كتاب لم ينشر ورقياً:
عن الوعى الشعبى، وقصور الطب الرسمى
وقاية بالإيمان
أم
علاج بالقرآن
أ.د. يحيى الرخاوى
المحتوى
مقدمة ……………………………………………………………………………………………………………………………..
تلخيص المراد ………………….. …………………………………………………………………………………………….
الانغلاق فى المعلومات الجاهزة يختزل الواقع
(مقتطف من: العلم والمعلومات وثقافة الخرافة) …………………………………………………………………………
الحاجة إلى: عـلْمَنةِ الخرافة
والتفرقة بين الخرافة والغيب……………………………………………………………………………………………………
علاج بالقرآن أم وقاية بالإيمان …………………………………………………………………………………………..
توضيح آخر، من مدخل مباشر عن: (العلاج بالقرآن) ……………………………………………………………
عن العلاج بالتفاهم مع الجان، أو تسخيره (حديث) ………………………………………………………………….
الجن و”تعدد الذوات” والأمراض النفسية ………………………………………………………………………………….
المس والتنويم المغناطيسى وتحريك الأشياء بالنظر والحسد………………………………………………………..
عن المخاوية وزواج الجان ……………………………………………………………………………………………………
قياس تطبيقى فى الهم السياسى!! من مقال” تحضير الجان….هو الحل“………………………………………..
نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى بين يحيى حقى وخيرى شلبى ……………………………………………………
* * *
دفعنى خلاف محتج مع معدى ومقدمى حلقة من حلقات “البيت بيتك” الإبن والصديق محمود سعد وزميلاته وزملائه عن “العلاج بالقرآن” إلى أن ألجأ إلى أوراقى أقلب فيها أملاً فى إيضاح مناسب.
كان الاحتجاج على عدم تناسب المساحة التى منحت للسيدة الفاضلة المعالجة بالقرآن، مع عرض بعض حالاتها مقارنة بالمساحة التى يمكن أن تعطى لثلاثة من أساتذة الجامعة على اختلاف تخصصهم (كنت أحدهم) فى نفس اللقاء، وأيضا على عرض جزئيات من حالات تقول أنها شفيت عرضت وهى منفصلة عن سياقها الكلى، وعن احتمالات المتابعة (وربما الاحصاء)، لم يكن اعتراض ذلك بهدف رغبتى فى استعراض معطيات العلم والطب فى مقابل ما تفعله السيدة الفاضلة، وإنما كان تنبيها لمسئولية الإعلام لما يتبقى من مثل هذه البرامج الهامة التى تقدم بمنتهى حسن النية والأمانة. ومع ذلك قد تأتى بعكس المراد منها.
خلال الاسبوعين السابقين لهذه الحلقة فى البرنامج (22/11/2006) كان قد عرضت حلقات متتالية عن نفس الموضوع فى قناة روتانا مع النابهة “هالة سرحان”، وكنت قد قمت بتسجيلها مع ضيفات كريمات على درجة عالية من الثقافة والذوق والجمال، وقد فوجئت عند العرض أن ما سجلناه فى أكثر من ساعة ونصف قد أصبح أكثر من أربع ساعات على ثلاث حلقات متتالية، إذ يبدو أن الأداء الإعلامى، وخاصة فى فرع “روتانا سينما” استدعى أن تقطع الحوار ويطعم بلقطات من أفلام سينمائية فيها تحضير الجان، والزار، وظهور العفاريت، فشعرت أن ما قد يتبقى للناس، ليس هو ما حاولته من تفسير الظاهرة، واحترام بعض ايجابياتها، وقد يكون سلبيا أيضا.
ربما من هنا جاء تحفزى فى برنامج البيت بيتك للتنبيه إلى التساؤل عن “ماذا يتبقى عند المشاهد من مثل هذه الحلقات؟” كما جاء حرصى على التحذير من سلبيات مثل تلك البرامج، وهو ما فصلته فى هامش (ص 40).
بعد عودتى رحت أجمع ما تيسر لى، مما سبق أن كتبته فى هذا الموضوع فكأننى هذه الملزمة. التى ضمنتها هذا الكتيب، هذا مع أخذ ما يلى فى الاعتبار
- عثرت على مكان وتاريخ النشر فى أكثر الأحيان، وافتقدته أحيانا، ولم يهمنى إثباته، فالمهم توصل الفكرة.
- وجدت فى بعض ما جمعت تكراراً لم أحاول حذفه، لأن المسألة فعلاً تحتاج إلى تكرار، وفى الإعادة إفادة.
- كما حاولت ترتيب بأكبر قدر متاح من التسلسل وأظن هذا لم يتم بنجاح يرضينى.
- لكننى فى النهاية عثرت على عمل نقدًّى صعب. نشرته حديثا فى مجلة وجهات نظر للتفرقة بين ايجابيات محاولة استعادة الهارمونى سعيا إلى وجه الله، وخطورة الانسياق وراء خرافة النيازك المنفصلة عن الوعى الكونى، فأوردت النص كاملا فى نهاية هذه المجموعة، وهو دراسة نقدية مقارنة بين قنديل أم هاشم ليحيى حقى، ولحس العتب لخيرى شلبى، فيما يتعلق بالموضوع المطروح، وقد قدمت قبل عرض هذه الدراسة ما أعنيه بالتفرقة بين إيجابيات وسلبيات مثل هذه الممارسات.
الفكرة الأساسية التى أريد تقديمها من كل ذلك يمكن ايجازها فيما يلى:
- الصحة الايجابية (نفسية وغير نفسية) هى تناغم الذات مع تركيباتها (أبعادها -مستوياتها – أجزائها – تكوناتها) وأيضا مع ما حولها (الطبيعة الحية)، ومع اتساع الوعى إلى ما بعدها (الوعى الكونى)، سعيا إلى وجه الله الذى ليس كمثله شئ.
هذه هى الصحة وهى هى الحياة.
- المرض هو النشاز الخارج عن هذا السياق التناغمى المتصاعد، وهو يظهر فى شكل معاناة (جسمية أو نفسية) أو إعاقة فى الآداء أو النمو) أو فى شكل تفسخ (جنون) أو تجاوز فى النمو المفرط (أورام) . . أو عجز عن مقاومة إغارة من خارجة (ميكروبات) …إلخ.
- التطبيب هو فن استعادة ما هو فى (2) إلى ما هو فى (1).
- كل ما يمارس وينجح فى هذه المهمة فهو تطييب بالمعنى الأوسع من واقع امبريقى (عملى نفعى) وهو ليس حكراً على فئة دون الأخرى من حيث المبدأ دون الأخرى .
- الذى يتحكم فى تنظيم الممارسات العملية فى أى مجتمع وأى ثقافة ليس فقط احتكار أصحاب منظومة علمية أو مهنية لقدرتها المتفردة على استعادة التناغم، وإنما هو حزمة من القوانين، والقواعد، والعقوبات، والتجارة، والعلم الحقيقى، والعلم الزائف.
- تساهم شركات الدواء وشركات أجهزة الفحص فى تشكيل عقول معظم الأطباء لاحتكار هذه المهمة بهدف المكسب المتفاقم تضخما واستقلالا مهما كان التشويه العلمى والعملى الناتج عن ذلك.
- يقاوم هذا الاحتكار الاستغلالى عدد بلا حصر من الممارسات البديلة حتى اسماء مختلفة -عبر العالم- بما يسمى الطب البديل أو الطب التكميلى أو العلاج الروحانى أو ما نناقشه هنا حول ما يسمى العلاج بالقرآن أو بالتفاهم مع الجان …. إلخ.
وأخيراً
أنا لا أزعم أن ما جمعته فى هذه العجالة (فى عدة ساعات) هو كاف ولكننى شعرت أننى مدين للصديق محمود سعد (وزميلاته وزملائه) بما فعلت
شكراً لهم جميعاً
وعذرا مرة أخرى
*****
نشرت فى: 31/8/1997
الانغلاق فى المعلومات الجاهزة يختزل الواقع
(مقتطف من: العلم والمعلومات وثقافة الخرافة)
. . . . كم يغلق عالم متخصص عقله العلمى مع إغلاقه لباب معمله وهو يغادر محل بحثه، ليفتح باب الخرافة يتعامل بها مع الحياة مع فتحه باب سيارته، وعلى النقيض من ذلك قد نجد مزارعا بسيطا يستشهد بمثل عامى مناسب، ويتعامل مع زرعه من خلال أخطاء ونجاحات خبرته السابقة، وهو يمارس أعلى درجات المنهج العلمي.
ولأضرب أمثله تفصيلية:
المثال الأول: عالم فى الفيزياء، حقق أبحاثا رائعة نشرها فى مجلات متخصصة، ثم نشر معلوماته ومعلومات غيره فى أحد أعداد سلسلة “عالم المعرفة، هذا العالم نفسه يعيش حياته محاطا بكل طقوس استجلاب البركة والتوجس من الطيرة، ويداوى ابنه من مس أصابه بالرقى والحجامة.
المثال الثانى: إعلامى نابه، مسئول عن برنامج “العلم للجميع”، يتحمس أشد الحماس لتفسير الآية الكريمة “لاتنفذو إلا بسلطان” على أن السلطان هو سفينة الفضاء. شالنجر.
المثال الثالث: عالم آخر، يؤمن بالمنهج التجريبى إيمانا راسخا حتى لا يقبل من المعلومات على أنها علمية إلا ما ثبت بالتجربة دون سواها، ويرفض التفريعات والانفراجات والتنويعات التى تجاوزت المنهج التجريبى وتطورت بعده، لأنه لم يتعود على التفكير المفتوح النهاية، ولا على تحمل الغموض،
هؤلاء الثلاثه يتعاطون أبجدية براقه، تنصف بما هو علم بشكل أو بآخر لكنهم فرادى ومجتمعين لايمثلون ما هو “ثقافة علمية”. ويتبعون ما يشعرون بفائدته حدساً غامضا دون تفسير).
ولإيضاح أكثر، نضرب أمثلة على الجانب الآخر:
المثال الأول: فلاح أمى يسمع برنامج العلم والإيمان والذى شاهد فيه من يحاول أن يثبت كيف أن ألوان جناح الفراشة شديدة الجمال هى إثبات لوجود الله، فيلتفت إلى زوجته باسما أنه “إهيه بقى دا إسمه كلام، هو ربنا محتاج للكلام ده؟ ربنا موجود علشان هو موجود، والكلام ده حاجة تانية تنفع لأية حاجة، هذا الفلاح يعيش الثقافة العلمية كما ينبغي.
المثال الثانى: طالب ثانوي، مطلوب منه أن يحفظ قوانين المنطق لأرسطو، وأن الشيء لا يكون نفس الشيء وغيره فى آن واحد، فيسأل استاذه أنه لاحظ وفكر ألا يكون القانون صحيحا دائما، فربما تختلف المسألة حسب وجهة النظر، وحسب عمق الرؤية، وحسب اللغة المستعملة التى يحدد بها ما هو الشيء، وما هو ضده، وما هو غيره، وحين يستفسر منه الأستاذ عما يعنى لاتسعفه الإجابه. (هذا الطالب يمكن أن يكون على أبواب إبداعٍ).
المثال الثالث: أستاذ هذا الطالب يحترم رأى تلميذه، وتحفظاته، ويكتشف أنه هو أيضا لا يستسيغ هذا التحديد الأرسطي، وأنه أحيانا كان يسميه السجن الأرسطي، ثم يرجع الاستاذ يراجع قوانين منطق آخر، أحدث، مثل منطق “فون دوماروس”فيعرف أن طالبه كان على حق، وتفتح له هذه المحاولة آفاق الطبيعة الكمية وعلم الشواش والتركيبة، وهو لا يفهم كل ما يقرأ، لكن كل من الطالب والاستاذ يتفتحون لآفاق معرفية جديدة:
خلاصة القول:
إننا نحتاج إلى الانتباه ألا يحل مقدس “علمي” محل مقدس “تسليمى أو خرافي”، وألا تحل المعلومات لذاتها محل التفكير العلمي، وألا يضيق المنهج فيقتصر على ما نعتقد أنه المنهج الصحيح، وهذه النقطة الأخيرة، أثارها عندى مقال الصديق أ.د. سمير حنا السابق الإشارة إليه فى مقدمة المقال، وهو ما سأرد عليه فى مقال لاحق حول حاجتنا إلى ما أسميته “علمنة الخرافة” (ليس بالضرورة ردا على ما يسمى “أسلمة العلم”).
******
نشرت فى الأهرام (صفحة الثقافة)
بتاريخ: 2/9/1997
الحاجة إلى: عـلْمَنةِ الخرافة
أشرت فى المقال السابق إلى مقال أ.د. سمير حنا (22/8/1997) على هذه الصفحة بعنوان ‘ ثقافة الخرافة’, وأنا أتابع حماس ومعلمة الصديق أ.د. سمير حنا، وأسمح لنفسى أن أختلف معه وأحترمه، وأحرص من خلال كل ذلك أن يستمر الحوار، لعلنا – ومعنا شهود الجدل- أن نخرج بما هو أنفع وأجدي.
بدايةً ينبغى النظر فى أناة وصبر إلى ضرورة التفرقة بين الخرافة، والغيب ولن أقف طويلا أمام التعريف المعجمى بقدر ما سأغامر لأقترح تمييزا مناسبا للغرض من هذا المقال.
فالخرافة هى كل معتقد أو سلوك، لا يستند إلى منهج موضوعى مرن قابل للنقد والتطوير’.
أما الغيب فهو المجهول الذى لا نشهده حاضرا، سواء كانت الشهادة بالحواس أم بالمعرفة المعتمدة بأى وسيلة من وسائل التوصيل.
وفى حين أننا نرفض الخرافة، فإننا نؤمن بالغيب، فالخرافة تشويه أو إلغاء لأدوات المعرفة وخاصة الأداة المسماة العقل، أما الايمان بالغيب: فهو فتح لآفاق المعرفة وهو ما يسمى المعرفة بلا نهاية.
والآن. لنا أن نتأمل قليلا ونحن نرصد موقفنا من الخرافة قبل أن نستدرج إلى معركة ليست مضمونة النتائج لصالح العلم، أو ما نتصور أنه علما.
ولنتساءل إبتداء:
1 – أين، وعند من تنتشر الخرافة
2 – ما هى صور الخرافة الأكثر شيوعا؟
3 – متى تنتشر الخرافة؟
4 – لماذا تنتشر الخرافة؟
ولابد أن نجيب على هذه الأسئلة ولو بالتقريب، ولو بطرح فروض قابلة للتطبيق، قبل أن نشهر فى وجه ما نعتقد أنه خرافة: سيف العلم، نحكم به – من فوق – على كل من نرى أنه بعد عن المنهج العلمى الأشهر الذى تدين به فئة منا حتى التقديس، ذلك أن هذا الموقف الحكمى لم ولن يقلل من حجم الخرافة ومدى الأضرار التى تلحقنا من التسليم لها والتخريب بها.
وأحيانا ما يصلنى وجه شبه خطير حين أرى كيف يقف العالم منا موقف الوعظ والإرشاد، والأمر بالتنوير والنهى عن المظلم، والبكاء على ماآل إليه حالنا من جهل وتخلف وكلام من هذا، فأرى أن مثل هذا العالم , أكثر الله خيره، يقوم بعمل عظيم، لكننى لا أستطيع أن أميزه عن الدور الذى يقوم به أحد خطباء المساجد المتحمس وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بأعلى صوت، وأقل قدر من التوصيل، ثم أتبين – ربما مخطئا – أن هذا المستوى من الوعظ والإرشاد على الجانبين لا يكفى لإضاءة المظلم (هم العالم) ولا هو كفى أو يكفى للتوقف عن ارتكاب المعاصى عند العصاة (هم الواعظ الديني)
فما العمل؟
نحاول أولا الإجابة عن الأسئلة المطروحة على الساحة.
1 – أين وعند من تنتشر الخرافة؟
تنتشر الخرافة عندما يعجز العلم (والمعلومات المعرفة) أن تملأ وعى الناس، أى تعجز أن تخاطب مختلف مستويات وجودهم بخطاب يسد احتياجاتهم حسب تكوينهم البشرى الحقيقي، وهذا يحدث عادة إما بقصور العلم وعجزه فى مرحلة بذاتها، وإما الانغلاق مسام التلقى لما هو مطروح من علم ومعلومات على وعى الناس , وقد لاحظت أن أغلب العلماء والتنويرين يهتمون بالعامل الثانى (انغلاق التلقي) ولا يلتفون للعامل الأول (احتمال قصور العلم): منهجا أو معلومات أو كليهما، (إذا قصروه على ماعتقدوا أنه “عين العقل”) قصور العلم والمنهج المحدود عن إرواء كافة مستويات الوجود البشري
2 – ماهى صور الخرافة الأكثر شيوعا؟
فى الدول المتخلفة تشيع الخرافة التى يمكن أن تسمى ‘الخرافة البدائية’
وفى الدول المتقدمة يشيع نوع آخر من الخرافة – وربنا يجعل كلامنا خفيفا عليهم – مثل كثير مما نقرأ مما يشاع عن بعض يسمى التاريخ (الذى يقال إنه إشاعه منظمة أو أساطير ممنهجة بمنهج محكم، لا يحمل ما يكفى من مصداقية )
كثير من الأبحاث شبه العلمية Pseudoscience التى تنبنى على منهج محكم أو مشهور فقط، ولكنها تخدم فرضا فاسدا أو متحيزا تعتبر فى واقع الأمر من ‘الخرافة الحديثة’
وأيضا كثير من أرقام الإحصاء المفبركة من منطلق لا أخلاقى والتى تستعمل معادلات منتقاه للوصول إلى نتائج مسبقة لا تخدم المعرفة الموضوعية بالضرورة لا تعدو أن تكون خرافة حديثة .
وأخيرا فإن كثيرا من النظم السياسية التى لم تختبر (مثل النظام العالمى الجديد) أو النشاطات الانسانية المثالية ذات الرؤية المحدودة الزاوية , قد تدرج ضمن الخرافة المثالية البراقة (مثل بعض نشاطات مشبوهه تندرج أحيانا تحت ما يسمى حقوق الإنسان…. إلخ).
بل إن الخرافة البدائية لها أشكال معاصرة فى الدول المتقدمة، ومنها الاسترشاد بالتنجيم فى الصحف اليومية والأسبوعية، وقراءة الغيب المستقبلى فى الفنجان أو الكف، يقوم بذلك غالبية من الناس دون استثناء الفنانين ورؤساء الدول وزوجاتهم، وخاصة فى الولايات التى هى متحدة وأمريكية وهى أخر علمنة وتكنولوجية), وكل ذلك يصبح خرافة إذا تخطى وظيفة التسلية إلى يقين يحدد السلوك العلمى ويوجه اتخاذ القرار.
(وقد دخل الإنترنت مؤخرا فى تحديث الصور المعاصرة للخرافة البدائية والخرافة الحديثة على حد سواء).
3 – متى تزدهر الخرافة؟
تزدهر الخرافة فى أوقات الضغوط (الأزمات), ومع اختفاء الحوار، وضعف النقد، وغلبة حكم الفرد، والتسليم لجمود النصوص، وقفل أبواب الاجتهاد والإبداع والمراجعة (راجع ماحدث بعد هزيمة 1967)
4 – لماذا تنتشر الخرافه؟
تنتشر الخرافة حين تتحقق الظروف التى تستدعيها، والتى عددناها فى كل الإجابات السابقة أى أنها تنشر لكى تغذى احتياجات البشر إذا لم تستطيع أدوات أخرى أضمن وأصدق (من بينها العلم) أن تفى باحتياجاتها،
لكل ذلك لا ينبغى أن نرتاح ونرضى بأن نقول (ولو يقينا صادقا): إن العلم والمعلومات يغذيان العقل بقدر كاف، وأن الفن بكل تجلياته وتشكيلاته كاف لإرواء الوجدان بما لا نحتاج معه إلى مزيد من المناهج والمغامرة، وحتى لو وسعنا الدائرة لنقول إن الدين فى أرقى صوره، وأبلغ تكامله يغذى كلا من العقل الوجدان، فإننا ننسى أن المطلوب منا إن أردنا أن نتجاوز مرحلة الخرافة البدائية دون أن نقع فريسة خرافة عصرية أكثر خفاء وأعقد تكنولوجيه هو كثير كثير أكتفى بأن أرسم بعض خطوطه العريضة على الوجه التالي:
أولا: أن نحترم شيوع الخرافة بين عامة الناس دون أن نستسلم لها، فنبحث عن احتياجاتهم التى فشلنا فى إروائها بمحدودية مانقدمه لهم من مناهج ومعارف بل من فن وتشكيل، بدلا من دمغهم وتحقيرهم ومعايرتهم (عمال على بطال).
ثانيا: أن نستدرج جمعية المنتفعين بهذا الجوع الذى لم يروه علم محدود، جوع الناس إلى مناهج أخري، نستدرجهم لنعريهم أمام المخدوعين، ليس بمقارنة الحجة بالحجة فهذه إضاعة للوقت لاختلاف اللغة وإختلاف المنهج، وإنما بتحديات عملية , تعرى خبث ألاعيبهم. (فى برنامج متلفز طلبت من عميد سابق لكلية أصول الدين كان يحكى عن الجان وتسخيره لتحريك السحاب، وإثارة العواصف وهز الجبال، طلبت منه أن يتوسط لنا ليسخر الجان لتفجير مفاعل ديمونه على أصحابه دون سواهم، والآن أتمنى أن يسخره ليحول دون ذبح مئات البشر بما فيهم الأطفال والنساء والكهول فى القرى الجبلية فى الجزائر).
ثالثا: بعد أن نحسن الانصات للغة العامة الجوعى إلى ملء الوعى بأى وسيلة، ونجتهد فى فهم ما دعاهم إلى ذلك بعد ذلك، علينا أن نحاول ترجمة ممارساتهم إلى أقرب لغة علمية.
وفى خبرتى المهنية أطلب أحيانا من المرض الممسوسين أن يسمو المس الذى عليهم بأسماء علميه، مرة يسمونه المخ البدائي، ومرة إجوستيت ego state, (حالة من حالات الذات), وحين استغربت مريضة – ممسوسة – اللفظ الذى حفظته لها بالإنجليزية سهلته عليها بأن قلت لها ‘إيجو’ هى لغة أهل الشرقية حين يقولون جم / ‘جاؤا’ وستيت مثل ‘ستيته’, وضحك أفراد المجموعة العلاجية، وقبلت المريضه، ورويدا رويدا، ومن خلال التمثيلية النفسية (السيكودراما) المتواضعه رحنا نتحادث مع ‘الإيجو ستيت’ باعتباره كيانا داخليا له مطالب وحضور، وليس باعتباره مسا من الجان، واستمرت المريضة فى التحسن تدريجيا، وجارى علاجها، (وهذا بعض ماعنيته بــ ‘علمنة الخرافة’).
رابعا: أن نتوقف عن تقديس منهج بذاته دون غيره من المناهج العلمية الأخرى بل من المناهج المعرفيه الأخري، وألا نتعالى على النظر بعين علمية ناقدة ولما يجرى فى مناهجهم – فلهم مناهج تفسر انتشارهم كما تفسر بعض نتائجهم – وأن نخرج من هذا وذاك بإثراء وتوسيع مناهج المعرفة ووسائلها. وأحسب أن علوم الشواش والتركيبية (وهى من أرقى العلوم حاليا) وكذا علم البارسيكولوجى والطبيعية الكمية، هى علوم تجاوزت كل حدود المنهج التجريبى المغلق دون أن تهمل عطاءه أو ترفض إسهامه.
وبعد
إن الانخداع العاطفى وراء محاولات سطحية تسمى نفسها ‘أسلمة العلم’ قد أضر بكل من العلم والاسلام معا، والأولى بنا أن نحسبها موضوعيا فنجتهد فى ‘علمنة الخرافة’ لعلنا نستجيب لحاجة الناس التى هى الحقيقة الأولى بالانتباه والإفادة، بدلا من الإصرار على التمسك بيقيننا المطلق بقدسية ما نعرف وما ننتهج.
خلاصة القول: إن علينا مهمة تشجيع العلم لاحتواء الخرافة حتى لا تعود كذلك.
أما عن تنمية قدرات العلم (والفن) لاقتحام الغيب وتوليده وتوسيعه دون أن ينقلب إلى خرافة فلهذا حديث آخر.
*****
نشرت فى جريدة الأخبار
علاج بالقرآن أم وقاية بالإيمان
-1-
نظمت مستشفى العباسية ندوة حول “الممارسات غير الطبية فى مجال المعاناة النفسية” وكان ذلك يشمل الرقى الدينية: (مسلمة – مسيحية وغير ذلك) والرقى غير الدينية، وحلقات الذكر، والزار، والممارسات الروحية، والدعاء، والتصوف، وكذلك العلاج بالقرآن. وهذا الاقتحام الشجاع بالتصدى لمناقشة هذه الأمور علنيا وإعلاميا هو إعلان ضمنى أن قصور الخدمات الطبية النفسية يجرى تعويضه بواقع مر وخطير.
وقد كانت هذه المواجهة خطوة جريئة للكشف عما يمارس فى الظلام، على قارعة الطريق وفى المساجد والكنائس وتحت السلم وفوق القبة،باسم الدين، وتحت لافتة العلاج.
ويبدو أن ما يسمى العلاج بالقرآن خاصة قد أصبح أكثر شيوعا، من أى تصور، ولأن القرآن قداسته المطلقة، فإن كل من هب ودب راح يعلق لافتته ويستظل به حقا وباطلا، يشمل ذلك كل من شطح وادعى، وكل من همهم وأسبل، وكل من تمايل وتمتم، وكل من ضرب حتى أدمى، وكل من خنق حتى قتل، ذلك أن تعبير العلاج بالقرآن يعطى صاحبه مناعة إبتدائية ضد أى هجوم لأنه يحول الهجوم عليه إلى الهجوم على القرآن “وخذ عندك” مثلما تحول الجماعات المارقة باسم الدين الهجوم عليها إلى الهجوم على الإسلام.
وهذا لا ينفى أن هناك فئة حسنة النية تستلهم كلام الله فى أن تخلص الدعاء لا أكثر ولا أقل، إن مواجهة الواقع بحجمه الحقيقى ضرورية مهما بدا الواقع خطأ أو خطر، والواقع هنا هو حاجة الناس إلى الدعم النفسى (قبل وبعد العلاج النفسى)، هو أيضا غلبة الإعتمادية وغياب التفكير النقدى والتفكير العلمى فى مصر المحروسة، سمعت أنه يقترح الاعتراف بالعلاج بالقرآن رسميا، إن مثل هذا التشريع المقترح قد يسمح لكل من وصل إلى بعض التأهيل الغامض .. مثل حفظ آيات معينة أو تكرار تعاويذ بذاتها أن يمارس ما يسميه هو علاجا، ومن هنا سيفتح الباب على مصراعيه لممارسة غريبة وخطيرة.
ثم إننا لا نشرع للمتدينين جدا ببناء كوبرى أو مصنع إلا إذا كانوا مهندسين مؤهلين، إذ لا يوجد ما يسمى هندسة بالقرآن أو طبيعة نووية بالقرآن، ولا تزال المطبات فى الشوارع لا تغطى بإخراج الجان من تحت أرضها، وإنما بتمهيد الطريق ورصفه كما ينبغى، فلماذا يكون الانسان أقل إحتراما من كوبرى أو عمارة أو رصيف شارع أو شبكة مجارى؟
-2-
إن دلالة انتشار هذه الظاهرة لا تقتصر على المجال الطبى ولا المجال النفسى، بل إنها ظاهرة تعلن أمورا عامة تحتاج إلى وقفة متأنية مسئولة فمن ناحية هى تعلن أولا: حاجة الناس إلى الدعم النفسى بشكل أكبر من قدرة من يتصدون لذلك، و أعنى تحديدا: أكبر من قدرة وعدد وكفاءة وعلم الأطباء النفسيين وثانيا: هى تعلن الجوع الشديد إلى الدين إلى كل ما يحمل احتمالات اللجوء إلى الله والرجوع إلى شكل من أشكال التدين.
ومن ناحية أخرى: هى تعلن غلبة التفكير العشوائى، وانفصال المقدمات عن التوالى، وفرط الاعتمادية الطفلية السحرية على المجهول، وثبات الجمود المطلق فى سجن لفظ يستعمل فى غير موضعه، وكل هذا ليس موجودا فقط فى مجال العلاج النفسى، وإنما هو أخطر فى مجالات السياسة والثقافة والتعليم وقمع الإبداع.
لا يمكن أن نشجب ظاهرة شجبا مطلقا وهى تزداد كل يوم عن الآخر ثم إنه ليست كل الممارسات الشعبية سلبية، لأن أى تعميم دون فحص هو مخالف للقواعد العلمية والمنطق السليم، إن الخلط يبدأ حين نخلط بين الوقاية والتربية والعلاج، فالأم حين تهدهد طفلها لا تعالجه، والمدرس حين يرشد تلميذه إلى سلوك سليم رائع يتجاوز به محنة تعثره الدراسى لا يعالجه، والوالد حين يدعو لابنه المسافر بأن تصاحبه السلامه فيستجيب الله له ويحفظه فتصاحبه السلامة لا يعالجه، كل هذه الممارسات الرائعة هى تربية وعبادة ودعم للنفس تقع فى دوائر الوقاية والتربية لا العلاج
كذلك فإن الأمور تضطرب أيضا حين يزداد الخلط بين حرفة الطب، والعلوم الأساسية التى بعض أساس هذه الحرفة، فالطب حرفة، لها قواعدتها الراسخة، وفنونها التى تحتاج إلى تدريب منتظم تحت إشراف، وقوانينها الأخلاقية والتشريعية الصارمة، أما العلوم الطبية فهى تشمل كلا من العلوم الأساسية، والمعلومات التجريبية المحكمة، التى تعتبر أبجدية الممارسة الفنية الطبية – فالطب ليس علما بحتا، وليس معنى ذلك أنه هواية أو موهبة، خاصة.
الطب فن شديد الدقة مقنن الممارسة، مبنى على علم متواضع الحبكة –
أحب أن أنوه هنا إلى أن حماس بعض الأطباء النفسيين لما يسمونه “الطب النفسى الإسلامى، قد ساهم ولو بطريق غير مباشر فى فتح الباب لمثل هذه الممارسات، ولا أنكر أن كثيرا مما يسمى الطب النفسى الاسلامى، هو بعيد بشكل ما عن كل من العلم والإيمان الحقيقيين، رغم حسن نية القائمين عليه، إلا أن إختزال الدين إلى تقوله بعض العلوم لم ينفع الدين ولم يضف إلى العلم شيئا، وهذا لا يعنى أن الإيمان لا يسهم إسهاما جوهريا وأساسيا فى التوازن النفسى، بل إن الإيمان هو جوهر التوازن النفسى لكن التسطيح شيء أخر.
- ……………….؟
إن هذه الموجة لن تنتهى بالقهر أو العقاب من ناحية، ولا بالسماح بالتشريع أو التقنين من ناحية أخرى، وإنما تنتهى مثل هذه الممارسات بكل دلالاتها الإيجابية والسلبية حين يرتقى وعى الناس فى كل المجالات إلى ما يؤكد تكريم العقل البشرى، واحترام الحس البشرى معا، وكذلك حين يرتقى وعى البشر ليصبح الدين مصدرا للايجابية ودعما للسلامة، وليس ممارسة للترويح، أو سبوبة للارتزاق، أو تغيبا للحواس وتبعية للمجهول تحت زعم الطمأنينة السلبية.
الإيمان ليس مسكنا أو مخدرا كما زعمت الشيوعية عن الدين فى بعض مراحلها، وإنما هو أساسا كدح لوجه الله طلبا للمعرفة الموضوعية الأعمق.
كذلك تنتهى هذه الموجة حين يتواضع الأطباء فى تصورهم أنهم الوحيدون المكلفون بدعم كل الناس طول الوقت فى معاناتهم النفسية، حتى دون مرض صريح، وتنتهى حين يقدم الأطباء معلوماتهم المحدودة للناس فى شكلها الفرضى دون وثقانية مطلقة، أوتقديس لما يسمى علما وما هو بعلم، هذا ما يفعله بعض الأطباء: فيصور المرض النفسى على أنه ليس إلا زيادة كمية فى مادة كيميائية بذاتها، أو نقص فى مادة أخرى، إن مثل هذا الحسم والتعميم على غير أساس علمى حقيقى يجعل الناس ينفرون من السجن فى الكيمياء بالكيمياء ويفرون إلى الرقى والممارسات المشبوهة
وأخيرا فعلينا أن نتحمل هذه المرحلة بالعمل على تقليل المضاعفات حتى توجد الخدمات الكافية لأصحاب الحاجة
- ……………….؟
المرض النفسى فى شكله التركيبى الكلى ليس مجرد زيادة كمياء أو تلف خلية عصبية (وإن كان هذا وارد جزئيا) وإنما المرض النفسى ينبغى أن يفهم باعتباره جسما غريبا نفر من التناسق العام للجسد والنفس على حد سواء، هو نغمة نشاز فى لحن الفطرة، وبالتالى هو إخلال بالتناسق البشرى العام، وعلى النقيض من ذلك الإيمان نجد أن الحقيقى هو تكامل هارمونية هذا الوجود البشرى المتناسق مع ما بعده (بما فى ذلك الايمان بالغيب وليس التسليم للخرافة) – فالإيمان وقاية ضد هذا النشاز وغيره، وضد الاغتراب، وضد الإلحاد الذى هو نشاز أغبى.
لكن الايمان لا يأتى بتلاوة أية، وأنا ملتفت عنها مكتفيا بالتبرك بظاهرها، أو بتعليقها ديكورا على الحائط أو حول الرقبة.
إن ما وقر فى القلب وصدقه العمل هو وقاية ضد المرض وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان “خلقه القرآن” كان قدوة لمن يريد أن يعرف معنى القرآن سلوكا حيا يهدى ويبدع وهو يمارس حياته فى الفعل اليومى.
- ……………….؟
الخلق هو سلوك ظاهر، وموقف محدد، والقرآن الكريم فعل قائم فى وجدان المسلم الحق يظهر فى التعامل العادى دون تشدق بآيات لا يحمل مسئوليتها، وهو الحس الخلقى، والإيمان هو المسئولية والإبداع، وهذا ما أفهمه من “الخلق القرآن” خلق رسول الله وصلى الله عليه وسلم.
- ……………….؟
الشفاء كما ورد فى القرآن الكريم هو أعمق من مجرد التداوى السطحى، وهو يتجاوز التغلب على الوساوس التى فى الصدور الشفاء هو تطهير وقائى، وهوتكامل ضام يمنع الأبعاض أجزاء التركيب البشرى من أن تتنافر عن بعضها البعض،والشفاء هو للمؤمنين أساسا.، وليس للمستسلمين الذاهلين “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين”
”أأعجمى وعربى، هو للذين آمنوا هدى وشفاء”
إن الله سبحانه وتعالى أنزل قرآنه “شفاء لما فى الصدور”
وكل هذا لا يشير من قريب أو من بعيد للاستعمالات السطحية الجارية، وإنماهو يصلنى كدعوة لاتساق مكونات الذات مع بعضها، ثم تناغم الذات كلها ما حولها، ومع إيقاع الحياة داخلها وخارجها، كدحا إلى وجه الله غير الوعى الكونى المتناغم مع الوجود البشرى السليم.
- ……………….؟
أنا لا أريد حلا توفيقيا، ولا أقول دع كل الزهور تتفتح بدعوى مائعة وهروب تسوياتى أنا أنصح الأطباء ابتداء أن يزدادوا تفتحا لحقيقة حاجة الناس، ولإيجابيات وفاعليات الإيمان الطيب، ولإسهامات الوعى الدينى فى التلاؤم مع الذات ومع الكون وذلك دون تعصب أو استغلال لمسألة الطب النفسى الاسلامى والطب النفسى المسيحى والطب النفسى البوذى،
كما أنبههم إلى الحذر من التسليم لشركات الدواء، وأرقام المعامل المشبوهة، التى تسخر للكسب أكثر مما تخدم صالح المرضى، إن التركيب البشرى لفطرة الله أروع وأعقد من هذه الجزئيات المتناثرة التى قد تجد لها مكانا فى الفطرة السليمة أو لا تجعلها دورا إلا فى زيادة مكسب الشركات. كما أرجو من حسنى النية ممن يقومون بهذه الممارسات الشائعة أن يتقوا الله فيما يزعمون مهما استندوا إلى نص فهموه بطريقتهم، أو مهما لاحت لهم نتائج من حالات عابرة، أو مهما أغراهم المكسب وحاجة الناس البسطاء
- ……………….؟
الظاهرة أعم دلالة من العلاج بالقرآن ومواجهتها ليست بالهرب أو بالقهر وإنما بالنهضة الشاملة، وقبول التحدى هو شرف شجاعة الوجود وتواضع العلماء والأطباء وإيمانهم هو الذى قد يعدل الميزان، لأن من العلماء والأطباء من يتعصب لانصاف، بل لأجزاء المعلومات مما يثير ضدهم تعصبا أخطر وأشد، يجعلنا نخرق فى محيط الخرافة، بدلا من أن نسبح فى بحور الإيمان.
******
نشرت فى روز اليوسف:
بتاريخ 25/8/1991
توضيح آخر، من مدخل مباشر عن: (العلاج بالقرآن)
نعم: خذ من القرآن ما شئت لما شئت.
نعم: هو جلاء للقلوب.
نعم: هو نور العقول.
ولكن كيف؟
بالرقى والأحجبة؟
بصراحة أنا أشعر أن كل من استعمل القرآن الكريم لزخرفة (فى لوحة منمنمة) أو لزينة (فى تعليقة مذهبة) أو لبركة (فى ورقة محجبة) هو يقلل من شأن كلام الله حقيقة وفعلا.
إن القرآن عمل وخلق.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، إذا قام وإذا قال وإذا فعل وإذا حارب وإذا أحب، وإذا قاتل. ومعنى أن يكون القرآن خلقا هو أن يكون فعلا يوميا قائما يمشى على أرجل.
القرآن الكريم هو نبراس الإيمان الحقيقى، وله وظيفة تكاملية، فهو يصالح الذات على أبعاضها (جمع بعض) ويصالح الإنسان الفرد على الناس من حوله، كما يصالح الناس على الطبيعة والكون.
فإذا كان المرض – لغة- هو إظلام الطبيعة بعد صفائها، وكان القرآن هو النور الذى يمحو الظلام فلا مانع أن يكون ثمة علاقة بينهما.
يكون القرآن شفاء، بل وقاية: وهى أفضل من العلاج حين يتحمل قارؤه مسئولية مايلقيه فى وعيه نورا على نور، فكل آية لها إيحاءاتها، وعلى قارئها مسئولياتها واذا مااستقبلها المؤمن بحق فإنه سيتصالح مع نفسه صلحا لا مرض فيه. فمثلا:
’لكى لاتأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم’
هل يكفى أن نضع هذه الآية فى ورقة ونربطها على قلوبنا لينجلى الحزن المرضى، أو تخف حدة الهوس؟ أم أنها دعوة للمثابرة واستيعاب التجارب المحزنة والمفرحة معا انطلاقا لما بعدها؟َ! إن من يتحمل مسئولية هذه الآية – مثلا – لابد أن يصله
أن وراء مافاته شئ أكبر وأبقى هو خير للناس، وأنه بعد كل مايفرح به من مكاسب ونجاحات: هناك بهجة أرسخ وأكثر إمتدادا وعمقا هى بهجة التكامل الأرقي.
ومثل آخر: تقول آية كريمة
’كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون’
ألا تعالج هذه الآية الاغتراب، واللفظنة، و مرضى الشعارات و النصائح الفارغة، ألا تهاجم التناقض بين النظرية والتطبيق، حين يعرف المؤمن ويعيش المقت الذى يمقته الله لهذا الموقف، فلا يملك إلا أن يتجنبه، فيكف عن إحلال اللفظ محل الفعل، وعن إحلال الخيال محل الواقع، الأمر الذى يقلل من إنسانيتنا، ويفرغنا من شرف وعينا و يحرمنا من كرامة الفعل على أرض الواقع
أليس العلاج هو أن نبغض ما يمقته الله، فنبغض البعد عن الواقع، ونبغض الكلام للكلام، بل نبغض، الاغتراب بكل أشكاله، وهل المرض إلا ضربٌ من الاغتراب؟
أما أن أكتب هذه الآية ثم أضعها فى طاسة بها تعويذة، وأخطى فوقها سبع مرات !!!، أو أن يقرأ غيرى علىّ وكأنه يحمل مسئوليتها عنى، فهذا أمر ليس له علاقة بروعة وفائدة كلام الله سبحانه.
من هنا: أوافق على العلاج بالقرآن بهذا المعنى: معنى تحمل مسئولية الرسائل التى تحملها كلمات الله.
أما الاستسلام، والتغييب والتبعية نتيجة لغياب الوعى وفتور الإرادة ومحو الذات، فهذه كلها مشكوك فى دوام مفعولها، حتى ولو جاءت بنتائج طيبة فى بداية الأمر، فإنها تدعم القابلية للإيحاء وتجعل المريض حتى لو شفى مرحليا، عرضة للتسليم للمجهول والتناقض الميت، وهذا هو المرض.
*****
جريدة الأنباء الكويتية (التاريخ مجهول)
عن العلاج بالتفاهم مع الجان، أو تسخيره (حديث)
* ظاهرة العلاج عن طريق الجن .. رأيك في هذه الظاهرة.. وفي علاج بعض الحالات بالجن..؟!
قد يكون غريبا أن أرد ردا متحفظا بعكس ما اعتاد الناس من ضرورة المبادرة إلي شجب مالا يعرفون.
وأبدأ مقدمة ضرورية :
ذلك أن العلاج عامة, والعلاج النفسي خاصة هو حقيقة وفعلا من اختصاص الأطباء, لكننا لو صدقنا ذلك علي إطلاقه لحرمنا الناس من كثير من المساعدات الإنسانية , والتقليدية الذين هم في أمس الحاجة إليها, وفي نفس الوقت لا يستطيع الأطباء أن يوفوا بها.
وليس معني ذلك أنني أرحب بعلاج الجن بالذات, وإنما أنا أشير إلي مبدأ عام, ينطبق أساسا علي العلاجات الشعبية.
أما علاج الجن فله وضع خاص .
* هل هناك تعارض بين المنهج العلمي والرأي القائل بأن هناك علاج عن طريق الجن…؟!
أكرر مرة أخري أن هناك علاج عن طريق غير طريق الطب, وأن الطب ليس علما, ولكنه فن يستعمل معطيات العلم .
أما موضوع الجن فإن لي تفسيرا خاصا به , فيما يتعلق بالأمراض النفسية, ولكنني أرفضه حقيقة وفعلا فيما يتعلق بالأمراض الأخري, وخاصة الجراحة كما يدعي البعض.
* رأيك في أساتذة الجامعة الذين يؤمنون بالعلاج عن طريق الجن؟
لا أظن أن أستاذ الجامعة يؤمن مباشرة هكذا بمثل هذا العلاج, اللهم إلا إذا كانت جامعة سرية تحت أرضية لا نعرفها, ولكنني أعتقد أن بعض الزملاء من الأساتذة وغير الأساتذة قد يختلط عليهم الأمر ما بين الاعتراف الشكلى بالجن كوجود آخر, له عالمه مثل عالم الإنس, وبين تأثير هذا الوجود الآخر علي البشر في الصحة والمرض.
فليس معني إثبات أن ثمة كائنات تعيش في المريخ, أنناسنعمل قومسيون طبي في القريب لنوافق علي سفر بعض البشر للعلاج في الخارج, خارج الكرة الأرضية.
كذلك ليس معني أن الجن موجود جنبا إلي جنب مع عالم الإنس – بداخلنا أو خارجنا- أنها سيتفضلون بعلاجنا ونحن فى نفس الوقت أعجز عن علاجهم.
* رأيك في الاستدلال بالقرآن الكريم وأن السحر والجن وردا في القرآن..؟!
أما أنه ورد فقد ورد.
وأما دلالة ذلك فهذا أمر يتوقف علي أشياء كثيرة, ولا يمكن إصدار أحكام تطلق هكذا بلا ضابط ولا رابط لمجرد أن القرآن أورد ما يوسع آفاق رؤيتنا لعالمنا, بما يندرج حتما تحت ما يسمي الغيب, فالإيمان بالغيب الذي هو ركن أساسي من أركان الإسلام, لا يعني التسليم للخرافة, ولا يعني الاعتماد علي الغيب.
كل مافي الأمر أنه يكسر من غرور الإنسان, ويفتح آفاقه نحو أبعادا من الإبداع والتصور بلا حدود.
فذكر الجن في القرآن علي العين والرأس، دون الإلزام بتحديد أماكن تواجدهم أوتفاصيل تأثيرهم .
أما التسليم للمجهول واحتمال الذهول تحت وهم أن هذا من عند الله, فسبحانه وتعالي عما يصفون.
- وهل يعني وروده في القرآن أنه علم من الممكن شفاء الناس عن طريقه؟!
-أظن أنني قد ضمنت الإجابة السابقة ردا علي هذا السؤال.
* إذا كان هذا صحيحا فهل في الطب النفسي جزء يتم العلاج فيه عن طريق الجن؟
قلنا أنه ليس صحيحا.
هذه واحدة, كما قلت أن لي رأيا خاصا بهذه المسألة تفسيرا لاستجابة بعض المرضي النفسيين لما يسمي العلاج بالجن, وأخشي إن أنا ذكرته هنا تفصيلا أن يختلط الأمر علي كثير من العامة.
* تجاربك الشخصية مع مرضي ترددوا عليك وهم يؤمنون بالعلاج عن طريق الجن.
- رأيت من ذلك الكثير, وأظن أن أغلبهم كانوا ممن يصابون بأمراض طفيفة, من نوع الهستيريا مثلا, والهستيريا ليست خلطا أو تناثرا, وإنما هي مرض نفسي بسيط (في الأغلب) ينشق فيه الوعي, بحيث يستقل جزء من الوعي فيستقبله المريض علي أنه كيان آخر, فإذا تصور أن هذا الكيان هو كيان خارجي يؤثر عليه, فمرض ( وهو ما يسمي أحيانا ملموس أو ملبوس) فإنه بعد ذلك أن يتصور أن هذا الكيان من الجان, وليس من واقع الجزء المنفصل من تيار الوعي بسبب استهوائه , أي قابليته للإيحاء، المسألة تتوقف عن تفسير الشعور بتأثير كيان آخر على وعينا الظاهر هل هو من وعى داخلنا، أم من مجهول خارجنا، إن كان من داخلنا فهو جزء من الطبيعة البشرية، أما اسقاطنا له إلى الخارج فهذا هو بداية الاغتراب ومن ثم تسميته بالجن.
هؤلاء الناس هم الأكثر عرضة للاقتناع بحكاية العلاج عن طريق الجن.
* رأيك في الكتب الموجودة بالسوق و التي لا يمكن إحصاء عددها ولا مؤلفيها…؟ وهل هي ظاهرة خطيرة..؟ وكيف يمكن التصدي لها؟ وهل تنصح بمصادرتها…؟
أري أنها علامة خطيرة, تعلن تدهورنا واستسلامنا لكل ما يمكن أن يسهم في تخلفنا.
أما كيف نقضي عليها فأنا ضد أي منع أومصادرة, ولا يمكن القضاء علي مظاهر التخلف إلا بالتقدم, وأعنى التقدم الحقيقي الحقيقى دائما وباستمرار دائما وأبدا، وليس مجرد التشنج الناحية الأخرى.
فلن يصح إلا الصحيح.
أنا لا أعني بالتقدم أن يحتكر الأطباء العلاج علي طول الخط, فلا بد من الاستفادة من العادات الصحية الصحيحة, ولا بد من احترام التقاليد الشعبية المفيدة
أما حكاية الجن هذه فهي واسعة حبتين.
والبضاعة الحسنة تطرد البضاعة الرديئة
والبضاعة السيئة ليست فقط جنا, بل لعل استسلام بعض الزملاء الأطباء لمبالغات شركات الدواء هو نوع من التسليم الذي لا يقل خطرا عن الإيمان بالعلاج بالجن.
ولو أن الأطباء انتبهوا إلي مثل ذلك, ولم يبالغوا في الابتعاد عن مرضاهم تحت دعوي أنها مسألة كيمياء في كيمياء لما انتشرت مثل هذه الظاهرة.
* ما رأيك في لجوء بعض الشخصيات العامة والمثقفة للعلاج عن طريق الجن؟
رأيي أن هؤلاء بشر مثل البشر, لا أكثر ولا أقل, وقد رددت على مثل ذلك جزئيا فيما يتعلق بأستاذ الجامعة، ثم إن الثقافة كما شاع عنها ليست دليل علي شيء, أو وقاية من شيء, وخصوصا أن كلمة مثقف إنما تطلق حاليا علي كل متعلم حصل علي شهادة ما, حتي لو لم يقرأ شيئا آخر في حياته, حتي لو لم يستوعب نبض عصره, وإيقاع مسار قومه.
أما عن صاحب المنصب العام, فينبغي ألا يغرنا الاسم أو اللقب, فقد نجد في طياته عالما من الاعتمادية والتسليم والسطحية.
* المريض بعد أن يتردد علي الدجالين ثم يعود مرة أخري للطبيب النفسي هل تكون حالته قد زادت سوءا أم ماذا..؟ وهل يمكن للطبيب أن يتدارك الحالة؟
هذا يتوقف علي نوع المرض, فلو أن المريض قد أصابه مرض مما يستدعي المبادرة بالعلاج الكيميائي, أو الدخول إلي مصحة, أومما يتطلب الإسراع بتقوية ذاته لا إضعافها بمثل هذه الاعتمادية والتسليم, إذن, فإن التردد علي مثل هذه العلاجات يترتب عليه مضاعفات التأخير, وأيضا مضاعفات تشويه الذات, وإضعاف الشخصية.
أما أن يتدارك الطبيب الأمر فهذا يختلف من حالة إلي حالة، ومن تخصص إلى تخصص، ومن تشخيص إلى تشخيص.
* ما الفرق بين التصوف وعلم الجن….؟
التصوف الحقيقى معرفة, وإنارة, وإبداع, وليس له أدني علاقة بعلم الجن.
ولا بد أن نفرق بين التصوف الجهاد المعرفى, وبين إظهار التصوف, أوالتصوف الزائف الذي ليس فيه أدني قدر من المعاناة وجهاد النفس.
ثم إنه لا يوجد علم اسمه علم الجن, وإن كان يوجد ما يسمي علم الأرواح, وهو علم لا يقتصرعلي مسألة الجن, وإنما يشمل دراسة كثيرمن أنواع الوجود البشري, والوجود الموازي للوجود البشري عبر الحواس, ومتجاوزا لها, وهو علم له دراساته وملاحظاته وقوانينه, وله أيضا تشويهاته ومضاعفاته وشطحاته.
*****
القاهرة فى: 31/5/1998
الجن و”تعدد الذوات” والأمراض النفسية
حديث مع (الباحثة/ميرفت محمد حشيش) [1]
أرجو من سيادتكم توضيح التفسير العلمى من وجهة نظر سيادتكم فيما يتعلق بالجن والأمراض النفسية والنظريات التى تفسر تلك الظاهرة:
أولا: تحذير مبدئى: لا علاقة بين ورود الجن فى القرأن الكريم وبين مسألة أن الجن ‘يلبس’ أحدهم أو إحداهن.
ثانيا: توجد نظريات نفسية كثيرة تقول بـ ‘تعدد الذوات’، بمعنى أن الإنسان وحدة متكاملة لكنها مكونة من تنظيمات تمثل وحدات أخرى هى ذوات بديلة، لكنها فى لحظة بذاتها لها ذات قائدة أو رائدة أم منظمة للإيقاع أو ممسكة بالدفة.
ثالثا: تكررت فكرة تعدد الذوات فى مدارس لاحقة لنظرية التحليل الفرويدى، مثل كارين هورنى، التى قالت بالنفس المثالية والنفس الحقيقية والنفس العصابية…الخ، ولكن بدا هذا التقسيم مبنى على أساس نفسى تجريدى أكثر منه على أساس بيولوجى فينومينولوجى.
رابعا: ظهرت مدرسة التحليل التفاعلاتى فى الستينات من هذا القرن، وراثدها إريك بيرن، وهى المدرسة التى تؤكد على تعدد الذوات من منظور بيولوجى، ونفسى تركيبى فى آن واحد (انظر المقال المرفق).
خامسا: تفسيرى لظاهرة الجن أنه يحدث تفكك طفيف (تعتعتة) بين وحدة الذوات، فتفقد الذات الرائدة أو القائدة قدرتها على التوحيد والسيطرة، فيحدث انشقاق يجعل ذات أو أكثر تنفصل عن الوحدة الكلية للنفس وقد يظهر ذلك فى شكل أعراض هلوسية (أصوات الداخل) أو قد تسقط هذه الذات المتعتعة إلى الخارج ثم يعاد أستقبالها على أنها آتية من خارج النفس وليست إحدى ذوات النفس.
سادسا: فى مجتمعاتنا البسطية يجد الشخصى الذى مر بهذه الخبرة تفسيرات جاهزة فى التراث المشوه ويبدأ الحديث عن لبس الجان، أو مس من تحت الأرض .
سابعا: فى العلاج الجمعى والسيكودراما يقوم المعالج بتفكيك هذه الذوات عن بعضها البعض علاجيا ليعيد تنظيمها والتصالح فيما بينها بالتبادل والتناسب مع الموقف الملائم
ثامنا: فى العلاج الشعبى أو شبه الدينى يتم نفس الشئ ولكن على أساس أن هذه كيانات منفصلة، وليست ذوات مفككة، وعلى أساس أنها قوى اغترابية سالبة، وليس قوى ذاتية ثائرة، فتكون النتيجة أن الاغتراب يتأكد عند المريض، كما تسلب إرادته لصالح عالم مجهول يديره فى النهاية القادر على إحداث هذا التفكيك والتعتعة.
تاسعا: إن هذا التفكيك المرضى يحدث فسيولوجيا أثناء الحلم، وبالتالى فإن الاستفادة من معايشة الأحلام من خلال هذا المنطلق التركيبى هو مرحلة أكثر علمية وبنائية مما يسمى تفسير الأحلام.
عاشرا: إن الأطباء النفسيين الذين يمارسون منظورا محدودا من الطب النفسى، هو ما يسمونه النموذج الطبى، مع أنه أجدر أن يسمى “النموذج الكيميائى الميكنى” ينكرون كل هذا، وبالتالى يصبح النموذج الطبى هو النموذج الكيميائى المختزل، والمرضى لا يستقبلون ذلك بسهولة لأنه يخالف طبيعتهم المتعددة، وبالتالى هم يلجأون إلى من يعترف بهذه الطبيعة المتعددة حتى ولو كان مشعوذا أو مغتربا عن نفسه أوعن دينه.
******
مجلة: سيداتى سادتى
- هل حدث أن جاءتك حالات بعد أن عرضت نفسها على شيوخ قبل مجيئها إليك؟ وهل حدث العكس أن ذهب المريض أثناء علاجه معك لأحد الشيوخ؟
- هذا التفسير (المس بالجن)، وقد شاع مؤخرا بشكل شبه وبائى، إنما يدل على مرحلة نمو شخص معين، وكذلك على مرحلة نمو شعب معين، وهذا التفسير ليس قاصرا على مصر والبلاد العربية، وإنما هو منتشر حتى فى البلاد المتقدمة، وإن أخذ أسماء أخرى وأشكال أخرى مثل العلاج الروحانى أو العلاج الدينى أو العلاج بالبركة، وفى الفترة الأخيرة فى بلادنا، حين زادت موجة التدين السطحى، وكذلك حين افتقر عامة الناس إلى العدل، وإلى الوضوح، وإلى المنطق الذى يفسر الظواهر، لجأ الناس إلى التفسيرات الغيبية، حتى لمظاهر الحياة العادية فما بالك بظاهرة الأمراض النفسية وهى ظاهرة معقدة ومتداخلة وخفية الأسباب عادة،
بداهة أنه كثيرا ما تأتى إلى حالات بعد مرورها على الشيوخ، وكثيرا ماذهبت حالات من عندى أثناء العلاج أو بعده إلى الشيوخ، لكننى شخصيا لم أقم بتحويل أية حالة واحدة إلى شيخ أو قسيس، وأنا لا أرفض هذه الظاهرة بشكل تشنجى أو مطلق، وبالتالى أنصح المريض بوضوح أن ينتبه إلى مصلحته، وأن يقيس خطواته بمقياس الصحة والسلوك السوى، وأن يفعل ما هو مقتنع به فى حدود ثقافته وعقيدته، وفى حدود ما يسمح به القانون، فإذا ذهب بعد ذلك إلى هذا الشيخ أو ذاك، فهو سيتعلم من خبرته ما يوجهه إلى الوجهة الصحيحة، ولكن للأسف الذين يأتون لى من عند بعض المشايخ والقسس قد يكونون قد مروا بخبرات مؤلمة من الضرب (تحت زعم ضرب الجان) والقهر والإيحاء العشوائى، فيحضرون وبهم كدمات وإصابات خطيرة ناهيك عن تدهور حالتهم النفسية.
- أما جزئية إن كانت مرت على حالات مستعصية أم لا، فكل فرع من فروع الطب والجراحة فيه الحالات المستعصية، بل إن هناك مستشفيات بأكملها متخصصة فى الحالات المستعصية، وهذا لا يعيب أى تخصص، لكن هذا لا يعنى أن يقوم الطبيب بتحويل الحالات المستعصية إلى علاجات أقل فاعلية وأكثر عشوائية.
- ما مدى اقتناعك الشخصى بوجود الجن وقدراته؟ وهل حدث أن صادفك حالات مستعصية ليس لها تفسير علمى ؟ وهل حدث أن قمت بتحويلها إلى شيخ؟
– أنا مقتنع بحق المريض فى تسميه ما يصيبه بالإسم الذى يناسبه، فما يسميه المريض مسا من الجان، قد أسمية أنا ظهور أو غلبة حالة من “حالات الذات” (حالة أنا)، أو أسميه نشاطا ناشزا من نشاطات مستوى من مستويات تنظيم المخ، ولابد أن نحترم ما يقوله المريض لأنه صاحب حاجة، وقد يكون مناسبا أن نترجم معتقداته إلى لغة علمية.ما أمكن ذلك، أما الرفض ابتداء وعلى طول الخط، فهو لن يفيد أحدا، ولن يقلل من انتشار الظاهرة، بل قد يزيد من سلبياتها.
- لماذا حالات انفصام الشخصية بالذات التى يقول الكثيرون أنها مس من الجن وما هو التفسير العلمى لهذه الحالة وغيرها من الحالات التى يقتنع كثير من الناس أنها تدخل تحت فئة الجن وليس المرض النفسى؟
– مسألة “لماذا حالات الفصام بالذات … إلخ أنا أختلف معك فى ذلك، لأن الناس يقولون هذا عن حالات ازدواج الشخصية وليس عن انفصام الشخصية، فانفصام الشخصية مرض عقلى شديد، يتصف بالتناثر والتدهور الذهنى والعزلة والبعد عن الواقع، أما ازدواج الشخصية فهو الذى يظهر فيه المريض أحيانا بشخصية معينة، ثم عند النوبة أو بعد الغيبوبة أو بدون هذا وذاك قد يتحول إلى شخصية أخرى، وهو مرض بسيط ينشأ من الانشقاق لا التفسخ، وهذا الظهور المتناوب لشخصيتين هو الذى يجعل العامة يقولون إن هذه الشخصية الأخرى هى “الجن” الذى لبسه، وهكذا، لكن الفصام شئ آخر أخطر وأصعب، وأكثر تضخيما عادة من مجرد الازدواج.
– وما تفسير ظاهرة التنويم المغناطيسى .. وظاهرة تحريك الأشياء بمجرد النظر إليها؟
– ظاهرة التنويم المغناطيسى، ظاهرة علمية، وإن كانت تطبيقاتها أحيانا تكون علمية وأحيانا تكون غير ذلك، وهى تعتمد على الإيحاء المباشر وتغيير نوع الوعى للمتلقى، سواء كان مريضا أو شخصا طبيعيا، كذلك فإن ظاهرة تحريك الأشياء هى ظاهرة علمية أيضا، وتفسيرها أن بعض الأشخاص لهم قدره على إرسال ما يشبه الطاقه (ربما كهرومغنطيسية) من أعينهم أو أجسادهم، وهذه الطاقة هى التى ترفع الأشياء وتحولها من مكان إلى آخر، وهذا تفسير يحتاج إلى تفصيل لايتسع له مساحة الإجابة، إن أكتفى بأن أشير إلى بعض المرضى جعلونى أتفهم علاقة هذه الظاهرة ببعض حالات التأثير الضار لما يسمى الحسد، وأيضا هذا يحتاج إلى تفاصيل لا يتسع بها المقام .
*****
نشرت فى مجلة روزاليوسف
بتاريخ 23/1/1998
عن المخاوية وزواج الجان
شهد المجتمع المصرى فى الفترة الأخيرة ظاهرة غريبة سجلتها محاضر الشرطة وتفاصيل اعترافات بعض الفتيات والسيدات …. بالاضافة للعديد من الحالات النفسية وهى ظاهرة اعتقاد بعض الفتيات والسيدات بأنهن على علاقة جنسية ببعض الكائنات غير المرئية مثل الجن والعفاريت، وفى اعتقادى المتوقع أن الظاهرة عبارة عن مرض نفسى له أسبابه الاجتماعية والنفسية ولما كانت حدود معرفتنا قاصرة عند مجرد الرغبة فى طرح التساؤلات حول هذا المرض لذلك لجأنا لسيادتك لتضع لنا النقاط فوق الحروف وتفسر لنا هذه الظاهرة، لذلك يسعدنا أن تجيب لنا عن هذه الأسئلة:
1- فى اعتقاد سيادتك ما هو التوصيف العلمى لهذا المرض النفسى؟
للأسف لا يوجد توصيف علمى واحد لكل هذه الحالات، فمن ناحية يمكن أن تشيع مثل هذه الظاهرة فى مجتمع شيوعا غالبا (كما حدث مؤخرا عندنا) لدرجة أنها تصبح من الناحية الإحصائية سمة من سمات ثقافة مجتمع متخلف، وبالتالى لا تمثل مرضا بذاته.
أما إذا كانت الظاهرة نادرة، وشاذة، ومعوقة فإنها عادة ما تعتبر مرضا خصوصا إذا اشتكى الذى يعيشها من آثارها سواء كانت هذه الشكوى للأهل أم للبوليس أم للأطباء النفسيين.
وعموما فإن أغلب هذه الظاهرة تنتمى إلى ما يسمى حالات الإنشقاق وهو – فى معظم الأحيان – نوع مما يسمى الهستيريا، ليس بالمعنى الشائع عند العامة (أى الخلط وعدم الترابط والهياج)، ولكن بمعنى انشقاق الوعى إلى تيارين أو أكثر بحيث يستقبل وعى الشخص العادى تيار الوعى المنشق، ومن هنا يصوره خياله له حسبا لمخاوفه أو رغباته، فهى عملية إنشقاق فى الوعى، ولكن حضورها يمكن أن يحدث فى أمراض مختلفة أهمها الهستيريا الإنشقاقية، وإلى درجة نادرة الفصام وانشقاق الوعى ليس ازدواجا للشخصية لما هو شائع، وإنما هو يشير إ لى استقلال تنظيم داخلنا، وتأثيره على وعينا الظاهر وكأنه – فى هذه الحالات – عادمة من الخارج، كما أن المخادقة بالذات، بما فيها من مشاعر – وممارسات جنسية حتى تشير إلى درجات من الكبت وعدم الإشباع على امتداد طيف متنوع.
2- ما هى الأسباب التى تؤدى لهذا المرض؟
أما عن الأسباب، فهى أيضا متعددة، فقد تكون مجرد ظاهرة اجتماعية -كما ذكرنا- حين تكون منتشرة انتشارا يجعل من احتمالات التقليد والقبول ما يبررها دون انزعاج، وقد تكون دالة على كبت جنسى لا يمكن التعبير عنه مباشرة، وكذلك لا توجد فرصة لعلاجه.
وقد تكون دالة على هشاشة التركيب النفسى للشخصية بما يجعلها عرضة للتفكك بسهولة.
كما قد يكون سببها سوء استخدام وتفسير بعض المفاهيم الدينية.
وأخيرا فهى تظهر بوفرة مع انتشار الخرافة عامة.
3- كيف يمكن علاج هذا المرض؟
العلاج فهو يبدأ بداهة بالوقاية:
وذلك بنشر الوعى بدرجة تجعل من مثل هذه الظواهر أمرا مرفوضا عند الكل أو الأغلبية على الأقل.
وعلينا أن نحذر سوء تفسير الدين لتبرير مثل هذه الظواهر، فلا يوجد دين أنزله الله يسمح بهذا الاعتقاد، وعلى الرغم من أن الأديان تعترف بعوالم أخرى، ولكن الاعتراف شيء والوقوع تحت تأثيرها شئ آخر.
وكذلك من الوقاية أن نربى أولادنا وأنفسنا بحيث نسمح بفهم الطبيعة البشرية التى خلقها الله فينا، بما فى ذلك أن واقع الجنس هو فطرة سليمة خلقها الله لحفظ النوع، وأن الثقافة الجنسية الصحيحة، تؤكد ضرورة احترام التركيب البشرى بكل ما خلقه الله، )، وأنها – الثقافة الجنسية الحقيقية- هى حق كل إنسان، كما أن الممارسة الجنسية المشروعة ليست عيبا، ولا خروجا عن الحياء (كما يتصور بعض المتزوجات).
أما الحالات التى تصاب فعلا بهذه الظاهرة، فعلاجها يتوقف على نوع الحالة، ونوع الاضطراب الدال عليها، ونوع المجتمع الذى ظهرت فيه.
ويبدأ العلاج من الدائرة الأوسع وهو أن يفهم المجتمع الأصغر والأسرة بالذات أن هذا الذى حل على المخاوى، أو المخاوية هو طارئ مرضى وليس حدثا خارقا، ذلك أن المرض يحتاج علاجا وطبيبا وأحيانا عقاقير، أما الحوادث الخارقة فهى تتوقف عند مرحلة التفسير والتبرير وأحيانا القبول وسوء الاستعمال لأغراض غير أخلاقية.
فأحيانا ما يمارس بعض المدعين الجنس مع من تلجأن إليهم فى حجرات مظلمة، تحت زعم أن هذا الذى يمارس هو المس من تحت الأرض، وأحيانا ما يتكرر ذلك بشكل خطر، والأهل فى الخارج ينتظرون الفرج.
4- هل لهذا المرض علاقة بقصص عروس البحر والجنيات اللواتى يحكى أنهن اختطفن أناساً من بنى البشر ليعشن معهن والتى كانت تطالعتنا بها قصص التراث الشعبى؟
هذا السؤال يطرح جانبا آخر من القضية، وهى حاجة الإنسان – رجلا أو امرأة أو فتاة أو صبى – إلى أن يكون موضع اهتمام ورغبة من الجنس الآخر، وبالذات أن يكون مرغوبا جنسيا، فالمسألة هنا لا تقتصر على كبت المشاعر الجنسية عامة، بل إنها تمتد إلى حاجتنا إلى أن يـرغب فينا بشكل أو بآخر.
والأساطير وحواديت التراث الشعبى إنما تدل عادة على وعى أعمق، وأحيانا عن الوعى الجمعى (أو بتعبير أقدم عن اللاوعى الجمعى).
فالربط بين هذه الحواديت والأساطير وارد ومفهوم من هذا المنطلق. وقد يمثل خيالا شعبيا تعويضيا مقبولا فى بعض المجتمعات فى بعض المراحل.
5- ما هى أبرز الحالات التى صادفت سيادتك لنساء أو رجال مصابون بهذا المرض؟
لا توجد فى الحالات أبرز وأخفت، وأنا عادة لا أجد معنى لأن أحكى عن حالات خاصة لأننى مهما أخفيت، فإنها عرضة لأن تعرف على الأقل من الأقربين وهذا ضد أخلاقيات المهنة، اللهم إلا إذا تم الإخفاء بشكل شديد، وكان المجال علميا أكثر منه للقارئ العام.
وبصفة عامة فإن الأمر لا يحتاج إلى عرض حالات، فقد كثرت الحالات بدرجة أن أى شخص يلتفت حوله، أو يحسن الإستماع إلى حكاوى الجلسات الخاصة، فى كل طبقات المجتمع بما فى ذلك سيدات الصالونات، قد يسمع من الحكايات ما يكفيه ولا يدهشه.
*****
نشرت فى جريدة الوفد
بتاريخ 7 يونيو2001
قياس تطبيقى فى الهم السياسى!! من مقال
….
….
….إذا أصر نظام ما ألا يسمع إلا صدى دورات الأقمار الصناعية التى تدور فى فلك تصريحاته المفرغة، وهو يوهم نفسه باتساع رقعة الديمقراطية لمجرد إضافة ‘مكلمة’ جديدة هنا وهناك بين الحين والحين، (من أول “اختراق” حتى “الرأى الثالث” مرورا بـ ”رئيس التحرير” و”حديث المدنية” و”دعوة للفكر”.. إلخ)، إذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يتذكر هذا النظام أن الناس سوف تعامله بالمثل: قوة السلطة التى لا تسمع، ترد عليها قوة الجماعات التى لا تفهم، بيانات الحكومة المغلوطة والمكررة والمعادة، دون استلهام وعى الناس وتفهم احتياجاتهم، ترد عليها تفسيرات النصوص الدينية الجامدة والقديمة والمعادة دون استلهام النص الكريم لصالح الناس، تكتلات مصالح الثلل الرسمية والمالية، ترد عليها تكتلات نقابات تتصور أنها أحزاب، كما ترد عليها شطحات ثلل الشباب وهم يتصورون أنهم أنبياء أوشياطين أو أحرار.
بين الهرب والشطح والإبداع
كلما كانت الكارثة جسيمة وساحقة، احتاج الأمر لحل غير تقليدى، حل غير مكرر، غير جزئى، غير تأجيلى، غير مسبوق. لم يعد يكفى أن نواصل ترقيع ثوب يتقطع من كل جانب إعلانا عن رداءة نسيجه وسوء حياكته، ولم يعد نافعا أن نلجأ للحل التسكينى العابث، ولم يعد مناسبا اصطناع حلول ظاهرية انكشفت للجميع (مثل الانتخابات دون انتخابات، ومجلس الشعب دون شعب، ومجلس الشورى لتحسين السمعة).
فى مثل هذه الأوقات ينفتح أحد سبيلين: إما الهرب والطنبلة (الطناش)، وإما الإقدام المغامر الذى يمكن أن يكون شطحا كما يمكن أن يكون إبداعا.
الهروب إلى عالم الجان
ما الذى جعل الأستاذ الدكتور نادية رضوان أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية ببورسعيد، تنتقل من بحثها النادر الرائع “الشباب المصرى المعاصر وأزمة القيم” التى قامت فيه بدراسة تتبعية جادة لمجموعة من الشباب منذ كانوا فى السنوات النهائية حتى تزوجوا وتحولت اهتماماتهم (فى الفترة من 1984 حتى 1994) لتنشر البحث سنة 1997، (بدون صورتها) عن طريق الهيئة العامة للكتاب، ما الذى جعلها هى هى تنشر كتابها الأخير “رحلتى إلى عالم الجن والعلاج الروحانى” وعليه صورتها الجميلة فى طبعة فاخرة تصدرها دار الشروق سنة 1..2. أليست هذه النقلة هى دراسة تتبعية فى ذاتها لحالة الكاتبة؟ ربما كان إهمال نتائج بحثها (السياسى الاجتماعى الرائع)، هو الذى ردها إلى عالم الجان، فانغلقت على ذاتها وراحت تتغزل فى جمالها وصداعها عن طريق الجان وغير الجان عبر ثلاثمائة صفحة.(!!!)
هالة سرحان [2] ووزير البحث العلمى
فى برنامج يا هلا منذ عدة سنوات فى محطة أرت ARTنظمت هالة سرحان حلقة عن العلاج بـإخراج الجان من الأجساد الملبوسة، والعقول الممسوسة، وكان من بين الحاضرين بعض الذين يمارسون ذلك، وأيضا وزير سابق للبحث العلمى، ووكيل أو عميد (لاأذكر) لكلية أصول الدين، وجرى النقاش والاستعراض حول قدرة من يزعم تحضير الجان، وأنه يستطيع أن يكلف الجان بتحريك السحاب ونقل الجبال من أماكنها وكلام من هذا. أنا لا أنقاش هذا الموضوع الآن فله حديث آخر مهم قد أعود إليه، لكن من الجدير بالذكر أن وزير البحث العلمى السابق صدق على ما يقال من هذه المزاعم، وأن صاحب الفضيلة من كلية أصول الدين ذكر أحاديث هو يعتقد بصحتها، كلها تدل على قدرة الجان وقدرة من يستطيع تسخيرها لنقل الجبال وشفاء البشر.وإنزال المطر..إلخ.
طلبت من كل هؤلاء الواثقين من يقينهم هذا، بعد أن كادوا يكفرونى رغم أننى لم أنكر – بطريق مباشر- شيئا مما قالوا، طلبت منهم أنه إذا كان الأمر كذلك، فلم لا يسخرون الجان ليحصلوا لنا على أسرار المفاعل الذرى فى ديمونة فى إسرائيل، لم لا يا يرسلون جنيا ناصحا ليشل حركة نتانياهو ويقطع خلفه (لم يكن باراك أو شارون قد شرفا بعد) لم لا يكلفون باسم الله الرحمن الرحيم جانهم بالاستيلاء على أموال العرب المودعة فى البنوك اليهودية الغربية، ويحولوها – بمنتهى الأمانة – إلى البنوك العربية لعمل صناعة عربية، فنهضة عربى، فحضارة عربية. لم لا يسيرون السحاب فيحلون لنا مشكلة نقص المياه فنزرع الصحراء ونحن جلوس ولا حاجة لدوخة توشكا؟ أم أن إسقاط المطر، وتحريك الجبال، وتلقيح النساء العاقرات أسهل وأكسب وألذ؟ ولم أقل فى البرنامج أنه ربما أن الجان ملتزم باستقرار النظم العربية نظير أن يستولى على حريمنا وعقولنا، ومرضانا فى الظلام. أو لعل الجان ممنوع من الاشتغال بالسياسة مثل طلبة الجامعات عندنا.
إن انتشار هذه الظواهر، يا سادتى يا كرام، له دلالته السياسية أيضا. إنه نوع من الانسحاب إلى عالم غير العالم، عالم تحكمه قوانين غير مرئية، ما دامت القوانين المتاحة لتسيير حياتنا فاشلة أو موقوفة، أو يحكمها ما لا نعرف من محاسن الصدف أو أخطاء الشطح.
*****
نشرت فى مجلة وجهات نظر
عدد فبراير 2006 – العدد الخامس والثمانون
استهلال توضيحى: لم ينشر فى الدراسة النقدية
على الطبيب – على الأقل من منطلق ثقافى – أن يستقى معلوماته من كل المصادر: من الواقع الجارى، ليس فقط فى عيادته، وإنما من كل ما يصله مما حوله، ومن الوعى الشعبى، ومن التراث الشعبى، ومن الإبداع الأدبى، ثم من قبل ومن بعد من المعلومات العلمية وأخبار المعامل وأرقام الأحصاء، ولا يحق للطبيب أن يفضل أى مصدر من هذه المصادر عن مصدر آخر إلا بمقدار ما يفيد مرضاه، ويساعده فى أداء مهمته، لتحقيق الصحة الإيجابية، التى هى فى نهاية النهاية: إطلاق الفطرة البشرية كما خلقها الله إلى ما خلقها له من نفع الناس، وتعمير الأرض، والتناغم مع الطبيعة، للتكامل مع الوعى الكونى، فى رحلة النمو الفردى التى لا تنتهى، كدحا إلى وجه الله.
إن استلهام الإبداع من ديستويفسكى مثلا، قد هدانى إلى معرفة سيكولوجية الطفولة أكثر من أى مصدر علمى، واستلهام هارمونية الإيمان وحفز الموت إلى الحياة (وهو جزء من الصحة التوازنية) [3] مع استحالة الخلود فى الدنيا قد غير عليه فى حرافيش محفوظ أكثر من أن مصدر علمى أو فلسفى آخر، مما أعاننى فى مهنتى طول الوقت.
أما فى حدود ما نحن فيه فقد عن موضوع العلاج الشعبى وبالذات العلاج بالقرآن جاءت قراءاتى النقدية المقارنة بين “لحس العتب” (خيرى شلبى) وقنديل أم هاشم (يحيى حقى) [4] إضافة لى (وللقارئ غالبا) فى قضية “العلاج الشعبى” إضافة لم أكن أحلم بها.
فى الروايتين دعوة ضمنية، تبدو غريبة وخطيرة، لقبول فكرة العلاج الشعبى بشكل أو بأخر، ولكن فى عمق هذه الدعوة، تكتشف أنها ليست دعوة خالصة لاستبدال هذا العلاج بالطب الرسمى، وإنما هى تذكرة بما يكمل الطب، وتفرقه بين الاعتماد على الخرافة منفصلة عن لحن إيقاع الكون النابض، وبين اللجوء إلى استعادة التوازن اتساقا مع سيمفونية التكامل المتصاعدة، والايقاع الحيوى الممتد من الخلية إلى مطلق الكون.
زيت قنديل أم هاشم لم يكن زيتا، بل نور على نور.
واستلهام الإيقاع الحيوى الكونى الذى أنقذا الصغير الباقى من مرض عضوى عضال هو عكس خرافة “لحس عتب” المسجد بكل قاذوراته ونشازه، الذى قفل أخاه قتلاً، وكلاهما من الطب الشعبى.
تأكدت وأنا أكتب هذه الدراسة من جديد أن الإبداع هو إعادة تشكيل الوعى الذاتى، والوعى الواقعى، والوعى الشعبى، باستلهام كل ما يضيف إلى المعرفة ويضىء الطريق.
من هنا أحسست أن إضافة هذه المغامرة النقدية هى ضرورية للتمييز بين نوعين من الممارسة الشعبية على طرفى نقيض تماما.
الحياة (الصحة)هى سيمفونية رائعة
ومهمة هى أن الطبيب يصلح من آلات عزفها، أو يدرب المتعثرين فى العزف على اقفال أدائهم، وأن يتواصل مع المايسترو إن استطاع،
وهو يساهم بكل ذلك معاً فى تحقيق هارمونية الوجود ما أمكن.
الدراسة
مقدمة
حين يواجه ناقد ما، له منظومته الأيديوولوجية، ومرجعيته العلمية، وأرضيته المعرفيه، ما يقدمه مبدع جيد جاد من رؤية تخالف ما ثبت لدى هذا الناقد “بالضرورة” (علما، أو تاريخا، أو أيديولوجية، أو حتى دينا)، أين يضعها؟ هل يحكم عليها بالصحة والخطأ؟ هل يقيسها بمقاييس ما وصل إليه من علم حتى لو كان متخصصا فيه بجوار اهتماماته النقدية؟ هل يضمها إلى نوع من الخيال البعيد، ومن ثم غير القابل للقياس بمحكات الواقع ومعطياته الحالية؟ هل يستلهمها بدهشة مسؤولة باعتبارها مصدرا مختلفا للمعرفة، فيضع لقراءتها ما يلوح له من فروض جديدة محتملة، تتحقق أو لا تتحق بإضافة من مبدعين آخرين، أو من مصادر أخرى للمعرفة: آنية، أو آتية؟
متى كان المبدع مبدعا، فعلينا أن ننحنى لما أبدع، لا أقول نستسلم له، ولكن نحترمه، ونشتغل فيه بما هو، لكى لا نحكم عليه من خارجه. لعل هذا هو ما دعانى إلى رفض، أو على الأقل التحذير من أغلب مناهج النقد النفسية، وخاصة منهج التحليل النفسى التقليدى. (فصول 1983) [5] مسموح بأن تواكب المعرفة معرفة أخرى من منظومة أخرى تدعم بعضها بعضها، أو تعارض بعضها بعضا، لعلها تجادل بعضها بعضا، لكن أن تقف منظومة معرفية، مهما كان إحكامها أو رواجها، وصية على منظومة أخرى تقيسها بأدوات من خارجها، فهذا اختزال غير مقبول.
حين قرأت لحس العتب لخيرى شلبى، وعشت جزئية التداوى الفاشل القاتل بلحس قاذورات ما تبقى من أحذية الداخلين إلى مقامات الأولياء فى مركز دسوق، جزعت، وحين مات خالد (الأخ الأصغر) نتيجة لذلك حزنت، لكننى اطمأننت للرسالة التى وصلتنى، ثم فوجئت أن شقيقه (الرواى: فخرى) المصاب بنفس المرض تقريبا قد شفى تماما، وبسرعة غير متوقعة، من وصفة أخرى لضاربة ودع أشارت على أمه ببعض الطقوس والرقى، شفى إذْ تجرع من الحياة الخميرة النابتة فى الخل التى تلقت قطر الندى، على نغمات الإيقاع الحيوى الكونى المنتظم. فوضعت ما حدث بين قوسين. لم أرفضه برغم مخالفته لأبسط قواعد الطب، ولم أضعه فى نفس موضع لحس العتب باعتبارهما تطبيبا شعبيا معاً، بل رحت أحاول أفهم حدْس هذا المبدع الذى جعلهما عكس بعضهما تماماً، فطفقت أقرأ المرة تلو الأخرى دون حل قريب.
يبدو أن هذه الجزئية من الرواية، هى التى ذكرتنى برواية يحيى حقى الشهيرة : قنديل أم هاشم ، لم تسعفنى الذاكرة بالتفاصيل، فرجعت للرواية، فحضرنى بوضوح غامض أن قطر العين المريضة بزيت القنديل قد فشل حتى قاربت فاطمة العمى، وأن استعمال جزئيات العلم حتى الوارد منها من “بلاد بره” قد فشل أيضا وأوصل الحالة إلى نفس المصير. لكنَّ تصالحا ما قد تم أخيرا بين إيقاع وعى المعالج والمريضة والكون فى لحن متكامل، جعل تلقى المريضة لما سبق فشله، ينجح، وبلا دهشة (أنظر بعد)
لم أجد تفسيرا علميا لما حدث هنا وهناك. رفضت التفسير بالإيحاء السطحى، كما لم أقبل تلفيقا مختزلا يصفق لشعار يجمع لفظى “العلم والإيمان” معا ، بشكل شعرت معه بالاستسهال حتى خشيت أن يصل هذا الكلام إلى المتلقى بتلفيق مصطنع لم تقصده الرواية. على النقد وهو ينفى هذا التلفيق الذى لم يرد فى النص أن يثبت عكس ذلك أو غير ذلك، الرفض هنا للتسطيح والتلفيق أو حتى التسويه، لكنه لا يشمل رفض أى جدل حيوى محتمل.
فهى دعوة غامضة مثيرة: أن نعيد النظر فى مفهوم أعمق لما هو علم وما هو إيمان وما هو طب وما هو خرافة. وهذا ما تحاوله هذه المداخلة.
أثناء مراجعتى لقنديل أم هاشم [6] ، وكنت متحفظا على ما شاع عنها، وبالذات على ما وصلنى من الفيلم بنفس الاسم، (قبل أن اشاهده) فوجئت بمنظر تم حذفه فى الفيلم وربما أغفل فى كثير من النقد، ولقد تبينت أننى لم أنتبه إليه من قبل بالقدر الكافى: منظر إسماعيل،(الدكتور إسماعيل فى نهاية الرواية) وهو كائن ضخم الجثة، أكرش، مدمن للتدخين وربما للنساء الجميلات، مصدور، يستعمل امرأته، بأقل احترام، فينسلها ما شاء من نسل دون حساب (وربما دون مسئولية)، وفى نفس الوقت يعالج الفقراء بقروش، فى مكان قذر، ويشفون. تساءلت: ما علاقة هذه النهاية (أقل من صفحتين قطع صغير) بكل ما جاء فى الرواية من صراع بين العلم والمعتقدات الشعبية؟ بين الغرب والشرق؟ بين الشمال والجنوب؟ بين الانتماء والخلع؟ . تأكدت أن وقفة أمام هذه النهاية التى حذفتها السينما، وربما تجاوزها أغلب النقاد، هى ضرورية لإعادة النظر فى النقد المتاح، ثم تأكدت أن قراءة حالة إسماعيل كنص بشرى نقدا، قد تكون لازمة لتفسير بعض أبعاد الصورة الكاملة دون الغاء صفحتىْ النهاية فأجلت ذلك لأتناوله فى دراسة لاحقة مكتفيا أن أركز فى هذه الأطروحة على مستويين نقيضين للتطبيب الشعبى.
لحس العتب مقابل حدس الإيقاع الحيوى
بالعودة إلى رواية لحس العتب لخيرى شلبى [7] نتذكر كيف تسربت الحياة من أسرة طفلنا الراوى على أكثر من مستوى، المال تسرب بخيبة الوالد التجارية، ولم تنفعه أحلامه حالة كونه جالسا ينتظر عكس ما يجرى أمامه واقعا، هذه الأحلام كانت محل نقد أو رفض أو سخرية هامسة أو معلنة من معظم رواد المندرة، سواء وهم جلوس يتغامزون، أو بعد الانصراف، ويبدو أن بعد الوالد عن الواقع اضطره أن يفرض خياله الآملِ بقسوة جازمة، وربما هذا هو ما وصل للأولاد كنوع من القسوة حتى رفضوه: “…لقد كان يساورنا الشك فى أن يكون أبى- هذا الجلف الخشن الغليظ الصوت والرقبة – كان ذات يوم من الأيام ابن عز” (ص 7). المسألة لم تعد تدور حول ما إذا كان رب الأسرة إبن عز أم إبن فقر، بقدر ما أنها تعلن أن هذه الأسرة لم يعد يربطها تاريخ أو أمل. وحين أعلن المرض حلوله فى فخرى وأخيه بهذه الصورة التى تنبعج فيها البطن ويذوى الجسم، كان ذلك بمثابة الإعلان الأقسى لتسرب الأشياء والحياة. كل شىء يتسرب إلا الترابيزة التى أعلن الراوى إحياؤها لتقاوم حتى النهاية، لم يستطع أى من الولدين أن يقاوم المرض مقاومة الترابيزة للإزاحة، تراجعا أمام ضربات المرض المتلاحقة . الترابيزة فعلت العكس، إذ ظلت تمتنع أن تضحى بوجودها فى سبيل توفير نفقات علاجهم، المرض الخطير المتسحب بهذه الصورة كان بمثابة إعلان هزيمة الحياة تدريجيا وباضطراد.
لم ينفع التطبيب العشوائى، ولم تتيسر مصاريف علاج الطب التقليدى، فما العمل؟
هنا، كما فى القنديل، مستويان من التطبيب الشعبى، الأول فيه من التفسخ والاغتراب ما تجسد فى قذارة منفصلة متجمدة لفضلات نيازك بشعة متنافرة عفنة، فالعتب الذى لحسه الطفلان لم يكن له علاقة لا بالأولياء الذى هو على بابهم، ولا بالطبيعة المحيطة النابضة ذات الإيقاع الحيوى، وحين أُفرغ العتب مما عليه من قاذورات أصبح خاويا حتى من قذائفة الشاردة المتنافرة. تبين الشيخ على بقوس (الشيخ كعبلها)، وهو الذى أشار على الأم بالوصفة ابتداء، تبين هذا الخطأ الذى حدث نتيجة مسح العتب وتنظيفه قبل اللحس، وأفتى بأن ذلك هو الذى جرح شعور ولىّ الله، فصحح الوضع ونصح الأم أن يكون اللحس دون غسيل، ففعلتْ، ولحس الطفلان بقايا وشظايا القذارة والعفن: انغرست بقايا التفسخ البشرى كأنها النيازك الساقطة نافرة من لحن الحياة، انغرست فى قلب الأخ الأصغر (خالد) فقضت عليه فى ليلته. فشلت محاولة الاستعانة بالأولياء لأنهم لم يكونوا هناك أصلا فى وعى طالب عونهم. حلت محلهم بقايا قاذورات أحذية ونعال وأقدام الداخلين إلى المقام، كان التبرك ببقايا نشاز قذرة منفصلة متفسخة وثنية، فهى الخرافة القاتلة.
البديل التقليدى بعد هزيمة الحياة فى الأخ الأصغر “خالد”، كان زيارة الطبيب فى البندر لعله ينقذ ما تبقى أو من تبقى، لكن الإمكانيات لم تسمح إلا بزيارة واحدة للدكتور ألبير فهمى فى بندر دسوق حين أمكن توفير أجرة السفر والكشف من بيع نحاس الأم المرّة تلو الأخرى، فأمكن توفير قيمة الكشف ومصاريف السفر، لكن المبلغ لم يغطِّ ثمن الدواء، كذلك لم تنفع استضافة الجدة الصبية وزوجها الفحل للطفل المريض إلا بقدر ما أتاحت استشارة عابرة لمستشفى حكومى ثبت أنها كانت مثل قلّتها، ثم سرعان ما تخلصت الجدة وزوجها من الطفل الدخيل الذى كاد يفسد عليهما شغل الليل الصارخب.
فى قنديل أم هاشم لم ينفع الزيت كجسم متعين غريب عن الوعى والإيقاع، كما لم تنفع المعلومة العلمية الجزئية المنفصلة هى أيضا كجسم غريب، لكن الذى يبدو أنه نفع هو التصالح مع أنغام الوعى البشرى ضمن لحن النغم الأكبر للإيقاع الحيوى مستعملين كل آلات عزف التوازن معا: علماً، وإخلاصاً، ومشاركةَ وعىٍ لوعىٍ، تحت مظلة وعى ممتد أكبر.
فى لحس العتب: ضاربة الودع قدمت بحدْسها الفطرى حلا آخر له معالم أخرى، هو الذى نجح إذْ تميز بشكلٍ ما بمواكبة الإيقاع الحيوى وصْلا بين الوعى البشرى والوعى الكونى (الإيمانى) الممتد، وذلك كما ذكرنا: سواء من خلال الخميرة – فى الخل- المخلٍّقة للحياة، أو من مواكبة الإيقاع اليومامى، فى مجال ثلاث أذانات: المغرب والعشاء حتى الفجر، ثم مواكبة ظهور القمر أول كل شهر لثلاثة أيام، كل ذلك ليس شافيا بذاته، لكنه قد يحمل حدسا شعبيا يقول بأن الحياة التى تسربت بالانفصال والاغتراب والتفسخ والقذارة يمكن أن تعود بالاتساق والهارمونى والصحوة التوازنية فى حضن الطبيعة.
الفرق بين لحس العتب، وبين التناغم مع الطبيعة فى مواكبة الإيقاع الحيوى (الإيمانى: العارف هو الله- شِفاه على الله وعلىّ – ص64)، هو الفرق بين نشاز الخرافة والتناغم مع لحن الطبيعة الممتد. ضاربة الودع ليست عمياء البصيرة، ولا هى صاحبة حسم اغترابى، هى قد تكون مجرد وسيط فطرى يستوعب إيقاع الكون، وإيقاع البشر فى آن، فينصح كيف يصحح النشاز بالعودة إلى التكامل مع اللحن الأساسى الممتد.
وعى هذا الحدْس الفطرى قد يكون قادرا على أن يلتقط النغمة النشاز مثل أى أذن من التى نسميها “الأذن الموسيقية” التى تلتقط أى نغمة نشاز تتداخل فى لحن تعرفه جيدا: ربما هكذا تبين لفطرة ضاربة الودع كيف تتسرب الحياة من الآلة المنفردة (فخرى) حين انفصلت – لأى سبب كان – عن اللحن الأساسى، فأشارت ضاربة الودع بما أشارت به مما يمكن أن يسهل طريق التصالح بين إيقاع وإيقاع، فى لحنٍ ممتد أكبر. إن مثل هذا التصالح المحتمل قادر على أن يساهم فى إعادة التوازن حتى التغلب على أمراض عضوية تشريحية وليس فقط أمراض نفسية وظيفية، إن ذلك لا يعنى أن يكون هذا الحل بديلا عن الطب المعاصر، وإنما هو يشير إلى بعد آخر لما يسمى “الصحة”.
قلنا فى المقدمة، نحن لا نستطيع أن ننكر حدس المبدع لمجرد أنه يخالف معلومات جزئية فيما وصل إلينا من طب وتطبيب، إن الطب الرسمى إذ ينكر أهمية استعادة الهارمونى بين مستويات التوازن الداخلى المتصل بالتوازن الخارجى، إنما يفّوت على نفسه فرصا ليست هينة مهما بدت غامضة له فى الوقت الحالى. المفروض أن الطبيب الحقيقى هو وسيط حقيقى لاستعادة التناغم الإيقاعى الحيوى المنطلق = الصحة. المطلوب هو أن يستعمل الطبيب كل وسائله العلمية التى تساعد على استعادة هذا التوازن (بعد التخلص من أسبابه إن وجدت)، لكن ليس هذا هو الحادث فى عالم الطب الحديث، فالاعتماد كله أو أغلبه هو على الأدوات والفحوص والمضادات والتسكين، إن إنكار الطبيب المعاصر لدور الطبيعة فى استعادة الهارمونى هو الذى يخلـّق ما يسمى “الطب البديل” بخيره وشره, ثم إن التمادى فى هذا الإنكار هو الذى جعل الخرافة تصبح هى الغالبة والأكثر ضررا.
عودة الحياة إلى الطفل فخرى، من خلال استعادة التوازن مع بقية دوائرها، صاحبها حادث الاضطرار للتخلص من الترابيزة بعد أن انهزمت تحت سقوط السقف فوقها حتى تهشمت. كأن انهيار السقف على الترابيزة هكذا هو إعلان إمكان كسر الجمود حولها، بعد أن أصبحت لا تمثل الحياة، لقد بدا بمثابة “إعدام العدم” الذى أصبحت تمثله الترابيزة بعد أن كانت تمثل الحياة. إن تسليم الوالد بنزوحها كما انزاح الملك فاروق هو اعتراف بأن عز الحياة لا يعود لمجرد تمسكنا برموزه القديمة، وإنما هو يتخلق من جديد إذا تصالحنا مع أنغام الحياة المتجددة الممتدة القادرة على استعادة التوازن بين دوائر الوعى و دوائر الكون.
هذا عن الخطوط العريضة للمرض/التسرب/ النشاز/ التوقف، فى مقابل التناغم/ التوازن/التجدد/البعث، وفى هذا إعلان أيضا عن التناقض بين التسليم النشازى المتطاير ، فى مقابل استعادة مواكبة الطبيعة بيقين جديد (وليس بإيحاء مسطح)، ثم لعله تنبيه إلى موقع الطب المكينى الحديث الذى ينبغى أن يعود ليحترم إمكانيات طالب النصح، وأن ينصت إلى البدائل, ويميز منها ما يعاونه، فلا يعمم الرفض ويعتبر أن كل ما ليس فى نطاق معلوماته، هو خرافة محض وفى نفس الوقت عليه ألا يقزّم دوره حين تصبح عطاياه الجزئية منفصلة عن “تناغم الوعى الفردى فى الطبيعة” : أصل ما يمكن أن يسمى “صحة”.
الإيقاع الحيوى: نور على نور
حين حضرت لى رواية قنديل أم هاشم فارضة نفسها فرضا وأنا أقرأ لحس العتب لم أستطع أن أتبين معنى ذلك بدرجة جاهزة من البداية ؟ تقارب زمن الروايتين ليس كافيا، كما أن ممارسة التطبيب الشعبى (بشقيه السلبى والإيجابى) ليس متوازيا بما يسمح بالمقارنة، إلا أن نظرة لاحقة جعلنى أربط بين هذه الممارسات النقيضية فى كلا العملين، بما قد يضيف إلى الفروض المطروحة بعض الانارة.
ليس الزيت، لكنه النور
من البداية والشيخ درديرى ينبهنا أنه “يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان (ص 72 )، فلا بصر مع فقد البصيرة، ومن لم يشف فليس لهوان الزيت بل لأن أم هاشم لم يسعها بعد أن تشمله برضاها، أم هاشم كما وردت فى الرواية، وفى وعى غالب فى الشعب المصرى, لها حضور حيوى نابض. هى ليست مجرد فكرة إيحائية. حين استنقذت نعيمة بأم هاشم طالبة التوبة ، شك إسماعيل أنها (السيدة زينب) بادلتها القبلة تعبيرا عن قبول شفاعتها “.. ومن ذا الذى يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة (نعيمة) (ص80).
القنديل لم يكن أبدا “فانوسا” يضىء، مساحة محدودة بجدران فحسب، هكذا أوضح الأمر الشيخ درديرى منذ البداية (ص66) قال :”هيهات للجدران أن تحجب نوره”. ثم يمضى الوصف بحيث لا يدع مجالا للشك أنه ليس قنديلا: “…وانتبه (إسماعيل) لوصف الشيخ “.. هذا القنديل الصغير .. يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار، إننى ساعتها لا أطيق أ رفع عينى إليه” ثم يردف الشيخ درديرى وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، يضفو ضوؤه الخافت على المقام كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام فى أحضانها، ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانا او وقفات تسبيحها همسا. يطفو (القنديل) فوق المقام كالحارس مبتعدا تبجيلا، أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطداما بين ظلام يجثم، وضوء يدافع، إلا هذا القنديل، فإنه يضيئ بغير صراع! لا شرق هنا ولاغرب، ما النهار هنا ولا الليل، لا أمس ولا غد”، “وانتفض إسماعيل، لا يدرى ما هذا الذى مس قلبه”! ( ص 74)
نور القنديل يحضر كائنا يرى، يدرك، ويرضع ويحنو من البداية (ص 66) حتى قرب النهاية (17) ” .. ورفع إسماعيل بصره، فإذا القنديل فى مكانه يضئ كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، خيل إليه أن القنديل وهو يضئ إليه ويبتسم (لاحظ تكرار نفس الألفاظ رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ!! (ص74).
هذه القصيدة تفرق بين النور الحانى، وبين الضوء المقتحم، وتجعل الواقع السلسلة التى تحمل القنديل (ص 74) هو الوهم (أما السلسلة فوهمُ وتعّله). حين يصل الأمر إلى الإشارة، ولو دون قصد، إلى القنديل ربما يستمد نوره من زيت شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، حيث لا نهار ولا ليل، حيث السرمدية الحانية، فنحن أمام قبس يرمز إلى، إن لم يعرض، النور الذى هو على نور، وبالتالى لا يكون الزيت زيتا عاديا يقطر فى العين لمرضى البصر، وإنما هو الزيت الذى هو النور الذى يكاد يضىء ولم تمسسه نار، هو النور الذى ينير البصائر إيقاعا حيويا متسقا. الفرق بين الزيت حين يوضع كزيت ، مادة لزجة لها قوام، فى عين رمضاء، وبين النور الذى يعيد النغـمة الشاردة النشاز (المرض) إلى موقعها فى اللحن الممتد من الإيقاع الحيوى الذاتى إلى الإيقاع الحيوى الكونى، هو الفرق بين زحف العمى إلى عيون فاطمة النبوية نتيجة التداوى بالزيت المتعين، وبين إبصارها نتيجة للتناغم مع إيقاع النور الممتزج بالعلم الصحيح. أما جزئيات العلم وهى منفصلة عن هارمونية النور الإيمانى المسئول، فهى لا تقل اغترابا عن الزيت الجسم الغريب قبحا ونشازا. هذا الفرق فى رواية حقى يكاد يكون موازيا للفرق بين لحس العتب وبين حدس ضاربة الودع وسيطا إلى استعادة التوازن مع النبض الحيوى فى رواية شلبى.
قد يكون من السهل نسبيا أن نفهم الفرق الأول بين الزيت كزيت، وبين الزيت كنور السماوات والأرض عن التوازن الحيوى المطلق المفتوح النهاية، لكن الأصعب هو أن نتصور أن المؤسسة المعلوماتية الطبية المغتربة يمكن أن تكون أحيانا لها هذا الإضرار حتى العمى. إن الذى يفسر بعض ذلك – فرضا – هو تلك الكلمة التى أطلقها إسماعيل وهو يهوى بعصاه على القنديل ص 194 : ” وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه حتى تناثر زجاجه، وهو يصرخ ” أنا.. .أنا …أنا . كتب المؤلف هامشا مضافا إلى الطبعة التى بين يدى ص 104 مؤرخا سنة 1974 يعلق فيه على هذا الموقف: من النادر أن يرصد كاتب نفسه كل هذه المدة (أكثر من أسبوع) وهو يحاول أن ينتقى لفظة بذاتها لموقف بذاته، ومن النادر أن يأتى بهذا اللفظ الغاضب المنقطع “أنا..أنا” مبتدأً بلا خبر، ليفيد به (بنص هامش اعتراف الكاتب بعد ثلث قرن أن “…هذه هى الكلمة التى كنت أبحث عنها ، لأنها تجسد كل المعانى التى طلبتها”. ما هى تلك المعانى التى طلبها المؤلف حتى تحتويها هذه الكلمة فيفرضها علينا هكذا، مرة بحجة أنها الكلمة التى قالها نيتشه هابطا من بيته حين أصيب بالجنون، ومرة وهو ينتبه إلى أن حرف النون به نغمة الأنين. بصراحة لقد تعجبت من هذا الهامش ورفضته بقدر ما فرحت به، رفضت محتواه التفسيرى أو التبريرى، فالمبدع يكتب ما يعن له دون أن يحدد “كل المعانى التى طلبها”، ثم إن حكاية النون والأنين هى أبعد ما تكون عن موقف الصراخ المجنون، وحتى حكاية نيتشة ليست كافية لتعلن أن مَسَّا من الجنون قد أصاب إسماعيل. إلا أننى فرحت به للتأكيد على أهمية هذا الانتقاء ولكن من وجهة نظر أخرى، لقد استقبلتُ صيحة “أنا.. أنا.. أنا..” باعتبارها إعلان انفصال الكيان الفردى عن النبض البشرى الجماعى، وعن النبض الكونى الكلى، هذا الانفصال الذى يلغى فاعلية الإيقاع الحيوى فى استعادة التوازن، فينقلب العلم الجيد والمعلومات المفيدة من آلات تشارك فى عزف لحن الإيقاع الكلى، إلى جسم غريب قد لا ينفع وقد يضر، فتكون بمثابة الزيت المنفصل عن النور قياسا. المعنى الذى جاء بعد ذلك فى إعلان إسماعيل أنه ” لا علم بلا إيمان (ص 117)”، أو أنه: وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان (ص 119) هو معنى له موقعه الدال فى عمق مضمونه، لكنه إذا أخذ بظاهره يصبح تلفيقا مسطحا من كلمات متجاورة تكاد تضيف إلى الاغتراب مزيدا من الاختزال والتجزئ على الجانيين؟
الرسالة التى تصل من الفيلم [8]، دون الرواية، لها قيمة من حيث أنها تنبهنا أن القائمين عليه قد وصلتهم من العمل ما قد يصل العامة أو المتدينين المهزوزين من مثل هذه الأعمال الرائعة إذ يختزلونها إلى ما ليست هى، وكأن كل المراد من مثل هذا الإبداع هو إعلان انتصار ما يسمى علما على ما يسمى خرافة، ليكن ، ولكن هذا ليس هو كل ما يقوله النص، ولا هو يستأهل أن يكون نصا إبداعيا ليوصل لنا هذه النصيحة الإرشادية البديهية . إن مثل هذا الاختزال والتسطيح جدير بأن يفرغ النص من مضمونه، بل وأن يشوه جماله.
إذن ماذا؟ هل ثـَمّ تفسير بديل؟
إن إسماعيل لم يصبح فى النهاية متدينا أفضل، كما أنه لم ينته مشايعا للعشوائية المتفسخة، وبالتالى طبيبا أبلها يتبرّك بما شاع كيفما اتفق. إن ما بلغنى هو أن إسماعيل قد استعاد توازنه الإيمانى الموضوعى القادر على تدعيم وعى الطبيب، إن تفسير أسلوب العلاج التى تطرحه هذه المداخلة والذى يعتمد على احترام مستويات وعى المريض مع مستويات وعى الطبيب فى علاقتها بمستويات وعى الكون، لقد اكتشفت فاطمة من خلال هذا الحدس الفطرى أن معالجها – برغم أنها تحبه – فردا – حتى التقديس فالاستسلام – منفصل عن الإيقاع الجماعى. إنه جسم غريب عن الوعى الجمعى والوعى الكونى (أنا .. أنا .. أنا ..) وحين عاد مؤمنا بمعنى التناسق مع من حوله وما حوله، ناسا وطبيعة، ونورا على نور، استجاب وعى فاطمة لعودته، وشفيت بنفس الوسائل التى سبق أن فشلت.
النص الإبداعى الذى بين يدينا يعلن أن فاعلية العلاج تتأتى بوضع كل الوسائل المفيدة: علما وإيقاعا حيويا، وإيمانا وتواصلا إنسانيا، لاستعادة التوازن الذاتى فى علاقته بالتوزان الأكمل المفتوح النهاية الذى “ليس كمثله شئ”.
النص الذى يقول: ” وعاد من جديد إلى علمه وطبه يشده الإيمان ..” (ص 119) لا يشير إلى أية تسوية مائعة تجمع بين لفظين لهما سمعة طيبة، لكنهما إذا ضُمّا إلى بعضهما تعسفا ضاعا فيما ليس هما. تماما مثل نفس الشعار”العلم والإيمان” حين يستعمل فى السياسة لغرض مناوراتى تسوياتى مخادع، أو حين يسَّوق فى سوق التفسير العلمى للنصوص المقدسة. كل هذا هو نوع من الاستسهال والاختزال لكل من العلم والايمان على حد سواء.
فروض متصاعدة
ليس من حق الطب والأطباء أن ينكروا – لأى سبب علمى أو شخصى أو شبه علمى أو تجارى – ما جاء فى عمل إبداعى ظهر نتيجة لحدس مبدع له خبرته ووعيه ورؤيته وأدواته، قد يكون من حق المؤسسة الطبية أن ترفض الممارسات الطبية الفعلية خارج نطاق قوانينها ولوائحها، وأن تسن لذلك القوانين بالحق أو بالباطل، لكن أن ترفض أحداثا جاءت فى عمل إبداعى جاد جيد، فهذا ليس من اختصاصها ولا من سلطتها.
أيضا لا يمكن أن نسائل المبدع لماذا كتب هذا الحدث هكذا، أو لماذا رجح أن هذا العلاج نجح وذاك العلاج فشل، يحدث مثل هذا أحيانا فى مقابلات صحفية أو ثقافية عابرة، بعد ظهور العمل وهو خطأ منهجى حتى لو أجاب المبدع على أسئلة السائل إجابات مساعدة، كما قد يأتى التفسير أيضا من عالم أو طبيب حين يسأل نفس الأسئلة فيفتى من واقع منظومة تخصصه دون الالتزام بالسياق الإبداعى واختلافات اللغة والأدوات.
إن مهمة النقد الإبداعى هى قراءة النص لتفكيك أبجديته لإعادة تشكيله عبر كل منظومات الناقد المعرفية وحدسه الإبداعى وأدواته، يضع الناقد لذلك الفروض، ويعيد تشكيل النص، انتظارا لنقد النقد وهكذا،إلى غير نهاية.
وأخيرا فإنه ليس من حق فن لاحق (السينما أو المسرح أو المسلسل) أن يسطح إبداعا غائرا بمثل ذلك التشويه الذى طرحه الفيلم بنفس الأسم.
الخلاصة: (الفرض)
إنه ينبغى علينا أن نقوم بمهمة النقد ونحن نحترم كل حرف ورد فى النص، لنحترمه ونجادله ونتعمل ونعيد تشكيله فى إبداع ناقد مستكشف. إن كلا من حدس العتب وقنديل أم هاشم يمكن أن يحمل دعوة لتعميق فهم الوعى والوجدان ليصبح إسهامهما فى استعادة التوازن نحو الصحة فعلا بيولوجيا إيجابيا إيمانيا يكمل عمق العلم و يسهل وظيفته. إن هذا، وليس الإيحاء اسطحى، هو الذى يعيد الصحة بمعنى التوازن الإيقاعى من خلال استعمال آليات العلم بالضرورة.
الإيقاع الحيوى الكونى هو اللحن الأساسى الذى يحتاج إلى آلات تعزفه، وما الآلات البشرية إلا أدوات لعزف هذا اللحن الأعظم، تفاصيل أوتار الآلات البشرية تشمل كل شى من مفردات العلم إلى حدس الفطرة، إلى انتظام فحوى العبادات، كل ذلك يتكامل مع وعْى من يستعملها من خلال إيقاعه الحيوى الخاص، وبالتالى يصبح قادراً على أن يتلاحم مع ايقاع وعى مريضه الناشز، فى حضن وعى الكون المحيط الممتد بغير نهاية، فينتظم فى لحن الوجود الأكبر إلى غيب يقينىّ ليس كمثله شئ.
بهذا تصبح أية آلة منفردة، سواء كانت معلومة علمية شاردة، مهما كانت صحيحة، أو زيت عيانى بعيدا عن نوره، أو قاذورات من بقايا النعال على عتبة ولى. أو فتوى سلطوية تافهة أو منافقة، يصبح أى من ذلك نشازا لو عزفت أية آلة منفردة وحدها لذاتها، ثم قد ينقلب النشاز المنفصل إلى نيزك ساقط، فهى الخرافة المضللة حتى القتل والكفر والشقاء أو الخدر الميت.
الأمر الذى يحتاج إلى إعادة نظر لإكمال الصورة هو ما آل إليه حال إسماعيل (الدكتور اسماعيل) بعد شفاء فاطمة، وهذا ما تجاوزه أغلب النقاد (غالبا) وما كان للفيلم بكل تلك السطحية أن يقترب منه أصلاً، وهو ما يحتاج إلى “قراءة خاصة فيما أرى تسميته نصُ إسماعيل رجب عبد الله”، هو ما سأحاوله فى دراسة لاحقة.
[1] – [لا أعرف أين نشرت الباحثة هذه الردود]
[2] – عادت الفاضلة هالة سرحان فاستضافتنى (سنة 2006) فى روتانا سينما بعد أن انتقلت إليها، واحاطتنى بحوقة من الفاتنات الصادقات وتناولنا هذا الموضوع بشكل أكثر عمقا وتفصيلا، شرحت للحاضرات اليقظات، ولقائدة الجلسة وجهة النظر العلمية المهنية التى أفسر بها هذه الظاهرة (العلاج باستخراج الجان وبالقرآن) وكان الأمر أفضل كثيرا، إلا أنها حين عرضت الحلقة التى استغرقت ساعتين، قامت بتزويقها بمقتطفات كثيرة من أفلام ومسرحيات يظهر فيها الجان بشكل جدى أو فكاهى فى مقاطع منفصلة عن سياقها، وإذا بالحلقة تصبح ثلاث حلقات كاملة تذاع على ثلاثة أيام متتالية، أحسست وأنا أشاهدها أن أغلب ما أردت توصيله، يمكن أن يضيع وسط تقديم كل هذه العفاريت من كل هذه الأفلام.
فشعرت بصعوبة مهمة الإعلام، لكننى – برغم كل ذلك- لم آسف على المشاركة، لأن ما وصلنى من بعض المشاهدين هو أنهم التقطوا ما أردت توصيله وسط كل هذا الزحام.
[3] – تبادل الأقنعة.
[4] – قراءات فى نجيب محفوظ ، مكتبة الأسرة.
[5] – يحيى الرخاوى (إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى)، مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الأول، 1983
[6] – كتبت رواية قنديل أم هاشم فيما بين (1939 – 1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل
[7] – وصدرت رواية لحس العتب فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005.
[8] – كنت قد أشرت بتفصيل نسبى فى المسودة الثانية إلى ما بلغنى من تفسير الفيلم للرواية بأن الشفاء الأخير تم بطريقة العلاج بالإيحاء، ورفضت أن نفسر المسألة بهذا الاختزال شبه العلمى، لكننى لما أتيحت لى فرصة مشاهدة الفيلم بعد ذلك – الفضل لابنتى “نهى يحيى حقى” – قضلت أن أحذف تلك التفاصيل فى المتن، مكتفيا بهذا الهامش. إن ما جاء فى الفيلم ليس مجرد خطإ أو تسطيح ، لكنه تشويه للنص وتوظيف له فى عكس ما يمكن أن يصل منه. لكل من الفن والطب والإيمان . ثم إنى شعرت أن ثمة أمانة فى عنقى أن أحرر النص نقدا مما يمكن أن يكون قد لحقه بما اتقرفه الفيلم فى حقه، هذه الأمانة ربما هى التى حملها لى المؤلف عفوا دون أن أتيقن ساعتها كيف أحملها، أو متى.
عرفت يحيى حقى وأنا فى الخامسة عشر (1948) طالبا فى الثانوى فى منزل أستاذنا وصديقه الحميم الأستاذ محمود شاكر، ثم التقيته فى اوائل الثمانينات عند أستاذنا أيضا، وإذا به يعلق على بعض ما أكتب نقدا أو رأيا، ويسألنى: ألا تستحق أعماله أن أدلى فيها بدلوى، خجلت بحق (بقدر ما فرحت طبعا) ولم أف بوعدى حتى الآن. بعد ستة عقود من لقاءاتنا الأولى وربع قرن من لقائنا الثانى أجد نفسى أشرف بأن استجيب لما حملنى من أمانة وأحاول أن أصحح ما أفسده الفن والجهل والمؤسسات المغلقة الفهم، فلتغفر لى يا سيدى تأخرى، ولأحمد الله على أنى فعلتها بما يستاهل، فلعلك سيدى تقبلنى.
يقول الفيلم شيئا ينفصل تماما عن عمق المتن، بل يشوهه، الفيلم يفسد ما دعى إليه النص من إيمان بعنى التناغم الصحى مع الإيقاع الحيوى المتصاعد، وهو يضع محله تلفيقات وتسويات ليس بها إضافة، وحتى يتم له ذلك يضيف ويحذف ويبدل ويلفق مايشاء. مثلا : لم تجر فى النص أية عمليات لفاطمة، فى الفيلم عمليتان، وتبدو الثانية وكأنها عملية وهمية للإيحاء، وهذه جريمة فى ذاتها، يقوم بها الهواة من الأطباء كأنها مشروعة،ويفرحون بنتائجها التافهة التى يمكن أن نحصل عليها بأى أيحاء أخيب. كذلك لا يوجد فى الرواية تشخيص لما ألمّ بالعين لكن الفيلم تبرع أن يحدد التشخيص على أنه “عمى هستيرى”، كما لا يوجد فى المتن إيهام وخداع باستبدال الزيت بدواء حقيقى، هذا أسلوب سطحى قد ينفع فى حالات عابرة لا تمت من قريب أو بعيد لحالة فاطمة النبوية. أضف إلى ذلك أن ما عرضه الفيلم هو تقابل بين دروشة عشوائية زائطة، وبين مجموعة أطباء رسميين تقليديين مما أدى إلى تشوية رسالة النور من القنديل، وتشويه معنى التصوف النابض بإيقاع الحياة، القادر على تغير حتى النشاز البيولوجى – لكل هذا وغيره ، لن أعرج على الفيلم فى متن النقد، مع التنبه ألا يحكم على النص من الفيلم وإنما من أصوله