الجزء الثانى من:
رحلة لا مجدية
فاطمة مدكور
هذه هى الحلقة الثانية من “رحلة” الأديبة التشكيلية فاطمة مدكور، حيث نشرت الحلقة الأولى منذ عام تماما (عدد يناير 1983) ونحن نعتذر للقارئ وندعوه للمشاركة بالرأى فيما أخر النشر، فالأديبة فاطمة تكتب وكأنها ترسم، وهى “تعيش” اللغة أكثر مما تستعملها، وقد نحتت أشكالا جمالية حملتها نغما خاصا ورسمتها بحروف جديدة تقترب من اللفظ المتعارف عليه معجميا وتواصليا – دون التزام إلا بصدقها مع جرعة إبداعها، وكل هذا مقبول ومفهوم من حيث المبدأ، إلا أنه أساسا لغة شعرية متطورة، كما أنه قفزة لا تتحملها لا هذه المجلة – ولا مرحلة تطورنا التى تحتاج إلى ثورة لغوية ملتزمة، المهم؛ إنه يبدو أن الأديبة قد واقفت أخيرا على بعض لمسات التحرير واقتراحاته مما نرجو معها أن نكون قد حققنا مطلبها والتزامنا معا، وليعذرنا القارئ والكاتب – أن اكتشفا شططا فى الحذف أو التعديل، أو …، أو فى التجاوز والسماح، فهذا مأزق مجلتنا ورسالتها فى آن.
“التحرير”
-2-
وانطلقت منى فى سرعة خاطفة، ارتعشت بها مذهولة، ومضات تقطع المسافات ركضا، ما هذا؟
ما أنا؟ وأين كنت بها… ؟ عوالم بإيماء نافذة تنشق بى، تراقصنى على أقدام لا تقف على أرض ..، شخشخات شهيق لم آلفه …, تسكرنى تذوبنى فى أجسام الحان متماسكة متلاصقة فى غمار نسيج اسطورة أزلية لا تنتهى …، وقد تنتهى بمدى…
قد أكون خاتمة تاج بهائيا، قد أكون قمة نبضها…، قد يحج إل العاشقون عندها..، وتمتزج أحاسيسى بأشياء لا تمتزج…، تتناقل بينها كالبرق، كالدرر الحية تبعث الحياة، تبعث الأعماق, تروح تجئ تقفز تلف – تنبئ ببعث: صعد يصحح الصحو، يذكر النبض…، وتظل بى مهجتى – فقد عبرت حدودى، وأنبسط عودى…، وذكرونى رفاقى أنى أعى ما قد تقوقع داخلى، وأخذت فى روعة..، تفجرت بصرعة النشوى، ها قد كان الوجود عندى، وقد أصبحت لتوى مالكة..، أم هو يملكنى، وقد أسموه حبا – وتلفظت – وتلفظت دون حروف – يا حبيبى أننى بعثت حيا.
أتراها يدى إليك أم اجنحة تحمله بك؟ قد تلاشت خطوة الفصل، وتنهدت قبلات الوجد، قد لا أكون – قد أكون – قد كنت فأنا الآن تخلقت وعيون ذاتى تلاصقت بك لهفه.
-3-
آه !!.. كان تيارا يجتاحنى، يجعلنى أنكمش وأهتز! اهتزازات سريعة.. ، أه. وليكن نفسا يخرج دفعة – لتعود عضلات وجهى لانبساطها الطبيعى فوق عظام جمجمتى التى أشعر بصلابة جدرانها أسفل غلافها هذا اللين المتحرك.
واحتياج جارف – أريد أرتمى بنفسى كلها بين دفء نقرات الحب ونقرات أنامل الحب الرقيقة، فوق كل خلية بين خلايا تكوينى الصاخب..، أريد أن يعاد لى ما قد سلبته من تكوينى حكمة الحياة لأظل أبحث عنه – فى زوايها الغامضة البعيدة – قد خرجت للحياة وفى عمق كل بؤرة خلية، يصرخ النهم سابح فى ماء كل نواة لها – يهيم مجروحا ينزف منه الألم… أين ومتى يلتئم الاحتياج … ويتم التكامل..؟ كيف أعى أن فى الحياة نضوجا للوجود…؟ كيف أصبح معترفا بهذا الذى يخايل فضولى ويقال عنه السعادة؟ – كيف أعى أن فى الحياة سعادة وهى التى – حتى الآن دائما دائما منفلتة ضائعة تنقرنى وتشدنى ثم تتركنى منجذبة خلفها؟ وفى أعماق ذاتى هذا الجرح الذى يتضاعف صراخه.. وتلقمه الحياة سم الألم، وتثير نداءه لأنه يحمل فى رعشته نصفا من هذا الذى يبحث عنه… يبحث عن التئامه.
هل الحب صرخة نحو مجهول مدرك.؟ مدرك بلا وعى بين أهداق خيوط تيار الأثير الشعورى فى وجود الروح.. داخل الجسم؟!!.. هذا الجسم.. صورة الإنسان … هل الحب رعدة الصراخ التى لا تتراجع بقوتها وتأثيرها اللامحدود الامتداد فى أعماق الشعور اللانهائية السابحة فى خضم هذا الكون العنيد فوق إدراك الإنسان وتصوره؟
أهو نداء لصراخ صامت مرعد؟ نداء أبدى لشطرة الوجود المنفصلة عن الإنسان فى داخله..؟ فى بحر الحياة يسريان سرى المسيرة منجذب فى كل اعوجاج، ومنحنى نحو قمة الالتئام فى نصف وجود منتظر عند ذات مقابلة فى كيان آخر.. وتتقابل المسيرتين ويتم الشرار – يعلن التكامل، يعلن الالتئام.
نصف طائر مجروح – يحاول أن يعى التلاؤم – عبارة من أقول للشاعر … … الصديق قفز ذهنى إليها..، حقيقة تذكرتها، وهى فى النهاية تؤكد رحلة مسيرة تبحث عن التكامل من مسالك غموض الإنسان المضيئة، نبض فى عالم الوجود اللاواعى المنتمى – المنتمى لوعاء.. الإنسان، والمنتمى لجاذبية وجوده السابحة فى رحلة بحثها عن السعادة والالتقاء.
-4-
تراسيب تتكاثف ويتثاقل بها جسدى .. ورائحة الألم تتصاعد، ويتفتق خيالى… أريد أن أتفكك وتتناثر تراكيبى وأطل من أعلى – أرى من خلف عينى أضحوكة المهزلة، مداعبات داخل صدرى تنعش ميولا دفينة – تلاعب أصابعى وزيغ عينى وسذاجة ابتسامتى وتلفت مفاصلى: هى تزديدات التراخى..
أريد أن أتلهى، فقلبى ينبض الضحك، يندفع بى، لحظات شفافة تتهاوى فيها براءة طفولة سعيدة مبهجة…، مضمونها معاناة وألم وضحك واندفاع وإحساس غامر بالمتعة.
حيويتى هى ظلى…، ابتسامتى تساؤلى..، صمتى بكائى..، يومى تفتحى وانبساطى المشتت – فقط تواقة الآن لأعى سر عمرى الأول بإدراكى المكثف عبر تراحيل السنين، أعود لوقفات عديدة لا زالت تسبح فى حسى، لا زالت تتهافت بذهنى، روحى نبضها الباقى، إنها تراسيب لوقود لا زالت ينتظر فى لحظة يجهلها القدر، شرارة التفجر.
لا يوجد هناك غموض رغم تكشفه: هو قمة الغموض ذاتها…، وقد يتخايل اعتقادى بى، ولكنه حقيقة لم تتفهم بعد لغة الداخل، .. أنى لك يا نفسى، فى صدرى عصفور الفناء – طلاسم حسى إدراك الوجود وقبضة التعلق.
-5-
.. هناك .. الطبول.. هذا الحديث.. اللغة الرمزية.. تدق هذه الطبول فوق رقائق أغلفة الندى..، فوق بطانات أعماقى الملتوية، أو تدق أسفلها أو بين عصب خلايا مادتها أو … أو… أو…
يا حبيبى.. طبول البعث.. تجعلنى أتداخل بنفسى فى نفسى ، وكما أنى جسم هولامى ليس له شكل أو حركة ثابتة ولكنه فى تسرب تشكله وحركته لمطلب الحياة: يسبح داخل جيوب الحياة المترحلة المتداخلة بين الجسم والزوائد والانقسامات الكونية له.
-6-
…. …. …. الآن صوتى ينادى، خفوت من أعماق بعيدة.. صدى نبض دفين من وراء أبعاد نقية مضيئة، حلم، فى تبحلق..، وموسيقى تغزو أذنى وترتد..، ففى داخل نسيجى موسيقى حلم مروع..، آه ما هذا الصخب آه…، فجاءة المعايشة..، ابتسام فوق شفاهى الفاغرة..، وذهن مفتوح دون احتكاك بخاطرة..، قلبى يتحدث..، قلبى بين كل كل أخمص خلية، محادثا قلبى أسفل نسيج لحمى الذى فوقه ذراعاى النائمتان، انجذاب متشنج للحظة الروعة المحلقة – قلبى يتحدث حديثة الموحى، … والنسيم يخطف الابتسام مترقبا الابتسام، … فقد ابتسمت،… أضج ضجا، … أصخب صخبا، فإننى أبتسم.. وقد تلفظت شفاهى: حبيبى القمر..، حبيبتى الشمس..، حبيبتى الحياة..، حبى…
-7-
“مقتطف من معاناة”
أكاد أن أسقط من تقلصات تصعد لحنجرتى ثم لأنفى، وأمرض بشبه زكام، وعينى يغلب عليها النعاس، وانتصاب قدماى فوق الأرض حائر متوتر ما بين الارتخاء والتعامد عليها، وبنشوة على خصرى أمر عليه بضغط عصبى فى اتجاهات لا محدودة.. وتغوص رقبتى بين عظام كتفى وتشتعل عينى فتضيق حدقتها على حافة الانفجار..، انتفض وبلا مبالاة أتصرف وكأنى أستيقظ من كابوس ثقيل، وأغضب من نفسى لتصاعدها إلى هذا الحد باستمرارها فى هذا الموقف الممل البليد المتكرر المجهد..، آه إن شياطين النفس.. حراس أعماقها البعيدة.. ذات قسوة فاصمة بين أبيض وأسود، بين اصيل وزائف..، بين مجدى ولا مجدى..، بين قيم وتافه، ودائما هى ثائرة دائما..، ميزان حرارة السعادة هو الحياة..، رعشات التوتر الدفين المنخرط من أيقونة كيانى المتوهج..، وأننى لأثق فى ميزانى الدقيق..، اللاشعورى الشعورى.. “كونترول” قلعة النفس .. .. .. ..
….. يؤلمنى ألما عظيما هذا المأوى الحزين لابتسامة تنعش عينى، ويتسع بها وجهى: انقباض وانبساط عضلى..، .. أشعر بروح أسطورة مغلقة..، أشعر بوجهى وصدرى الصاخب، بطيور نبضه المتطايرة، بسعادة الوجود المنقبضة..، بذاتى، وابتسامتى البريئة على فمى وبريقها الخجول فى عينى الضيقتين…، وتظل المسيرة…، ويمسح اللحظ الحزين بريق المرح حيث تتلاشى..، وتظل السعادة فى صدرى تنقبض وتنفرج وأهتز لصراخ جدران وعائى الضاغط على، .. فقد توجهت بى الحقيقة الدائمة المترقبة الوقورة دائما..، بمسحات الحزن..، السعادة المؤلمة.. المرتدة..، التفاعل المحيى والمميت، لأنى أفقد يديك اللتين تجذب المرح أمامى .. وأتلعثم بأنفاسى وأنزوى.. لأنك لست بجوارى .. وأمضى كالطفل العجوز الحزين.
أن صعد بى الحب لمنتهاه فى لحظة.. .. وأن تكن هذه اللحظة من بداية هذا اليوم .. فهو خدعة التصور..، الحقيقة توضح بعد ذلك أنه مبتدئه إيماءه استعداد للانتفاض واليقظة الشاملة العظمية للتطور بالذات المتصاعد باستمرار.
-8-
- اندفاع انطلاقى فى عنفوان سرعتها المتباطئ.. أسارير رأسى القلقة .. وصدرى يختمر الصبر..، كونى لى أجنحتى..، السبيل..؟، ما من خطوة أسرعت لهفى..، صدمة النهى تفاجئنى..، اصبح برقى يرقى إلى ظلمات القلق..، تعودت المسيرة..، لم يعد خطوى ..، انتقض الكبت..، ألحق ما قد يلاحق النهم..، أتباطأ ولم يعد لى حول، فقد تناهت قدرة الخطو..، وأتكاثف بفائض همسى..، رعشات صليل، نبض متفجر..، أغثنى ضوئى المديد..، تقترب منى… أقاربك..، ألا زلت بعد بعيداً..
هنيات – عينى تدمع .. قارورة لبى.. ذلك الكتوم المنزوى يلفظ رعدة .. قلبى يتداعى صراخا له..
خيوط صدرى تتوله رجفة مرجوعة..، أين .؟
هلمى نفسى.. تعلقى .. احتضنى من ذاتك طفل تلذذك..، أن عذاباتك لا تنتهى.. أسطورة رعشات حية تحيى أسطورة ومض مجهول ضائع بين غوامض لم يأت القرب منها إلا بالتباعد..، آه أرهقت طيرى ولكنى سابحة..، سمائى أرضى..، وأرضى فضائى..، وقد علقت أبدا..
- دحروجة الديمومة..، تداعى فى سرعتى، شرر احتكاكى، واصلب عرى صدرى..، برودة تنخر انكماشات رعبى..، وتخرج أبخرة شفافة من دم وضوء ورماد نسيجى المتضائل..، لم يعد لى حوائط .. بل نهايات،.. أبيحت عوالم فضائى..، يستشف رحيق معاناتى وقد تلاشيت، رغم أننى كومة بالية قد خلفتها وانطلقت إلى لا نهاية مهولة، فأننى لا زلت أمضى، بل لم أعد أمضى، ربما أعود أمضى..، تشابه أمامى وخلفى ..، وسرعتى هى بطئى..
- حدودى نفدت وأعانى صلبى.. روحى معلقة .. مرصودة من أزل، متحف الوجود الموحش طلاسم.
توقفت تساؤلاتى ..، تجمدت رأسى.. وبؤرة نور ذاتى تتوهج .. هى فقط شرارتى .. ترطن غموض اللغة.. تعلن عن صعودى.. وعلمت .. ببداية النهاية .. وأننى علقت أبدا..
(جـ) أموت حلمى. وأتوه – ورؤس جمود لحظتى تتفكك..، وأتبعثر، وأصرخ الضياغ، هل هذا مطافى..؟ أغثنى.
ولمن؟! .. لا أدرى، نعم.. لذلك الكائن المنبزغ منى..، الذائب فى خيوط أنفاسى المتصلة..، عد إلى ..، أحتضر. يئست ..، نهبت نيران مواقدى – قواى.. وتبقيت ثرثرات ذراعى..، حركتى متخمة.. أعيدوا وعيى.., أعيدوا وعيى..
أموت يا أمى.، يا أمى.. تساوت أشيائى بأشياء “جسدى بمفاصله وعضلاته” لم يعد ثمة فارق.. وأسمع إيقاع الملل. .. رغم الخواء.. ، يحتوينى عدم، والعدم يعشش فى خلاياى..، يتصارع بنبضة العنيد..، وأشهد مأساة وجودى، وأهمل كالأشياء..، تتلاحم الأشكال وقد عدت منها..، وعند المطاف.. فى بداية التيقظ أنخرط..، وتتميز أجزائى..، وتنفصل عن المهاترات..
.. وأفتح عيون وعيى حلقات سوداء تحيط بها..، رماد الموت يتباعد، يتراكم، يتكشف فى حدودها ويبتسم هرائى..، ويبتسم عبسى .. نبض آت أسمع ترديده.. وأومئ..، وأقف.., أنفض وبائى..، معذرة لا زالت أتالم ولكنى سأمضى.
هل ترى يدى؟ .. أرفعها لك..، هل هى موجودة..؟، آه لا زالت أقومها.. كى تعود منتصبة..، ضوء أناملها.. إشعاع العودة.. تباشير عودتى..، أننى أذن: أسمع حديثى لك يطن كالرعد..
سابح فى بحر الفضاء..، يسعى إلى عناقك والتعلق بك.. حبى الذى لازلت مفطورة أسعى فيه حبا، أريح متاعبى واستقبلنى شهيدا أبدياً.
(الجزء الثالث: العدد القادم)