نشرة “الإنسان والتطور”
23-11-2011
السنة الخامسة
العدد: 1545
وهذا حوار آخر، حول الجارى
مقدمة:
هذا حوار آخر، ليس له علاقة مباشرة بحوار الأمس إلا قليلا، وهو يدور حول الحالة الراهنة، لم ينشر بعد، وإن كانت بعض الأسئلة تبدو معادة، ليس بالضرورة فى حوار أمس، لكننى أننى أجبت على أغلبها فى كتاباتى ولقاءاتى السمعية والبصرية، وفى بريد الجمعة هنا كثيرأن إلا أننى وجدت فيه جرعة أقل عن شخصى، وجرعة أكبر عن الجارى، فقلت أثبته إكمالا للصورة لعل به بعض ما يمكن أن يفيد مما نحن فى أشد الحاجة إليه، فالمأزق يزداد تأزما.
****
1- ما هو تفسيرك للتحول الذى حدث فى سلوك المصريين وجنوحهم نحو العنف بهذا الشكل غير المسبوق؟
ج1- لم يحدث تحوّل لدى المصريين بمعنى ظهور نوع جديد من القيم والسلوك، كما يتردد فى معظم وسائل الاعلام ومعظم أسئلة الاعلاميين، فمن ناحية نحن لم نتعرف على من هم المصريون قبل هذا الذى حدث حتى نعرف ماذا حدث لهم أو تغير فيهم، لم تكن هناك معالم جامعة مانعة، ولكن كان هناك تاريخ وإشاعات عن مصر والمصريين كما نتخيلهم، والمصريون مثل كل شعب هم مجموعة شرائح متفرقه لكنهم تشرذموا أخيرا أكثر فأكثر ِإلى جزر متباعدة وثقافات فرعية متعددة، فمصريوا المدارس الأجنبيه وهم يمثلون جزءًا كبيرا مما يسمى شباب الثورة، غير مصريوا مدارس الأمية، غير مصريوا اللامدارس (مراكز الدروس) والمصريون فى بنى مزار أو نجع حمادى غير المصريين فى جاردن سيتى والزمالك فكيف نطلق هذه الاسئلة عن التغير على الجميع هكذا دفعة واحدة.
الذى حدث هو انفلات لما هو بداخل مجموعة من البشر هم المصريون الآن، مجموعة من الناس، لم يأخذوا فرصة بناء منظومات قيم إيجابية جماعية من أول الانتماء للوطن، حتى الالتزام بالدين مرورا بغياب الردع الأخلاقى، إذْ كان الذى يجمعهم قسرا هو الضبط والربط من الخارج فقط، وبمجرد أن رفعت الضغوط بعد تآكلت مواد القهر: انكسر الغطاء، وظهر التمزْق وانطلقت الجزر المنفصلة كلٌّ فى اتجاه مختلف نتيجة لتراكم الفراغ وجذب اللاهدف إلى المجهول.
2- البعض يؤكد مقولة أن المصريين “مابيجوش غير بالكرباج” ويعتبرونها حقيقة واقعية؟
ج2- العنف طبيعة بشرية، ولا توجد وسيلة مشروعة عامة لاستيعاب هذه الطبيعة، مثلما هو الحال فى طاقة الجنس مثلا الذى يستوعبه الحب والزواج وما إلى ذلك، عندى نظرية أن العنف لا يستوعبه إيجابيا إلا المرحلة الأولى من الإبداع، وهى مرحلة التفكيك، والمجتمع المصرى لم تتح له أية فرصة حقيقية عامة لتنمية الإبداع الذى يمك نه استيعاب العنف الطبيعى لتفكيك المتجمد فى وجودنا، لنطلق طاقات النمو والتطور فينا، فنحن لم نتعلم كيف نتحمل مسئولية التفكيك لإعادة التشكيل، وهو ما سمى “الفوضى الخلاقة” على المستوى السياسى، وحين ارتفع الغطاء كما ذكرت فى إجابة السؤال الأول انطلقت الفوضى، وحين جاءت مرحلة تجميع الأجزاء المتناثرة فى تشكيل جديد وجدنا أنفسنا لم نتعلم أن ننتقل إلى هذه المرحلة فتوقفنا عند مرحلة الفوضى بلا غطاء ضامّ، ولا حركة هادفة، فكان ما كان، من هؤلاء البعض.
المصريون مثل كل البشر يتجمعون فى مجتمعات تخلق فيما بينها أعراف وقوانين تنظمهم، ثم تفرز من بينها قيادات ومؤسسات تنفذ هذه القوانين، ومنذ ستين عاما لم يحدث مثل ذلك فى مصر، لكن الذى حدث هو أن جاء مجموعة من العسكر، حتى لو كانوا حسنى النية فأغلبهم كانوا بلا خبرة ولا تاريخ ولا محكات لنقيس بها أداءهم، أو حتى يقيسونه هم، كما لم تكن لهم معرفة بجمّاع وعى الناس، جاءت هذه المجموعة ورسمت خطوطا فوقية وحواجز وأنظمة اعتقدت أنها الأصلح لهؤلاء الناس دون مشاركتهم، وانتقل النظام من حاكم إلى حاكم إلى حاكم عبر ستين سنة دون تغيير إلا فى الشخص والشكل الظاهرى، ثم نسى هؤلاء الحكام أنهم يحكمون ناسا، وركزوا بالتالى على الثلل وأصحاب المصالح ممن يمكن أن اسميهم “مقاولى أنفار السياسة” ثلة من المنتفعين مهمتهم توريد عمال ترحيلة بالملايين، حسبوهم الجماهير واستعملوهم بعض الوقت لملأ المقاطف (الشهيرة بالصناديق) فى الانتخابات تلو الانتخابات، وهات يا تقسيم للغنيمة دون تخطيط أو مستقبل أو محكات تقيس الأداء، مجتمع يصل به الأمر إلى انعدام المدارس لأغلبية النشء وانعدام الانتماء إلا لكرة القدم فى المناسبات وانعدام التنشيط الثقافى والإبداعى، هذا المجتمع لا تستطيع أن تحكم عليه هذا الحكم القاسى، ولو فى صيغة سؤال “مابيجوش غير بالكرباج”، ألم يكفنا ما دفعنا حتى يكملون علينا بمثل هذه الأحكام؟
3- هل ترى أن هذا يعتبر انتكاسة فى الشخصية المصرية؟
ج3- انتكاسة ماذا؟ وهل نحن كنا تعافينا منذ ستين سنة حتى ننتكس، أنا أكره كلمة نكسة وانتكاسة منذ استعملناها اسما للتدليل لهزيمة 1967.
4- توقعاتك خلال الانتخابات المقبلة هل يكون فيها دم وعنف وبلطجة أم لا.. ولماذا؟
ج4- بعد حكم أمس وعودة حق أعضاء الحزب فى الترشيح سوف تكون معركة حامية الوطيس، وإن كنت لا أستبعد تحالف بين القوى الإسلامية والحزب الوطنى لأن هذا الحزب نفسه يستعمل ألفاظا إسلامية وقرآنية على العمال وعلى البطال فى حركاته الدعائية طول عمره، وبالتالى يتوقعة منه نفس الأسلوب لاحقا، سوف يكون التنافس على من يستعمل الإسلام لصالح نجاحه وفشله وليس لصالح مصر أو صالح المسلمين.
نعم سوف تكون معركة قبائل وكذب وبلطجة واستعراض قوة، وسيغيب فيها الاقتصاد والأمن والإبداع، فتغيب مصر عن المستقبل.
5- تحليل وتفسير ما حدث فى سوهاج وكفر الشيخ من عنف ودم خلال الأيام القليلة الماضية؟
ج5- هو نفس التفسير، بمعنى إنها البدائية التى انكشفت بعد إزاحة غطاء القمع، هى الفوضى التى لم يلحقها الإبداع، وهذا نتيجة غياب الدولة، وانعدام الأبوة الحازمة الحانية معا، فرجعنا إلى صراعات القبائل، بل أكاد أقول إلى صراع البقاء فى الغابة، المطلوب ألا نتوقف عند هذه المرحلة، وأن نعرف أن ثمن الحرية (وليس فقط الديمقراطية) غال وعلينا أن نستعد لدفعه لمدة طويلة، وأن يتحمل الاعلام مسئوليته ويضبط الجرعة بين الإثارة، والتهييج على ناحية وبين حفز العمل وبناء الدولة على الناحية الأخرى الأبقى والأهم.