جريدة التحرير
25-2-2012
تعتعة التحرير
“… وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا”
أنهيت مقالا لى سبق نشره تفسيرا لمجزرة بورسعيد بنصيحة للشبان هكذا: أولا “…. بالتوجه فورا إلى مجلس الشعب ليتحمل مسئوليته، ….، حتى لو وصل الأمر إلى مطالبة المجلس، أن يصدر قانونا بإنشاء “محكمة الثورة” أو”محكمة الشعب”، ليُحاكم خلال اسبوعين أو شهر على الأكثر عشرة أو خمسة آلاف، ولتحكم المحكمة المستعجلة بالإعدام على ألف، أو ما تشاء، وليكن منهم ثلاثمائه أبرياء، فهم سيفوزون بالشهادة ..إلخ ” …..، ثم ثانيا: أن نتذكر أن اكرام شهدائنا الأصليين يكون بالدعاء لنا بأن نلحقهم حيث يكرمون،…..، ثم نروح نحن نواصل إتمام رسالتهم لبناء مصر دون التوقف عند الانتقام من قاتليهم الذين قد تم إعدامهم غالبا بمحكمة الثورة إياها، أو حتى، إن لم تتكون هذه المحكمة: الذين تجرى محاكمتهم بمحكمة العدل الدستورية الشريفه أو محكمة العدل الأعظم!! ..إلخ..”
ولم يربط معظم القراء – معذورين- بين “أولا” و”ثانيا”، ، وكتب لى بعضهم من الداخل والخارج ما يعبر عن انزعاجهم أن يكون تشكيل المحكمة الاستثنائية هو اقتراحى ورغبتى، حتى كتب لى إبنى وصديقى الدكتور رفيق حاتم من سان سباستيان بفرنسا حلماً “كابوسا” رآنى فيه جلادا يساعد فى تنفيذ أحكام الإعدام فى أبرياء الواحد تلو الآخر، وقام من الحلم فزعا.
حين كتبت اقتراح المحكمة الاستثنائية هذه على كره منى، ثم جاءتنى هذه القراءات الانتقائية، تعجبت لأننى كتبته لأظهر بشاعته فيرفض، كنت أتوقع رفضا خاصا للاقتراح من أحد أعضاء مجلس الشعب دفاعا عن العدل وإظهارا لروعة سماحة الإسلام وقوته فى آن، كنت أتوقع أن يعلمنا هذا المجلس مسلمين وغير مسلمين، عربا وأجانب! كيف أن القرآن الكريم يحمى المتهم – مهما كانت كراهيتنا له- حتى تثبت إدانته، بل إن الإسلام يتحيز للعدل حتى بعد أن تثبت الإدانة على أحد أطراف القضية (أنظر بعد)، كنت أتمنى أن ينبرى أحد هؤلاء النواب الأفاضل يعلم الناس آداب وأخلاق الإسلام الحقيقى حين يتقدم بالتنبيه إلى رفض مثل هذه الاقتراحات درءًا للظلم، ثم يتقدم بتشريع يجرّم من يتطاول على القضاة وأحكامهم إلا بالطريق القانونى وهكذا يتعلم الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين أن ما يجرى فى الشارع هذه الأيام من اتهامات عشوائية، ثم محاكمات شعبية أو ثورية!!!! ثم أحكام عمياء، كل ذلك هو ضد الإسلام مائة فى المائة بنص الآية الثامنة من سورة المائدة :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
لو أن المجلس فعل ذلك انطلاقا من هذه الآية الكريمة لأدرك من تشككوا فى شعارهم “الإسلام هو الحل” أن هذا الشعار استطاع أن يواجه ما يجرى فى محاكم الشارع والميادين، فى نفس الوقت الذى يحمى فيه الناس من المحاكم الاستثنائية، التى يقيمها المتحمسون والمستعجلون.
من آداب الإسلام الحقيقى، وكل دين حقيقى أنه ليس من حق أى مخلوق أيا كان أن يصدر أحكاما على غيره وهو جالس يتشمس، حتى فى ميدان التحرير، يصدر أحكاما تصل إلى الإعدام، ناهيك عن الأحكام الأخلاقية الفوقية وغير الفوقية؟
نعم وألف نعم، كان هناك ظلم وسرقة واعتقال وتعذيب وتشريد، نعم كانت هناك تغطية وتفويت وترهيب وترغيب يحول دون إقامة العدل، لكن كل هذا لا يبرر ولا يسمح أن تعقد المحاكم على الأرصفة، وأن تستأنف الأحكام على أوراق الصحف، وأن يُصدر حكم النقض مذيع التوك شو بالسلامة.
الدين الحق يعلمنا أن نحترم بعضنا بعضا، وأول من نحترم هو مؤسسة قائمة راسخة هى مؤسسة القضاء. وهى فى البداية والنهاية مؤسسة من البشر، وبالتالى فالخطأ وارد، والظلم محتمل، والتفتيش القضائى جاهز، والله موجود، لكن أن يكون أى من ذلك مبررا أن نمسك السياط (الكرابيج) وهات يا استعجال للأحكام، وهات يا تعليق على الأحكام فى الشارع وفى الصحف وفى الفضائيات، وهات يا وضع شروط للقاضى قبل أن ينظر فى أوراق القضية، فلا وألف لا؟
حين كنت أتولى تدريس الطب الشرعى النفسى لأكثر من عشر سنوات لمساعدى النيابة وبعض وكلائها، فى المركز القومى للدراسات القضائية فى السبعينات والثمانينات حكى لى سيادة المستشار سمير ناجى عن عبد العزيز باشا فهمى، وكيف أن محاميا شكر المحكمة على “حسن إنصاتها وسعة صدرها” ، فانبرى له عبد العزيز باشا منبها أن “المحكمة تؤدى واجبها، وهى لاتقبل الشكر من أحد لأن من يملك المديح يملك الذم”، إلى هذه الدرجة كانت المؤسسات عزيزة برجالها، ونحن الآن نسمع تهديدات للقضاة وصلت إلى التهديد بحرب أهلية إن صدر الحكم بالبراءة لفلان أو علان، فكيف ينام هذا القاضى الشريف وهو يتقى الله فى عمله ودينه ووطنه؟
ليس عملا ثانويا أن ينبرى أحد نواب الشعب، من أى لون ودين، ليوضح للناس المكلومين موقف الإسلام الحقيقى، مستشهدا بهذه الآية وغيرها، ولو فعل ونجح لقلنا فى هذا المجلس مثلما قالت السيدة عاشئة رضى الله عنها فى رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا مجلس خُلُقُه القرآن”، لأنه – من واقع الأفعال– يصل بأخلاق القرآن إلى كل الناس فعلا إيجابيا ماثلا حاميا القضاة والمتهمين معا، بل حاميا أيضا المجرمين من أنفسهم، وهكذا يرى الناس (يشاهدون) الإسلام وهو يطبق لصالحهم ولتوثيق العدل على كل المستويات، ولا يكتفون بسماع ألفاظه، وشعاراته مع وقف التنفيذ إلا فى الهوامش.
أنتقل بعد ذلك إلى مستوى أعمق من أخلاق القرآن حين ينبهنا أنه “بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”، فالأعلم بما فعل هو من فعل الفعل، ولنفرض أن محكمة حكمت بالبراءة على مجرم هو يعلم أنه مجرم، فهو ينتقل إلى محكمة نفسه ثم محكمة ربه، وخذ عندك.
والعكس صحيح كما جاء فى الحديث الشريف: “إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار”
لو أن مكرم عبيد – وكان يحفظ القرآن على ما سمعت- أو عبد العزيز باشا فهمى (ونحن نعلم موقفه من كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق)، كانوا أعضاء اليوم فى هذا المجلس، لفعلوها دون تردد!!