نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 19-9-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4767
“يستعمل من الظاهر” (1)
(1)
“هذا طريق مسدود”. هذا ما قاله أبوها وهو يراقبها من خلفها وهى تحاول أن تجعل الفأر فى أقصى المربعات يصل إلى قطعة الجبن فى المنتصف، احتجت غاضبة: لماذا قلتَ لى؟ كنت سأعرف وحدى،
قال لها: ولكنكِ علّمتِ بالقلم فعلا فى الطريق المسدود، ولا سبيل للرجوع،
قالت له: من الذى قال لك إنه لا سبيل للرجوع؟
قال: لا أحد، ولكننى خفت عليك أن تفشلى.
قالت: وحضرتك مالك؟
أحس بتنميل فى يده، فعرف أنه كان يستعد لصفعها على قفاها، فنهر كفه ومضى.
(2)
وقفت هى هذه المرة خلفه وهو يفرد الصحيفة أمامه وسألته عما يقرأ، فأجاب بجدية ظاهرة: “أقرأ الإعلانات كما ترين”، فتمادت تسأل: ألاّ قل لى يا والدى، لماذا خلق الله لنا العقل؟
قال: لنقرأ به الإعلانات؟
قالت: ماذا؟ فأكمل وهو يخفى سخريته أكثر: بصراحة يا حبيبتى أنا أقرأ الإعلانات باعتبارها ألغازا تحتاج إلى حل، فلا عندنا ما نشترى به، ولا أنا أفهمها،
قالت: ربما لأن حضرتك لا تستعمل عقلك كما يجب.
قال غاضبا: ما هذا؟ أنت قليلة الأدب.
قالت له: “لماذا يا والدى؟ لقد نبهونا فى المدرسة أن من يستعمل عقله بغير الطريقة التى قالوا عنها هو مخطىء جدا، وأن هذا ذنب يستأهل الاستغفار؟
قال: ماذا !!!؟
قالت: ألاّ قل لى يا أبى هل معقول أن يخلق الله لنا العقل كما هو هكذا مع أنه حرام؟
قال: هو هكذا ماذا؟ ألا يكفى أن تحلي به ألغاز ميكى، أنا أتسلى به فى حل ألغاز البورصة والإعلانات؟
قالت: “بورصة” يعنى ماذا؟
قال: لا أعلم، ثم أردف: المهم: ما الذى سمحوا لك أن تستعملى عقلك فيه؟
قالت: أعبـِّـر به عما قالوه كما قالوه، فى موضوعات “التعبير”
قال لنفسه: ربما لذلك غيروا الاسم من مادة “الإنشاء”، إلى مادة التعبير!! ليختصوا هم بالإنشاء، ونختص نحن بالتعبير عما أنشأوه وتنفيذ ما قرروه، ثم علا صوت تفكيره الصامت وهو يسأل نفسه: لكن من الذى يميز بين التقرير والتعبير والتفكير؟ سمعته البنت رغما عنه فسألته: ماذا تقول يا أبى؟
قال: لا شىء.
(3)
سمعتْ الزغاريد والدفوف خارج باب الشقة وهى “طالعة السلالم يا ما شالله عليها، فتراقَصَ داخلها سرا بعد أن اطمأنت – سرّا حتى عن نفسها– أن إطار جسدها انغلق عليها بدرجة كافية، متبعا تعليمات صدرت إليه بمجرد أن بدأت بروزات فى صدرها تتحسس طريقها إلى ما خلقها الله، وبتكرار اتباع تلك التعليمات حذق جدار الجسد لعبة التصلب،
قالت لأمها: قولى لى يا أمى: هل استعمال الجسد حرام مثل استعمال العقل؟
قالت الأم: ومن قال لكِ إن استعمال العقل حرام؟
قالت البنت: الناس الذين يفكرون نيابة عنا؟
قالت الأم: ماذا تعنين؟
قالت البنت: كما ترقص الراقصات فى الأفراح نيابة عنا.
قالت الأم: الرقص شيء والتفكير شيء آخر
قالت البنت: وهل التفكير ممكن بالنيابة أيضا؟
قالت الأم: لست فاهمة شيئا. ماذا بك يا بنت؟
تمادت البنت وجسدها يتقافز داخل نفسه يتابع الأنغام والدفوف على السلالم (ياما شالله عليها) ،
قالت: أقصد يعنى: لماذ خلق الله لنا الجسد؟.
قالت الأم: لتسكن فيه الروح،
قالت البنت: وهل الروح تحتاج إلى سكن؟ ثم إن الأستاذ قال لنا إنه ليس لنا دعوة بالروح، لأنها من أمر ربنا فقط،
همست الأم لنفسها “صحيح”!! ثم أكملت لنفسها أيضا: إذن لماذا خلق الله لنا الجسد؟. ولم تحاول الأم أن تتذكر أن هذا السؤال هو هو الذى يطرأ على ذهنها كلما جمعها السرير مع زوجها الفاضل جدا، عادت إلى البنت تسألها: مالذى جعلك تفكرين هكذا؟
قالت البنت: حين عرفت من الأساتذة أن من يفكر بعقله لا بد أن يستغفر، حتى لا يذهب إلى النار، وجدت جسدى يفكر بديلا عن عقلى.
قالت الأم: هل جننت: جسدك يفكر؟!!؟
قالت البنت خائفة: أعنى يعبـّر،
قالت الأم: ألعن، أنت تخرفين، يعبر يعنى ماذا؟ عن ماذا؟
قالت البنت: ربما يمكنه أن يكتب موضوع التعبير أحسن،
قالت الأم فزعة أكثر: لقد جننتِ فعلا، أو لعلك تمزحين، إغربى عن وجهى. تمتمت البنت وهى تمضى: أليس ربنا هو الذى خلقنا هكذا؟
(4)
الزفة ما زالت طالعة السلالم يا ما شالله عليها، ثم إنه “باسم الله الرحمن الرحيم حانفرح الليلة”. سألت البنت ربها: كيف يا ربنا نفرح وقد حرموا عقلنا من الإنشاء فالتعبير، ثم حرموا جسدنا من الرقص والتفكير؟
فتحت باب الشقة متسحبة.
كانت الزفة قد اختفت فى الدور الأعلى، فلمحت قطة جرباء تجرى على باسطة السلم وفى فمها فأر حى، فزعت، ورفضت، وأغمضت…
إنها تكره القطط، وتخافها،
ولا تحب الفئران، وتقرف منها!.
[1] – نشرت بالدستور بتاريخ: 12 – 7 – 2006.