“نشرة” الإنسان والتطور
15-1-2008
العدد: 137
هل عندنا بديل؟
من نحن؟
وماذا أعنى حين أقول (أو نقول) عندنا، وعندهم؟
هذا الصباح جاءتنى أم كريمة تكشف على ابنها التى تقول إنه مصاب بفرط النشاط الحركى، هى قالتها بالإنجليزية hyperactive، الولد عنده 16 سنة، فى مدرسة من التى هى بمصاريف كثيرة، الوالد متوفى منذ ست سنوات وترك اثنى عشر ابنا وبنتا من ثلاث زوجات، والميراث لم تحل مشاكله بعد، والأم تبدو فى حال ميسورة، لكنها تشكو –وهى صادقة- من عسر الحياة جداً، والدها (أكثر من ثمانين عام) يقيم معها ومع ابنها، وبنتها من زوج سابق وهى لم تتزوج بعد وفاة والد الصبى الذى جاءت لتستشيرنى بشأنه.
الولد، كان قد مرّ على أطباء زملاء أفاضل قبلى، وذلك بقدر ما تحتاج حالته من جهة، وبقدر قلق الأم عليه من جهة أخرى، وأيضا بقدر قلقها على والدها المسن الذى يعيش معهما وهى ترعاه.
السيدة الفاضلة على قدر ليس قليل من الجمال وتبدو أصغر من سنها الحقيقى (الذى هو46) بعشر سنوات على الأقل. جلس الشاب هادئا، لم يتحرك طوال نصف ساعة (تقريبا) ولم يشكُ من شئ شخصيا، بل أشار إلى أمه التى حكت آثار “فرط حركته” كما أسمتها، أو عدوانيته وانفجاراته العاصفة، كما وصلنى، بالإضافة إلى علامات دالة على الخُلفNegativism والتكاسل الدراسى منذ قديم.
نبهتُـها –كما أفعل عادة- أن الطب النفسى ليس فيه سحر يبرئ الناس بالتمنى، ولا هو حل عقد، ولا مجرد عقاقير، وأنها لن تجد غالبا عندى أكثر مما وجدته عند زملائى، وأن كثرة التنقل بين الأطباء لا يفيد، بل أنه يحرم الطبيب الواحد المتابع أن يصحح نفسه من خلال التتبع الممتد، وأنا عادة أكتب مثل هذا الكلام على الوصفة (الروشتة) قبل أن أشير برأيى الخاص، اكتب حرفيا:
“لا أوافق على تغيير الأطباء “هكذا”.
كل الزملاء السابقين عندهم العلم وفيهم البركة،
والأقرب منهم أفضل،
يستمر مع أحدهم مشكوراً “أو”…
“بمجرد أن اكتب” “أو” أو أقولها، ينتظر المريض أو أهله شيئا مختلفا منى، فأنبه إلى أن الاختلاف –إن وجد- لن يكون فى العقاقير الأحدث أو الأبهظ ثمنا، وإنما فى تعليمات حاسمة ومحددة ومُلزمة، نتعاون معاً لتنفيذها بكل الوسائل، لمدة زمنية تسمح بتقييم ما نعمل، ولفترة مناسبة، وعلينا أن نقيس نتائجها أولا بأول بمحكات الواقع جدا (العمل/ الانجاز/الناس/العلاقات/النوم الطبيعى…. الخ)
ثم أرفت للأم أنها، ومن يهمه الأمر من الأسرة، هم الذين سيتولون تنفيذ ذلك، أو القدر الأكبر من ذلك، وأن الأدوية هى عامل مساعد ، مهم جدا، لتنفيذ هذه التعليمات،
وكثيرا ما يحتاج الأمر لكراسة وورقة وقلم نسجل بها ما اتفقنا عليه وتحضرها معها الأسرة أو المريض (أو كليهما) فى الاستشارة وكذا وكيت.
تتضمن التعليمات أشياء عادية، وأشياء غريبة، وأشياء جديدة، ومواعيد للنوم، والزام بالقراءة، وبالحركة وتعليمات أحيان عن زيادة بعض العبادات، أو إنقاص بعض النوافل وكذا، وكيت.
وهى تعليمات أكثر منها نصائح،
وقد ننجح أحياناً، ونفشل كثيرا،
ونبدأ من جديد،
وهكذا
اللهم إلا إذا عاد التنقل بين الأطباء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أنزِل رِجْلك يا ولد؟
من بين ما اقترحته على هذه السيدة الفاضلة – بالإضافة إلى تعاطى أدوية زميلى السابق الذى لم أجد عندى ما هو أحسن منها مرحليا – أن تستشير بعض المراكز التى تقوم بالتخطيط السلوكى العام، ثم التأهيل لمن هو فى هذه السن، وكذا وكيت، فأخبرتنى أنها استشارت أحد هذه المراكز، وأن صاحب المركز أو رئيسه، المسئول عنه، يستعين بخبير أمريكى جداً، وأن هذا الخبير أشار عليها وعلى هذا الابن النشط الذى كان يجلس أمامى مسترخيا دون حراك حتى الأن، (بلا نشاط أو فرط نشاط!) أشار عليه، وعليها، الخبير الأمريكى جدا أن تتركه وشأنه، وألا تمنع عنه شيئاً، وأنه حين يكبر ويعرف أن إيذاءه لنفسه، وإيذاء جده، لم يعودا عليه بأى طائل سوف يكف عما يفعله (مازال الولد يتابعنا دون حراك، وكأنه يشاهد مسلسلاً!)،
قلت لها معقباً على توصيات الخبير وأنا أخفى ابتسامة تكاد تقفز إلى وجهى، “عليه نور”، ولماذا لم تقبلى النصيحة (على فكرة السيدة الفاضلة الجميلة، شقراء وغير محجبة، وتتكلم بين الحين والحين كلمات بالانجليزية، أو الفرنسية) قالت: أقبل ماذا؟ الولد ينجح بالكاد، ثم أنه توقف عن الدراسة مؤخرا وقد سمحتُ له بالتدخين حسب تعليمات السماح، فَجَـرَّ ذلك وراءه أشياء تدخن أيضا فى السجائر، وجدُّه غادر البيت خوفا على نفسه،
قلت لها: وهل أبلغت الخبير بذلك؟
قالت: نعم، وأصر على نصيحته، وعلى المتظلم أن يدبر شؤونه،
لم أصدقها مائة فى المائة، ولم أكذبها، لكننى لاحظت أن الشاب قد مال بظهره على الكرسى أكثر، ثم وضع ساقا على ساق، فنهرته بحزمٍ واضح: أن “أنزِلْ رجلك يا ولد”، فأنزلها فورا بأدب لم أتوقعه، فأكملتُ أن هذا لا يليق أمام رجل فى عمر جده مثلى، (كنت قد نسيت أن جده غادر المنزل تَوقّياً لآثار العدوان)،
التدخل فى الحرية الشخصية
حاولت أن أقرأ على وجه الشاب أى اعتراض على أمرى المباشر الحاسم هذا، فلم أجد،
تذكرت ما حكته لى مؤخرا ابنة لى تعمل فى انجلترا الآن (منذ أكثر من عشر سنوات) د. يسرية أمين حكت لى أنها عقَّبت على لبس مريضة تداوم لبس سراويل الجينز دون غيرها، فنصحتها د. يسرية أن تحاول أن تغير من ملابسها أحياناً، فقدمت شكوى فيها أنها تتدخل فى حريتها الشخصية وكادتْ تؤاخذ د. يسرية مؤاخذه شديدة على تصرفها،
وأيضا تذكرت كيف ملكنى العجب حين قال لى د. رفيق حاتم (المحاور الوحيد فى حوار الجمعة بتاريخ 19-10-207) ود. أمانى الرشيدى زوجته، وهما يعملان فى فرنسا أن من الممنوعات منعاً باتا أن يسأل الطبيب المريض عن دينه أو عن حزبه السياسى، لأن هذا وذاك من الشئون الخاصة جدا، التى لا يصح أن يعرفها الطبيب، وذلك حتى لا يتحيز!! أى والله)، وقد سبق أن أشرت وكتبت فى يومية 12-1-2008 أن سياسة النعام هذه التى نخفى بها ديننا عن بعضنا البعض، لابد وأن تحرمنا من عمل علاقة جادة وشريفة وعميقة مع بعضنا البعض، فما بالك مع المريض؟
وكيف يكون موقف الطبيب “محايدا بحق” لو كانت معلوماته ناقصة عن عنصرين من أهم العناصر التى تنغرس فى مرجعياتنا الثقافية والعقائدية والشخصية شعوريا أو لا شعوريا؟: الدين والموقف السياسى؟
وكلام من هذا كثير كثير
إذن نحن نختلف؟
وهل فى هذا كلام؟
نحن نختلف ليس فقط فى ممارسة الطب النفسى، وإنما فى معانى ومساحات الحرية، وحقوق الإنسان، ونوعية الحياة، وامتدادها، وحدود العلاقات، ودرجة الدفء فى التواصل، وحمل المسئولية عن بعد،
كما أننا نختلف فى مدى الالتزام، والكسل فى بالعمل، وعدم احترام القانون، وحضور العرف الملزم الأقوى من القانون أحيانا، وفى مساحة وتنويعات الإبداع المتاحة، وكذا وكيت.
وإذا كانت هذه الاختلافات تتزايد باستمرار، وفى نفس الوقت نحن نفشل فى التقليد الحرفى لما عندهم باستمرار، فما العمل؟
من نحن؟
وماذا أعنى (ونعنى) حين أقول عندنا؟ وعندهم؟
* إذا هاجمنا ديقراطيتهم وجدنا أنفسنا فى أحضان الحكم الشمولى وليس على طريق السعى إلى ديمقراطية حقيقية.
* وإذا هاجمنا مؤتمراتهم وجدنا أنفسنا فى عزلة متباعدة لا يعرف أحدنا (أو جماعتنا) ماذا يصنع زميله الأبعد (أو جماعة أخرى فى أقصى الدنيا) ولا كيف يفكر، وما هى نتائج أبحاثه، أو فروض افكاره.
* وإذا هاجمنا حقوق الإنسان المكتوبة لتسطُّحها وبعض سوء الاستعمالات من خلالها، وجدنا أنفسنا لا نتمتع بحقوق الانسان أصلاً: لا المكتوبه ولا الشفهية، ولا حتى حقوق الحيوان.
* وإذا هاجمنا المنهج العلمى التقليدى (فى الطب النفسى مثلا لاستحالة المقارنة فعلاً) وجدنا أنفسها فى حضن الخرافة بكل ظلماتها وعشوائيتها.
* وإذا هاجمنا العقل المنطقى الظاهر بأنه ليس “الكل فى الكل” (كما يفعل العلم المعرفى) وجدنا أنفسنا فى غيابة اللاعقل، أو سخف رحمة الانفعالات العشوائية، أو حسن النية، الخائب واللاتخطيط.
هل نكف عن النقد والمحاولة؟
طيب، إذن: هل نكف عن الهجوم على كل هذا، ونقول أن “قضا أخف من قضا” ونحسن التقليد حذوك البحث بالبحث، وحذوك الديمقراطية بالديمقراطية، وحذوك حقوق الانسان بحقوق الانسان اياها؟
نحن فعلاً نحاول كل ذلك، وإذا بنا نفاجأ أننا:
أولا: أننا لا نحسن التقليد،
وثانيا: أنهم ليسوا صادقين فى الالتزام بما يعلنون من الناحية العملية
كما أننا نكتشف تدريجيا أن التى تحكم العالم هى قوى الثروات الحقيقية، والمافيا السرية، والتربيطات الإعلامية، وغسيل المخ العولمى الجديد والحروب الاستباقية، وما لا ندرى.
مرة أخرى: أوراق قديمة:
رحت أبحث فى أوراقى فوجدت أن هذا الإشكال لم يغب عنها (عنى) أبدا سواء فى المنشور منها أو المخزون عندى، وجدت عشرات المقالات والفروض تتناول هذه المسألة تحديدا، قلبت فى معظمها جميعا، ووجدت أن بها نفس الحماس الذى أكتب به الأن ولكنها تنتهى بنفس الحيرة التى أنتهى إليها الأن، لكن للأمانة هى ليست حيرة مغلقة بقدر ما هى حيرة دافعة نحو شئ ما.
قيل وكيف ذلك؟
- العالم ملكنا جميعا فنحن مسئولون عنه جميعا طول الوقت
- هذا العالم هو نحن كلنا بلا زيادة ولا نقصان.
نحن جميعا ورثنا تكريم الله لنا
- هى الأمانة التى نحملها جميعا دون استثناء،
- وهو الوعى الذى امتحننا الله به حين هيأ لنامسيرة التطور لنصل – كما نتصور- إلى قمته
- فهو مأزقنا جميعا،
ليس معنى أننا حين نستجير من الرمضاء نجد أتفسنا وسط النيران وبالعكس. ليس معنى ذلك أن انقراض الجنس البشرى قد أعلن بلا رجعة، أو أنها “نهاية التاريخ” بفوز أحد المتصارعين بالضربة القاضية الفنية، أو الفعلية، أو الذرية، أو الاستباقية، ولا أن المباراة قد أوقفت لعدم تكافؤ القوى.
صدق أو لا تصدق
صدقونى أو لا تصدقونى أن ربنا سيسألنا –ربما أول ما يسألنا- كلاَّ منّا على حدة عن” ماذا فعل أىُّ منا تحديدا حين بلغه ما نحن فيه؟
حين وقف وحيدا هذا الموقف الصعب جدا جدا؟
ماذا فعل طوال حياته دقيقة بدقيقة؟
ثم إنه سبحانه سوف يسألنا بعد ذلك، وقبل ذلك، عن ما سيسألنا عنه كله.
عودٌ على بدء
السؤال الذى عنونت به المقال يقول: هل عندنا بديل؟
أعد ان أقوم بتحديث المقالات والأطروحات التى أشرت إليها سابقا، أولا: بصفة عامة، وثانيا: فيما يتعلق بالطب النفسى خاصة،
اسمحوا أعود الآن أتساءل:
هل عندنا بديل؟
ومن نحن؟
ومن هم؟
أتوقع أننا لن نجد عندنا البديل الجاهز، وأيضا لا أقبل أن نرضى بهذه الحلول المطروحة سابقة التجهيز، ومع ذلك فسوف يحاسبنا الله على ما يلى:
- على جهدنا الحقيقى الذى نبذله لنجد الحل الموجود فى الغيب فعلا، ولكنه موجود منذ الآن.
- سوف يحاسبنا على مدى تناسب الجهد الذى بذلناه ونبذله مع جهاد الابداع الذى نسعى إليه وبه.
- سوف يحاسبنا على قدرتنا على رفض الرمضاء، والنار معا، وماذا فعلنا بعدها.
- سوف يحاسبنا على جدية البحث، بالسعى على أرض الواقع فى طريقنا إلى الكدح إليه، وسط هذه المستحيلات على الناحيتين
- سوف يحاسبنا بدقة متناهيه، كما أمرنا أن نحاسب أنفسنا ومنذ الآن.
أما كيف؟
فهو القادر العارف لطريقه الحساب
هو العدل نفسه سبحانه وتعالى .
هنا والآن وأبدا .
ملحوظة:
من بين المقالات والأطروحات التى أَعِدُ بالقيام بتحديثها عثرت على العناوين التالية التى قد يكون لها دلالة مبدئية حتى نعود إليها:
بل من هناك نبدأ 7-11-1982
حضارة بديلة …. كيف؟ ثنائية المعرفة أم خلط الأوراق 16-1-1984
العولمة ونوعية الحياة 14-5-1999
هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم 1-6-1999
حضارة بديلة! كيف؟ عن المدنية والحضارة؟ 27-11-2000
حضارة بديلة! كيف؟ من يحكم على من؟ وبأى المقاييس؟ 5-12-2000
حضارة بديلة: كيف؟ الاختلاف حقيقة فى الجوهر والمظهر 12-12-2000
حضارة بديلة! كيف؟ ثلاث قيم وثلاثة محكات 20-12-2000
الاختيار الصعب: العلمانية المؤمنة 30-12-2002
الإيمان يشحذ الأداة البشرية: للمعرفة والإبداع 27-1-2003
تحذير
أكاد أعرف المخاطر وعايشتها
أكاد أعرف احتمال وميوعه التوفيق (الحل الوسط، والحل الشُوَيّاتىِ 13-1-2008)
أكاد أعرف خبث التلفيق والاستسهال
أكاد أعرف مخاطر انقضاض الدعوة للسلفية، والحكم الشمولى، وشماته الخرافة
أكاد أعرف أن الصراع لا ينتظر الرافضين فى الوضع “متأملا“
أكاد أعرف أنه ليس عندى بديل جاهز
ولكننى أحاول أن أتمسك بموقفى تحسبا لحساب رب العالمين
واحتراما لمشاركتى هذا الجنس الرائع (المسمى الجنس البشرى) كلاًّ من: الوعى، والوعى بالوعى، وحمل الأمانة ، ومساحة الحركة، وتنوع الفرص، والقدرة على الإبداع
هل مارست أو أمارس ما يميزنى بشراً أم لا ؟
الله أعلم .
ونحن – فردا فردا، فجماعة جماعة فكل الناس – نحاول طول الوقت.
هل عندنا (كل هؤلاء بديل)
نعم
لكنه ليس جاهزا بعد .