مكانة أصحاب كل فن ودورهم فى الحياة الثقافية
هذا خاطر مر بى وذكرى خمسة وتسعين عاما على ميلاد الفنان الكبير محمد ناجى تعبر فى صمت فهو رائد من رواد الفن التشكيلى فى مصر غير منازع، وقمة من القمم فى تاريخ مصر الثقافى جديرة بالتكريم والاهتمام .
واذا كانت الدولة بجهد وسعى وفضل كريم من شقيقته الفنانة عفت ناجى قد حولت مرسمه الذى غابت فيه روحه منذ أكثر من ربع قرن، الى متحف يحمل اسمه وأضافت اليه جانبا من أعماله فأن الكثير من هذه الأعمال لا يزال خارج مجموعة المتحف ولا يزال دون توثيق فنى يسجله ويصوره ويحصره وهو تراث لمصر، هذا فضلا عن أن الاعلام بفن ناجى ونشر المستنسخات والمؤلفات عن فنه وانجازاته ما زال قاصرا محدودا لا يتجاوز ما نشر عنه بجهود شخصية .
وحقيقة الأمر أن ثرواتنا الفنية غنية وغزيرة ولكنها عاطلة لا تسثمر مكانها جدار من الصمت فى بيت او متحف بينما أصبح الاستثمار الثقافى فنا له أصوله وأبعاده واصبح عائد هذا الاستثمار فى مردوده الحضارى والاعلامى بل والسياسى والاقتصادى مردودا بالغ الأثر، تحقق الدولة عن طريقة أعظم النتائج وتشحذ الجهد والفكر من أجل الافادة منه .
ولكنه طريق طويل …….
واذا كانت ذكرى ناجى قد استدعت الى هذه الخواطر فلأنه كان فضلا عن فنه المبدع ،داعية لابراز مكان الفن فى الثقافة، سعى الى ذلك من خلال كتاباته ومحاضراته ومشاركته فى الجماعات الفنية وتأسيسه لآتيليه القاهرة تجمعا للفنانين والكتاب، وكان فى سعيه صاحب دعوة كما كان صاحب فن .
واذا كان المجال لا يتسع للاحاطة بكل اتجاهات فن ناجى فحسبا المامه بمحاور حياته ومحاور فنه نترسم من خلالها دلالاته .
كان ناجى من جيل رواد مصر الذين بدأوا على مشارف القرن العشرين يصنعون قدر مصر فى الثقافة والقانون والاقتصاد… شقوا الطريق الى حياتها الجديدة وأقاموا دعائم نهضة راسخة، ومزجوا بين حضارة الشرق وحضارة الغرب مزجا رائعا .
وقد بدأ ناجى بدراسة القانون فى ليون ثم درس التصوير فى فلورنسا من سنة 1911 الى1914 فاتصل من خلال دراسته بعصر النهضة الايطالية .
وقبل هذا النبع الايطالى، كانت نشأته فى الاسكندرية قد شكلت فكره ووجدانه…. اسكندرية الشعراء انجريتى وكفافى ونيكولاييدس تلك المدنية المصرية الاغريقية .
والى جانب ذلك صلات أخرى فى حياة ناجى ربطته بالريف من خلال بلدة أسرته فى البحيرة .
فلما عاد الى مصر انجذب الى أجواء الحياة الشعبية واتخذ من بيت الفنانين بدرب اللبانة مرسما له ولعله كان أول الفنانين المصريين الذين سكنوا المكان .
ويأتى فى هذه الحقبة أتصال ناجى الأول بأجواء طيبة من خلال زياراته للأقصر ولأقامته بقرية ” الجرنة” ووقفته المبهورة فى ظل أعمدة الكرنك فكانت بداية ارتباطه بروح مصر القديمة .
وعاود ناجى الرحلة الى الغرب، فكانت رحلته الى شيخ الثأثيريين كلود مونيه، وأتاح له ذلك الاتصال بمنابع الانطباعية ومتابعة النظريات الفنية الحديثة فى فترة تحول خطير فى الفن .
ولقد أتاح العمل الدبلوماسى لناجى أن يتصل بعد ذلك بتيارات الحركة الفنية خلال عمله فى باريس فى العشرينيات، وأن يلتقى بفن أمريكا اللاتينية أثناء عمله فى البرازيل .
ولكن حياته الدبلوماسية لم تستمر طويلا وروح الشاعر الفنان فى نفسه دفعته الى التمرد على القيود فترك وظيفته.
وأوفد بعدها فى بعثة فنية الى الحبشة …. وكانت هذه الرحلة الأثيوبية الى منابع النيل حدثا فى حياته وفنه…. أشاعت فى أعماله غناء كانت بعض أنغامه تختفى وراء ولعه بالقاعدة والنظام، ووجدت شاعريته، التى كثيرا ما قيدتها القاعدة، منطلقا فى الألوان المتقدة الجهيرة وفى تشكيلات الجموع وخرجت بالفنان عن القافية التقليدية فى التصوير وقادته الى اكتشاف شاعرية الشكل وتعبيرية اللون.
ولعل هذه الأرض الفطرية هى التى زادته قربا من عبقرية جوجان وهى أيضا التى أطلعته على هذه الوجوه الحبشية التى أعادت اليه ذكرى أقنعة الفيوم ووجوه الفن القبطى فمضى فى طلاقة يصور الأشخاص والجموع فى لوحات هى من أروع أعماله.
بعد المنابع الأفريقية جاءت سياحات ناجى الى اليونان وتعرفه على التراث الأغريقى الذى شهد فى الأسكنرية معالمه الهلينستية .
على أن مصر القديمة تدعوه مرة أخرى…. كانت سياحات شبابه انبهارا ببهو الأعمدة وطريق الكباش وتمثالى ممنون، أما سياحات النضوج فكانت سعيا وراء أسرار مقابر الأشراف والاقتراب من الحس الرياضى فى الفن المصرى القديم وايقاعاته ومن الوفاق الرائع بين الغناء والتصميم المعمارى فى لوحات الأقدمين .
وهذه الحقبة هى التى دعمت تطلع ناجى الى اللوحات الجدارية فصور لوحات الطب عند العرب والطب عند قدماء المصريين والطب فى الريف .
وهى لوحات كانت تمهيدا للوحته الكبرى” مدرسة الاسكندرية” تلك اللوحة التى يذكرنا نسقها الهندسى بلوحات رافاييل وبخاصة لوحته ” مدرسة أثينا “.
وقد جمعت لوحة ناجى حضارة اليونان ممثلة فى الاسكندرية، والمسيحية ممثلة فى القديسة كاترين، وحضارة العرب والاسلام ورمزها فى اللوحة ابن رشد ثم الحضارة الحديثة والتقاء الشرق والغرب ممثلا فى لطفى السيد وطه حسين ومختار ومحمود سعيد ومصطفى عبد الرازق ومحمود الفلكى وهدى شعراوى والشعراء انجريتى وكفافى ونيكولاييدس وبعض العلماء الأجانب والرجال الذين أسدوا الى الاسكندرية خيرا كثيرا أمثال سكلاريدس وكوتسيكا .
على أن طموح ناجى كان يحلق به فى قبة الجامعة التى أعد لها مجموعة من اللوحات تمثل منابع النيل مصدر الحياة والحضارة لمصر… ولو أتيح له أن يتحقق هذا العمل الكبير لكان أفضل أعماله الضخمة الجهيرة.
وظل ناجى دائم التطلع الى الموضوع الكبير الى أن قادته رحلته الى قبرص الى منحنى آخر فى التعبير فيه الغناء اللونى والانطلاق من قيود الموضوع الكبير والحساسية فى تسجيل مشاهد الحياة وأحداثها فى قبرص .
ومع ذلك فهو يعود الى موضوعاته الريفية يتناولها تناولا جديدا بعد أن اكتملت له أدوات فنه وزاد أسلوبه غناء من اتصاله بالحضارات والأساليب الفنية الأخرى.
تلك رحلة عجلى فى فنان ولمحة من عالمه الفنى ومنها نتمثل محاوره الكبرى التى شكلت شخصيته الفنية، وهذه المحاور هى :
1 – التراث وهو يمتد عند ناجى من التاريخ الى الأسطورة… ومن مصر القديمة الأفريقية … وقد أستوعب ناجى بفكره وثقافته أبعاد هذه الرحلة فى الزمان والمكان فانعكست على موضوعات فنه .
كما انعكست على اساليب تعبيره فنمت وتطورت بنمو فكره وأتساع رحلاته وقراءاته وأتصاله بمنطق الفنون القديمة وقوانينها التشكيلية .
2 – المعاصرة …. وهى بمعيار زمنه كانت تابعة للمذاهب الفنية التى سادت فى عصره فتفهمتها وأخذت عنها ومزجت بينها وبين معطيات بيئية مزجا موفقا .
3 – الانطلاق من فن ” لوحة الصالون ” الى اللوحات الجدارية، ومن الموضوعات الأليفة الى الموضوع الجهير وتطويع قدراته التصويرية للتعبير عن التاريخ والحضارة وتسجيل المعالم الكبرى المشخصة للبيئة وأحداثها .
4 – الاهتمام بالفنون الشعبية وتضمينها محاور فنه والدعوة الى دراستها والحفاظ عليها قبل أن يكون لموضوع الفلوكلور حضوره على مسرح الحياة الثقافية .
لقد عاش ناجى مرتبط الأقدام بهذه البيئة وتابع بروحه فيضان القلب المصرى فى الصعيد بينما ظل رأسه محلقا يتلقى مختلف الثقافات، فخرجت لوحاته حاملة معالم المصرية فى التعبير الفنى .
فهو الذى بشر بالعودة الى اللوحات الجدارية المصرية القديمة وهو الذى قدم مثلا لالتقاء المفهوم الشرقى مع المفهوم الغربى فى الفن .
وهو فى مقدمة الذين تناولوا خامة التصوير فعبروا بها من حياة الفلاح والقرية .
وفى فن كل أستاذ كبير ايماءات مبهمة كأنها النبوءة تهمس من خلال المعالم التى حققها…… وكذلك أيضا فن ناجى…. ففيه الى جانب مميزاته الواضحة أشياء مبهمة ما زالت تشير الى جيل فسرها من بعده ومضى بها … فالفنان المصرى المعاصر يدين له بشئ سواء اتبع طريقه أو شق لنفسه مسارا جديدا .
وجيلنا الذى تفتحت عيناه على لوحاته يحفظ له التقدير العميق حين يستعرض جهاده فى الطريق النبيل …. طريق تشكيل المعالم الأولى للفن المصرى حين كانت الأرض صلبة والصحراء جرادء والمسيرة شاقة بعيدة الأغوار فى أعماق التاريخ .
ومهما تطور الفن والأدب فى مصر فسيبقى لجيل الرواد والأساتذة فخر ارتياد الطريق واكتشاف النور وأقامة هذه النهضة الرائعة التى مازالت دعامة ثقافتنا المعاصرة ومعينها الذى لا يبيد .
[1] – مقدمة كتالوج المعرض الشامل للفنان محمد ناجى والذى أقيم بقاعة الأخوين وانلى فى أبريل 1984 بالاسكندرية.