نشرت فى مجلة وجهات نظر
عدد أكتوبر 2006
همسةٌ عند الفجر
تشكيلات الموت/الحياة،
“الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”
نجيب محفوظ: من ملحمة الحرافيش: (ص 66)
همسة عند الفجر
تسير وأنا فى مقدمتها أسير حاملا كأسا كبيرة مترعة برحيق الحياة. فى مرحلة حاسمة من العمر. عندما تنسم بى الحب ذروة الحيرة والشوق، همس فى أذنى صوت عند الفجر.
”هنيئا لك فقد حم الوداع” وأغمضت عينى من التأثر فرأيت جنازتى
نجيب محفوظ أصداء السيرة الذاتية (فقرة 58)
****
“قالت لى الغمامة: سأمّحى
وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر”
طاغور
****
لا أشك فى أن شيخنا قد اختار الموت راضيا حين شاء الله تعالى أن يختاره إلى جواره بعد أن هيأ ربنا الظروف لذلك، كما أننى لم أشك أنه اختار الحياة طول الوقت، حتى لحظة اختياره الموت، اختار الحياة ليس بمعنى الاستمرار على ظهر هذه الأرض كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا..فحسب، ولكنه اختارها أكثر: كيانا فاعلا مبدعا جميلا مضيفا بما تيسر مهما نضبت الموارد وضعفت الأدوات. وحين تيقن أن الله تعالى قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف حتى العجز، والمجال أضيق حتى الاختناق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ “كفى”. لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: “كفى”، ومضى إليه راضيا مرضيا، ومع يقينى أن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه: “لم قُلْتَها شيخى : “كفى” ؟ لِمَ قُلْتَها الآن ونحن فى أشد الحاجة إليك؟ لم قلتها أصلا؟ لم وافقتَ؟ لم تركتنا؟ ولم أكن أعرف أنه ترك لى الرد مسبقا واضحا جليا فى أغلب أعماله حتى آخرها، “أحلام فترة النقاهة”، ومن قبلها “أصداء السيرة الذاتية”.
فرانسوا ميتران:
لكن ثمة حكاية تستأهل الحكى قبل المضى فى عرض بعض ردوده تلك:
اتذكر أننى فى أوائل معرفتى الحميمة به شخصيا، كان الرئيس فرانسوا متران يقترب من الموت بعد أن أصيب بالسرطان وتأكد من قرب النهاية، سأله أحد الصحفيين بعشم (أو وقاحة) عن توقعاته بعد الموت، وعن مدى إيمانه أو رغبته فى الجنة، فأجاب دون استهانة وبكل شجاعة، أجاب بما تيسر له، ومن ذلك أنه يرى أن الخلود فى الجنة بلا نهاية هو أمر يدعو للملل، نقلت للأستاذ هذا التصريح متعجبا، وربما مُعْجبا بشجاعة متران ومساحة الحرية التى تسمح بمثل هذا التصريح، أطرق الأستاذ رأسه ليس قليلا، وقد عودنا أنه حين يفعل ذلك فهو يُعمل فكره دون التزام بالرد. صمتّ منتظرا، وطال الانتظار ثم نبهته بكل العشم أنى أحتاج إلى تعليقه، قال: “أنا لا أوافقه”، قلت له “ألم تلاحظ شجاعته حتى لو اختلفنا معه؟ ألسنا نفتقد إلى هذه المساحة من الحرية التى يتحركون فى إطارها بلا سقف يُقَزِّمهم؟، قال: “ليكن، لكنك تسأل عن رأيى فيما قال، لا عن ما أتاح له إبداء رأيه”. انتبهت إلى دقة انتباهه، ووافقته، ثم أردفت أننى ما زلت أنتظر تعليقه على تصريح “ميتران”، قال بعد قليل: أنا لا أوافقه. إسمع يا سيدى: أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا على البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا ؟ قلت: لا، قال، فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟”
صمتُّ شاكرا، فاهما، متعجبا، متأملا داعيا.
نعاهدك ألا تموت بما تركت فينا:
كان هذا الحديث – على ما أذكر – قبيل وفاة ميتران ( 8 يناير 1996) ، رحت أتأمل يقين شيخنا من حبه لله ورغبته فى البقاء إلى جواره، يدور فى فلكه إلى أبد الآبدين، لم يخالجنى أدنى شك فى موقفه هذا طوال معرفتى له بهذا القرب، وحتى قبل معرفتى الوثيقة تلك، قبل أن ألقاه، كان قد وصلنى هذا الموقف، تماما وقد سجلته منشوراً[1] بمجرد أن بلغنى حادث الاغتيال كتبت آنذاك أخاطبه قائلا”…تصورتُ أننى شاب من هؤلاء المخدوعين أتابع ما جرى لك, وأعايش موقفك, وأفهم أقوالك, فأفاجأ بك تدعو لى أنا القاتل أو المتربص للقتل, تدعو لى بالهداية, هل أستطيع بالله عليك إلا أن أقول ”آمين”, وحين أهتدى بك شيخنا سوف أعرف الله الذى أردت أن تُعَرّفنى به طول عمرك على مسار إبداعك …، إلى أن قلت:
“يا شيخنا: مازلنا فى حاجة إلى بقائك بيننا ….، ربنا يخليك لنا ولهم، وإن تَمُتْ- بإذن ربنا,لا بمديتهم- فنعاهدك ألا تموت بما تركت فينا ولنا”
مضى على استجابة هذا الدعاء إثنى عشر عاما، ثم اختاره ربنا، وبالتالى آن الأوان أن نفى بما تعهدنا به، … “الا يموت بما ترك فينا ولنا”.
علّمنى الدهر
قبل ذلك بعام إلا قليلا نشر محفوظ فى الأهرام قصة قصيرة بعد أن غير الأهرام عنوانها دون استئذانه – كما أخبرنى!!- حتى أصبح عنوانا ضحلا هو”علّمنى الدهر”[2]، وصلنى منها أن شيخى يعد نفسه “بهدوء” للرحيل، وإن استغرق ذلك أكثر من اثنتى عشر عاماً.
تبدأ القصة القصيرة هكذا:
” آن لنا أن نرحل”
“…. نصح الطبيب بذلك وإذا نصح الطبيب وجبت الطاعة, كانت إقامة طيبة, وشقة أنيقة”.
ثم تمضى القصة فى اتجاه أن الساكن الجديد الذى سيحل محل الراحل هو أولى بالمسكن، إلى آخر ما يشير إلى أن البقاء هو للأكثر فتوة، وأوفر شبابا وأصغر سنا.
لكن يشوب بقية القصة تخوف الراحل من النسيان، وفتور العواطف، الأمر الذى أتعجب كيف خطر لشيخنا أصلا، وعلى قدر رضا هذا الساكن القديم بالرحيل، كان الساكن الجديد موهوما بالدوام حين قال لصاحبة المنزل:
- …..، لتكن إقامة دائمة بإذن الله
فقالت له بثقة: ما أقام عندى ساكن وفكر فى هجر بيتي
ويعترف الراوى (الراحل) أنه فعلاً لم يفكر فى هجر البيت، إنما الذى قرر الرحيل هو الطبيب، فهو يقول:
”هذا حق”، ثم يضيف:
“ولكن مالعمل إذا نصح الطبيب !..”
“وثمة عتاب يا ست الستات: كنت عندك فرخة بكشك حتى حل بى المرض”
وحين صعد إلى القطار، أعلن رضاه بقوله (فى باطنه):
- من الإنصاف أن أذكر أنها إقامة جميلة وأنها تستحق الشكر”
انتهت القصة القصيرة .
قال محفوظ كل ذلك حتى قبل الحادث، (سنة 1993)
الاستلهام قبل التأبين، والنقد قبل التمجيد
فهل حدث بعد ثلاثة عشر سنة شىء آخر؟ وهل ننتبه إلى احتمال تخوفه من أن ننسى ما ترك فينا بعد رحيله؟ لا أظن، فكل ما بلغنى مما يجرى حولى حالا يقول إن التكريم، والتأبين، والتمجيد، كل ذلك يجرى على قدم وساق، بكل معانى ومظاهر الوفاء الجاد، وضد كل التخوفات التى جاءت بالقصة. لكن لثقتى فى حدس شيخى كتبت للجنة المكلفة بكل هذه المهام، والتى تقوم بها خير قيام، كتبت تحفظاتى على الاكتفاء بالتخليد دون الامتداد، وبالتأبين دون الاستلهام، وبالتمجيد دون مواصلة النقد والابداع.
كيف أحب محفوظ الموت وهو يحمل كل هذا الحب للحياة؟
لم يتمنّ محفوظ الموت الاختفاء/العدم لحظة واحدة، لكنه رحب بالموت الرحيل الجسدى حين يحل آوانه: طول الوقت.
من أكثر الأعمال النقدية التى لا أتردد فى الفخر بكتابتها هو ما جاء بالجزء الأول من نقدى لملحمة الحرافيش الذى صدر فى أكثر من موقع منذ سنة 1990، وقد كان بعنوان “دورات الحياة، وضلال الخلود: ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش[3].
يقول محفوظ فى الملحمة (ص 64) : “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”.
حاولت فى نقدى هذا أن أبين كيف كان الوعى بالموت، الموت الامتداد، الموت الهارمونى الأكبر، هو المحور الأساسى للملحمة، التى تجلى فيها كل من الإيقاع الحيوى، وإعادة الولادة، المرة تلو المرة، كأروع ما يكون التجلى، كما تعرى وهم الخلود على هذه الأرض، حتى ظهر أنه العدم الخامد، أى الموت الذى نخافه جميعا.
وصلنى من الملحمة – ومن غيرها – كيف أن التوليف الجدلى بين الموت والحياة هو أصعب مراحل جدل الوجود.
الطفل يعرف الموت أفضل:
منذ ذلك الحين رحت أحاول التعرف على الموت من خلال إبداعات متعددة، حتى تحددت معالمه لى أثناء نقدى بعض حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية للأطفال. اكتشفت: فى قصة “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة” كيف يرسم أندرسون موت الصغيرة على الوجه التالى:
صاحت الصغيرة: جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”
علمنى أندرسون من خلال هذه القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه..، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم جميل، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.
فى قصة أخرى لأندرسون للأطفال أيضا بعنوان “قصة أم” يتجسد الموت الذى خطف الصغير من أمه الثكلى فى شكل شيخ غريب، فتهيم الأم على وجهها نائحة باحثة لتسترد ابنها المخطوف، وفى سبيل ذلك تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، وما تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها: تضحى بعينيها فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت ليس عدما بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور واعدة بما لا نعرف، وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبله، إنها تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت: “….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنس دموعى ، إنس دعواتى”
يتعجب الموت (الشيخ) قائلا: “لا أفهمك، ألا تريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟
ترد الأم: لا تسمعنى حين أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”، وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.
رثاء عاِتبْ
لم استطع أن أقف موقف هذه الأم الجميلة من رحيل شيخنا الجميل، الأم تعرفت على مشتل الموت بهذه الشجاعة والسهولة ورفضت استرجاع ابنها بعد أن اطمأنت عليه، لكننى رحت أعاتب شيخى أنه رحل دون استئذاننا. بل إننى رحت أطالبه أن يوقف الزمن، مع أنه القائل على لسان شمس الدين الناجى فى ملحمة الحرافيش (ص 127) “إن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقاس….”
إبداع متواصل:
لم يَحُلْ أى حدث أو إعاقة أو صعوبة أو عجز دون أن يواصل شيخنا إبداعه حتى آخر لحظة، وأحسب أنه لن يطمئن إلى اننا لن ننساه إلا إذا واصلنا بدورنا مسئولية الإبداع عامة طول الوقت، طول الدهر، هذا هو ما يجنبنا تحقيق مخاوفه التى بدت متشائمة فى “علمنى الدهر”.
عرفت نجيب محفوظ شخصيا قريبا حبيبا وشيخا رائدا منذ اثنى عشر عاما (بعد حادث الاعتداء عليه)، عرفته وقد نجا من موت محقق، لأن الله كتب له النجاة بشكل معجز، انتبهت من أول لحظة إلى كيف أن إرادة الحياة كانت ومازالت لديه متدفقة غامرة، حدث ذلك من أول زيارة له فى مستشفى الشرطة بعد الحادث، فهدتنى إرادته تلك إلى أن أكون عونا فى أن يستمر فى الحياة كما أرادها له ربنا، فوفقنا الله أن يخرج بانتظام إليها – الحياة – برغم كل الصعوبات، والإعاقات، والمقاومة المُحِبّة ممن حوله خوفا عليه وحرصا على سلامته. راح شيخنا يمارس حب الحياة كما كان دائما، ولو لم يتبق له من أدواتها إلا بعض هسيس سمع، وبعض بصيص بصر، وما تيسر من “شخبطة يد”، ثم جسد كالطيف يتنقل به بكل ثقة وإصرار كل يوم، كل يوم، كل يوم، بلا استثناء أو توقف، إلا للشديد القوى!. صنع محفوظ من أصدقائه ومن ترتيب أيامه واقعا جديدا من الناس، فقد كانوا دائما غذاء وجوده، فراح يمارس، بتلقائية رائعة ما أسميته الإبداع الحيوى المباشرً، أو “إبداع حى= حى”. (قياساً على صورايخ: أرض = أرض) اكتشفت أنه بحضوره بيننا، مع تواضع وسائل تواصله، يعيد تشكيل وعينا بشكل مباشر دون حاجة إلى أن يسجله فى رمز مكتوب أو نص مقروء.
فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ:
“…تذكرت كلمات بسيطة، لا وزن لها فى ذاتها، مثل “أنت”، “فيم تفكر”، “طيب”، “يالك من ماكر”..، ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف”.
تحقق لى من خلال هذا التشكيل البشرى اليومى لوعينا من حوله: ذلك الفرض الذى طالما شغلنى، وهو: إن الحياة الحقيقية هى الإبداع الحقيقى: قبل وبدون أى ناتج إبداعى آخر خارج عن ذات صاحبه.
الإبداع بالمشاركة الحية:
رحت أتأمل اختراقه لكل ما أصابنا إذ أصابه، رحت أتابعه وهو يروض الـقدر بفعل هادئ طيب صبور، ساعة بعد ساعة، يوما بعد يوم، جلسة بعد صحبة، حديثا بعد نكتة، فعاينته وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا من وعى المحيطين بحركية وعيه الناقدة لنتجدّدَ من خلال هذه اللقاءات المنتظمة.
ما وصلنى من معايشتى تلك ما بين لقاءاتنا به فى جلسات مفتوحة، أو حرفشة خاصة، هو أن ثمة مقاييس للإبداع، مثل أن يخرج الواحد منا - من جلسته- غير ما دخل، أو أن يكتشف الواحد منا- وهو يتحدث إليه- غير ما قصد، أو أن يتذوق الواحد منا طعم الهواء الداخل إلى صدره غير ما ألـِف، كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة، إذ راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا دون أن يخط حرفا واحدا على الورق، وهو لا يكتفى بهذا، بل يسمح لنا أن نعيد قراءته واستقبالنا له. أى خبرة وأى تجربة!!!
حل آخر: إبداع الأحلام:
بعد أن انتصر شيخنا بالتدريب اليومى المعجزة على عجزه عن الكتابة، لم يكتف بإبداع وعينا بهذا الحضور المباشر، فراح يعايش عالم أحلامه كواقع بديل، ثم استطاع أن يرغم مفردات واقع الحلم أن تبقى معه بعد استيقاظه، لتمثل له الأبجدية التى يصيغ منها إبداعه الجديد. كنا نسأله بين الحين والحين عن احتمال عودته إلى الكتابة، فيصمت، ثم إذا به ذات يوم يخبرنا بفرحة طفلية بديعة أن ثمة “نغبشة” بدأت تراود دماغه: ثم تصدر الإرهاصات الأولى، موجزة “مشخبطة”، ثم هات يا إبداع غير مسبوق لما أسماه أحلام فترة النقاهة وخذ عندك: معجزة جديدة بعد الأصداء.
تشكيلات الموت فى الأحلام
عاودت قراءة أحلام النقاهة مجتمعة بعد رحيله، ووصلنى بعض الردّ على عتابى له راثيا، وأيضا على التساؤلات التى سألها الناس عن “كيف أحب محفوظ الموت” لكن فى نفس الوقت– بالمصادفة – كان قد أصدر المجلس الأعلى للثقافة كتابى فى نقد الأصداء “أصداء الأصداء”[4]
فمررت فيه فإذا بتجليات الموت تمثل محوراً أساسيا قدرت أن يكون الفصل الأول فى الجزء الثانى من الدارسة الطولية النقدية للأصداء، لكننى أكتفى هنا بمرور فى الأحلام.
هكذا أجابنى محفوظ عن كل ما تساءلت عنه بعد رحليه وكأنه كان يعلم جزعى واحتجاجى.
رفع الحواجز بين مستويات الوعى
أن نتعرف على الموت، وما بعده واقعاً ملموساً متحققاً، هو المستحيل بعينه. المبدع الحقيقى يستطيع أن يستشرف بعض ذلك، دون يقين مطلق. ومثلما أراد أفلاطون فى جمهوريته أن يعلمنا ماهية النفس الإنسانية، فكبّرها بمجهر إبداعه حتى صارت جمهورية كاملة، فإن محفوظ اخترق الحواجز بين وعى الحلم ووعى اليقظة ليعرف ويتعرف، ولعله يعرفنا، ماذا هناك على الجانب الآخر (بما فى ذلك الموت)، النوم موت أصغر، والحلم حركية مرنة زاخرة تتشكل بداخل هذا الموت الأصغر، واليقظة إحياء بعد الموت (الحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور) – حين لجأ محفوظ إلى إبداع الأحلام (وليس تسجيلها) وجد نفسه داخل هذا الموت الأصغر، فاستطاع أن يلمح بعض معالم الموت الأكبر من النافذة التى فتحها بين مستويات الوعى هكذا:
تعالوا نبدأ بآخر حلم نشر له، ونتجول معه وهو يرفع هذه الحواجز
“رأيتنى أعد المائدة والمدعون فى الحجرة المجاورة تأتينى أصواتهم أصوات أمى وإخواتى وأخواتى، وفى الانتظار سرقنى النوم ثم صحوت فاقدا الصبر فهرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم فوجدتها خالية تماماً وغارقة فى الصمت وأصابنى الفزع دقيقة ثم استيقظت ذاكرتى فتذكرت أنهم جميعاً رحلوا إلى جوار ربهم وأننى شيعت جنازتهم واحداً بعد الآخر.
(حلم 206)
أين الحواجز بين الحياة والموت، بين النوم والصحو، بين الذاكرة والواقع؟
كيف كان شيخى يتلقى الموت:
عاصرت شيخى مع بعض الحرافيش الأصليين، فرحنا بكل الجزع نفقد الحرفوش تلو الآخر فلا نستطيع أن ننسى الموت أو نتغافله، بل إن الموت سبق رحيل هؤلاء الحرافيش حين اختطف باكرا صديقا – ليس حرفوشا – هو مصطفى أبو النصر ثم اختطف صديقا لاحقاً فى عز وهجه هو أ.د. محمد راضى، ثم رحل من الحرافيش كل من بهجت عثمان، وأحمد مظهر ثم عادل كامل (بلغنا رحيله من أمريكا بعد أن زارنا بضعة أسابيع) كان تفاعل شخينا لكل ذلك هادئا صادقا متألما لعله يتمثل دائما فى القول الرائع: الموت حق، ولكن الفراق صعب.
التذبذب فى قبول قرار الموت
حين يقترب الموت واقعاً، حتى بقرار طبيب، تقفز منا، فينا، مواقف متذبذبة، هى أكثر من موقف فى آن، بعضها فى بؤرة الوعى وبعضها على هامشه، تتراوح هذه المواقف ما بين الجزع والتحدى والتسليم والتمنى والمراجعة، إلى غير ذلك، وقد تبدو متداخلة أو متناقضة لكنها كلها تعلن – فى النهاية – التمسك بالحياة، بشكل أو بآخر. ثم أن الوعى بتوقيت الموت القادم قد يدفعنا – بدلا من التسليم – إلى الإقدام على ما يبدو تمسكا بالحياة، أو اللحاق بآخر مركبة فيها، أو اختيار هو أقرب إلى التوريط. هذا بعض ما وصلنى من هذا الحلم:
لم يبق فى الحياة إلا أسابيع فهذا ما قرره الفحص الطبى، فحزنت حزناً شديداً ثم تملكتنى موجة استهتار فأقبلت أتناول الأطعمة التى حرمها علىّ الأطباء من سنين ولازمت صديقتى “س” وعرضت عليها الزواج فدهشت وقالت لى: إنك تفقد صداقة بريئة عظيمة ولا تكسب شيئاً فألححت عليها حتى رضخت وبعد يومين جاءنى صديق طبيب يخبرنى بأن هناك أخصائيا عالميا سيزور مصر وأننا حجزنا لك مكاناً عنده فهنيئاً لك بفرحة الحياة، وغمرنى سرور من رأسى لقدمى غير أننى تذكرت الأطعمة الضارة التى التهمتها، والزواج الذى قيدت به نفسى على غير رغبة، فشاب فرحتى كدر وقلق.
(حلم 157)
الموت: تمزيق الصفحة فى انتظار الوعد
ثَمَّ موت هو بمثابة تمزيق صفحة الزمن البليد، وذلك متى تبين صاحبها أنها خالية إلا من الاغتراب وتزجيه الوقت باللاشئ، أو بتكرار مُسَلٍّ، ربما بعزف أنغام النعابة، دون إضافة أو تجديد، حياة أشبه بالتسول، قد يقفز الوعى بهذه اللاجدوى فى أزمة منتصف العمر أو بعده أو ربما بمناسبة فقد عزيز أو بتذكر رفاقٍ، رحلوا بلا معنى ولا أثر، هنا قد يقفز الحل التقليدى بالدعوة للإنسحاب، أو حتى قبول الكف عن الشخبطة والثرثرة فى صفحة الزمن الخاوية إلا مما لا لزوم له، شئ أشبه باستجداء الأيام لمزيد من اللامعنى، وتظهر الوعود بالانتقال إلى المكان الجميل والرزق الوفير، وهى دعوة عيانية تصدر عادة من سُلْطة وصية مفسِّرة، أو حلم واعد بلا ضمان أكيد، ذلك أن تحقيق هذا الوعد يرجع إلى رأى أصحاب النفوذ القادرين الواثقين، فتبدو المسألة كأنها النقلة من خواءٍ فاتر، إلى راحة مؤمَّنة، ليكن، فهى الخلاص من الضياع على أية حال، أملا فى القبول بالموعود، ولو من حيث المبدأ، لكن الأمر يحتاج “همة عالية وصبر طويل”، فلم العجلة، فليقْصُرْ وقت الانتظار أو يطول، فالأمر محسوم يوماً عند الجامع على طلوع الفجر
عند منعطف من منعطفات الحارة، رأيت أمامى الصديقين الشقيقين اللذين طال غيابهما وأحزننى غاية الحزن، وبهتنا لحظات ثم فتحت الأذرع وكان العناق الحار، وتذاكرنا الأحزان والأفراح والليالى الملاح، وطلبا منى زيارة سكنى فمضيت بهم إليه على بعد أمتار، وتفحصاه حجرة بعد حجرة وضحكا طويلا كعادتهما ثم أعربا عن أسفهما لبساطة المأوى، ثم سخرا منى بلسانيهما اللاذعين الجذابين. وسألانى عن عملى الذى أعيش منه، فأجبت بأننى عازف رباب وأتغنى بعذابات الحياة وغدر الدهر، وعزفت لهما وغنيت فقالا إنها حياة أشبه بالتسول، ولذلك فهما لا يدهشان لما يبدو فى وجهى من آثار الضعف والبؤس، وقالا لى إنهما بحثا عنى طويلا حتى عثرا علىّ، وتبين لهما أن قلقهما على كان فى محله وأنهما يبشرنى بالفرج.. حمدت الله على ذلك ولكن ما الذى يبشراننى به؟ قالا ستهاجر معنا إلى المكان الجميل والرزق الوفير، فسألت كيف بتيسر لى ذلك فقالا إنهما – كما أعلم – يمتان بصلة لأصحاب النفو ذ ولا خير يجئ إلا عن طريق أصحاب النفوذ.
وتأبطا ذراعى وسارا بى إلى الخارج، حتى بلغتا أحد الرجال العظام شكلا وموضوعا، واستمع للحكاية بوجه محايد، وقال لى إن الهجرة تحتاج لهمّة عالية وصبر طويل، فوعدنى خيرا، وقال الصديقان، إنهما يطمئنانى .. فقال:
- انتظرونى عند الجامع على طلوع الفجر.
(حلم 34)
الخوف من الموت:
مهما أعلنّا حب الموت، أو زعمنا قبوله، أو سلَّمنا بانتظاره، ومهما صدقت الوعود بما بعده، حتى رأيناها رأى العين فى حلم أو بيقين راسخ، إلا أن المسألة – من عمق أعمق – ليست بهذه السهولة المعلنة. حتى بعد التأكد من اللقاء هناك بأمثالنا، وبعد الارتياح إلى صدق الوعد بما لذ وطاب، يظل الحرص على الحياة غالباً ربما من باب “اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش”، الحرص على الحياة غالب إلى آخر لحظة حتى لو حَرَمنا هذا الحرص من المشاركة فى ما تُقدمه الحياة، وما بعد الحياة فالأصدقاء فى هذا الحلم هم أصدقاء العمر الراحلين، والامتناع عن مشاركتهم، وهم قد رحلوا، هو حرص على الحياة يمتد حتى بعد الاطمئنان إلى أن الذين رحلوا مازالوا يسمرون ليلاً تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، والمفارقة الموقظة هنا هى التنبية إلى أن الخوف من الموت يمتد حتى بعد الموت.
وجدت نفسى فى بهو جميل، وبين يدى وعاء ذهبى ملئ بما لذ وطاب.
فذكرنى هذا بسمار الليالى من أصدقاء العمر الراحلين، وإذا بى أراهم مقبلين تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة. فتبادلنا السلام وأثنوا على الوعاء وما فيه. غير أن سعادتى انطفأت فجأة وصارحتهم بأننى لن أستطيع مشاركتهم حيث منعنى الأطباء من التدخين منعا باتا، وبدت الدهشة على وجوههم ثم ركزوا أبصارهم فى وجهى وتساءلوا ساخرين:
- أمازلت تخاف من الموت؟!
حلم 92
الموت لايفرق بين الأحبة:
حضور وعى من يرحل عنا “فى” وعى من يبقى منا، هو فرض يزداد اقترابا واحتمال تحُّقٍق يوما بعد يوم، سواء من منطلق علمى بيولوجى، أو من منطلق نفسى باراسيكولوجى، أو حتى من منطلق ميتافيزيقى، وبالتالى: إنه من المحتمل أن يبقى – فينا –من نتصور أنه رحل عنا بجسده، خاصة إذا ما كان قد تم بيننا وبينه حوار حياتى جدلى عميق، يسمح بهذا التشكيل المتداخل لوعينا معاً، ليس فقط ما يسمى الحب هو الذى يسمح بمثل هذا الجدل، ولكنه يسمى عادة بهذا الأسم.
سمعت شيخى ينبهنى إلى ما يشككنى فى حبى له، من فرط افتقادى إياه وذلك حين أمعنت النظر فى رد المعلم القديم على المرحومة عين وهى تعتذر له بالموت عن الغياب.
رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأول وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب على المرحومة عين طول غيابها فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت فلم يقبل هذا الاعتذار وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبّة.
من حلم 104
الموت العدم والجسد الهش:
حضور وعى الراحل فى تشكيل وعى من تبقى من أحياء لا يتم إلا إذا كانت العلاقة حقيقية نابضة: أحيانا نتوهم باندفاع عاطفى مغترب أننا نحب شخصاً ما حباً هائلا، ونحن لانحب إلا ماتصورناه عنه، وحين يختفى جسد هذا المحبوب بالموت، تتراجع أو لا تتراجع معه صورته التى كوّناها له، لكنها – الصورة لا الوعى – يمكن أن تُستدعى فى الحلم أو فى العلم، فى ذكرى أو تخيل، لكنها مجرد صورة لا تمثل وعى الراحل، فإذا ما حدثت الصحوة المفاجئة، فقد نصدم ونحن نتبين من خلالها الحقيقة، وأن “طلعتها البهية، ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة” لم تكن إلا من صنعنا نحن، فتتعرى الصورة ولا يبقى إلا كيان هش، يعلن عدَماً منذ البداية..
تريضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب. ووجدت نفسى تردد السؤال الذى يراودها بين حين وآخر. لماذا لم تزرنى فى المنام ولو مرة واحدة منذ رحلت؟ على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما من أوهام المراهقة. وهل الصورة التى طبعت فى خيالى هى الصورة الحقيقية للأصل؟
وإذا بصوت موسيقى يترامى إلى من ناحية الشارع المظلم. صارت أشباحا ثم تجلت مع ضوء أول مصباح صادفها فى طريقها أدهشنى أنها لم تكن غريبة على فى الموسيقى النحاسية التى كثيرا ما استعمت إليها فى صباى ورأيتها تتقدم بعض الجنازات، وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظا، إما المصادفة السعيدة غير المتوقعة فهى أن حبيبتى الراحلة تسير وراء الفرقة. هى هى بطلعتها البهية ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة، أخيرا تكرمت بزيارتى وتركت الفرقة الجنائزية تسير ووقفت قبالتى لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا، وقمت واقفا منبهرا وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.
وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل تاركة إياى فى حسرة أبدية.
حلم 14
الموت التغيير والمراجعة
حين ينظر الميت (حيا) إلى من خلفه، فلا يجدهم غير سلبيات ما رحل عنه، يتحسر بلا جدوى. ما دام الأمر كذلك فلماذا تركها لهم آملا أن يخطوا هم الخطوة التالية، فتضطرد مسيرة الحياة، هذا عن التوقف والجمود، فإذا أضيف إليهما جحود وبلادة هذا الجيل التالى للسابقين، فقد يصدق حدس محفوظ فى تخوفه من النسيان والإهمال فى قصة “علمنى الدهر”.
… هذه “حجرة السكرتارية” حيث أمضيت عمرا قبل إحالتى إلى المعاش وحيث زاملت نخبة من الموظفين شاء القدر أن أشيع جنازاتهم جميعا واسترقت نظرة من داخل الحجرة لأرى من خلفونا من الشباب فكدت أن أصعق لأنى لم أر سوى زملائى القدامى، واندفعت إلى الداخل هاتفا سلام الله على الأحباب متوقعا ذهولا واضطرابا ولكن أحدا لم يرفع رأسه عن أوراقه فارتددت إلى نفسى محبطا تعسا ولما حان وقت الانصراف غادروا مكاتبهم دون أن يلتفت أحد نحوى بما فيهم المترجمة الحسناء ووجدت نفسى وحيدا فى حجرة خالية.
حلم 97
يتبين إصرار محفوظ على أن الموت هو خطوة فى حركة متصلة نحو التغيير حين نتأمل ما جاء فى حلم باكر من دعوة إلى مراجعة لما يسمى مسلمات الماضى، حتى بعد رحيله، فقد أعاد محفوظ أستاذه الشيخ محرم من الآخرة بعد أن شيع جنازته قبل ستين عاما، أعاده ليخبره دون مقدمات بضرورة إعادة النظر فى المسلمات التى هو مسئول عن إبلاغها له.
رن جرس التليفون وقال المتكلم:
الشيخ محرم استاذك يتكلم
فقلت بأدب واجلال:
أهلا استاذى وسهلا…
أنى قادم لزيارتك.
على الرحب والسعة
لم تمسنى أية دهشة على الرغم من أننى شاركت فى تشيع جنازته منذ حوالى ستين عاما وتتابعت علىّ ذكريات لاتنسى عن استاذى القديم فى اللغة فى معاملة التلاميذ وجاء الشيخ بجبته وقفطانه الزاهيين وعمته المقلوظة وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء ومن حوارى معهم عرفت أن بعض الدروس التى كنت ألقيها عليكم تحتاج الى تصحيحات فدونت التصحيحات فى الورقة وجئتك بها.
قال ذلك ثم وضع لفافة من الورق على الخوان وذهب.
(حلم 6)
وصية محفوظ ودورية النقد:
شغلتنى فكرة دورية نقد متخصصة لأعمال محفوظ منذ نال نوبل وكتبت إلى المسئولين بذلك، بدءَا من خطابى إلى أ.د. عزالدين إسماعيل رئيس تحرير مجلة فصول آنذاك فى 11/11/1988، ورحت أكرر طلبى لإصدراها فى كل مناسبة، كان آخرها للجنة المشكلة لتخليد ذكرى محفوظ، وهأنذا أعثر على حلم ينتهى بهذه الوصية “إن المقال أحب إلى نفسى من الانفعال والخداع” وأقرأ “المقال” بمعنى النقد ونقد النقد، فهى الدورية، وأن يكون حوار لا يتوقف. فهذا وحده هو الذى يحول بين الأجيال الحديثة وأن تفقد ذاكرتها …… الخ.
قرأت فى المجلة مقال نقد قاس لشخصى وأعمالى بقلم الأستاذ ع وإذا به يمثل أمامى معتذرا ويقول إنه يقصد بالمقال أن يكون أساس حوار بينى وبينه يحدث ضجة تعيد الغائب إلى الوجود فقلت له: من يصدق هذا الحوار وأنت ميت منذ 15 سنة فقال إنه يعتمد على أن الأجيال الحديثة فاقدة الذاكرة
فقلت له: إن المقال أحب إلى نفسى من الانفعال والخداع!
(حلم 165)
الموت فى أصداء السيرة
أما تناول محفوظ للموت كما ظهر فى الأصداء، فهذا يحتاج إلى عودة مطولة مستقلة، مكتفيا بالعينة التى صدّرت بها هذه المداخلة وهى فقرة من أصداء السيرة الذاتية بعنوان “همسة عند الفجر”، تجليات الموت فى الأصداء هو الفصل الثانى فى الجزء التالى من أصداء الأصداء”.
لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى” !!
قد كنتَ فينا رائحاً أو غادياً تخطو بنا نحو الذى قد صاغَنَا،
وجعلتَ إيقاع الحياة له صليلٌ مثل نبض الكون سعيا للجليل،
حتى حسبنا أنها لا تنتهى،
وظللتَ تخطرُ هامساً كالطيفِ، كالروحِ الشفيفِ، كظلِّ رب الكون فيما بيننا،
وجعلت تنحت جاهدا لتعيد تشكيل البشرْ:
حُـلماً فحلماً: واقعاً منّا، لنَاَ،
نسعى إلى عمق الوجود ليلتقى فينا بنا،
“لتَعارَفُوا“
هذا “طريق الزعبلاوى”، نحو وجه الحق، نحو النور، نحو العدل، نحو الله فينا حولنا.
ومضيتَ تقهرُ كلَّ عجزٍ، كلَّ ضعف، كلَّ هَم،
حتى دعْونا ربنا أن تقهر الساعات تسحَـبُنا إلى المجهولِ إذْ تخفى العدمْ,
حتى نسينا أننا بشرٌ لنا أعمارُنا
***
لم قلتََها شيخى : “كفى”؟
الآن؟ كيف الآن ؟ شيخى !؟ ربنا !؟ بالله ليس الآن،
إرجعْ عقارب ساعتكْ،
لا،
نحن لسنا قدْرها,
ليستْ “كفى”
لا ،
ليس هذا وقتُـها ،
أفلستَ تعلم أننا فى “عِـز” حاجتنا إليك؟
أفلستَ تعرف ما جرى؟
أفلستَ تعرف كيف تنهشنا السباعُ الجائعة؟
أفلستَ تعرفُ أن ما يأتى بدونك لهْوَ أقسى ألف مرة ؟
لو كنتَ أقسمتَ عليِه،
من أجل خاِطِرنا،
لأبرّك الله العزيز بقدر ما وعد الذين هـُمُـوا كمثلك.
لمَ قلتََها شيخى: “كفىً؟
كنا نريدك دائما تخطو جميلا بينناَ،
كنا نريدك خالدا فى قرة العين هنا،
كنا نريدك مثل أطفالٍ أبوْا أن يُفطموا من حلو ما نهلوا عطاءك، مثلنا،
كنا نريدك نحتمى فى دفء بُرْدِكَ من برودةِ عصرنا.
لكنَّ خاتمة الكتاب تقررت، فسمعتّهَا،
وكتمتََهَا حرصا علينا،
وانسحبتَ برقةٍ وعذوبةٍ،
وتركتَنَـا.
لمّ هكذا؟
علـّمتنا شيخى بأنا قد خُـلقنا للحلاوةِ والمرارةِ نحملُ الوعى الثقيل نكونُـه سعيا إليه.
فاجـَـأْتَنَا،
ورحلتَ دون سَؤاِلنَا
وبكى الخميسُ لقاءَنا،
وتركتَ بيتىَ خاويا فى كل جُمعةْ.
***
ماذا جرى؟
كيف جرى؟
هل يا تُرى : قد كان همسا من وراء ظهورنا يدعوك سرًّا:
ورجوتَ أن تلقاه شيخى بعد ما طال العناءْ؟
فاستاذن الجسدُ العليل بشجّةٍ فى الرأس كانت عابرة؟
لا لم تكن أبدا مصادفة ً، ولم يشأِ القدرْ،
كانت نذيراً بالوداعْ،
قطعتْ حباَلَ وِصَـالنا
فتهتك العهدُ القديمُ وحرَّرَ الجسدَ العنيدْ،
والشيخ درويشُ “الزقاقِ” يقولها:
“لا شىء دون نهايةٍ”
وهِجاؤها:
“قد حان وقتٌ للرحيل”.
***
عَّلمتنا شيخى الجليل:
أن الخلودَ بهذه الدنيا عدمْ،
والموتُ لا يُنهى الحياةََ لكلِِّ من أعطاها مثلَك نفسَهُ،
الموتُ ينقلها إلى صُـنّاعها من بعض فيضك،
قد كنتَ رائدَ حملها
يا للأمانة !!
يا ثقلها !!!
هل جاء من أنباكَ أنّا أهلُها؟
حتى الجبال أبيْنَ أن يحِمْلنَها.
كيف السبيل, وكل هذا حولها ؟
***
لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:
لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،
كدحاً إليه :
ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى تشوّه بالعمى والجوع والجشع الجبانْ،
***
شيخى الجليل:
ما دمت أنتَ فَعَلتْهاَ
فانعم بها
واشفعْ لنا
أن نُحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ
شيخى الجليل:
نمْ مطمئنا،
وارجع إليه مُبْدعاً،
عبر البشر،
وادخل إليها راضيا،
أهلا ً لهاَ.
[1] – الأهرام 18 أكتوبر 1994
[2] – 10 ديسمبر 1993
[3] – يحيى الرخاوى: مجلة فصول المجلد التاسع – العددان الأول والثانى – أكتوبر 1990 (ص 155 – ص 175).
– يحيى الرخاوى: كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1992.
[4] – يحيى الرخاوى: “أصداء الأصداء: تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية “نجيب محفوظ”. المجلس الأعلى للثقافة عام 2006