الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / نَفْسَنة الحياة المعاصرة، بين العلم والثقافة

نَفْسَنة الحياة المعاصرة، بين العلم والثقافة

“يوميا” الإنسان والتطور

  10-3-2008

  العدد: 192

نَفْسَنة الحياة المعاصرة، بين العلم والثقافة

‏تمهيد:

فى نشرة سابقة (“علمٌ هذا أم ماذا؟ 18-2-2008) تساءلتُ عن طبيعة ما ينشر فى هذه النشرة، وفيها نبهت إلى اتساع مفهوم ما هو “علم” مع تعدد المناهج وتنوع الاختلافات الإيجابية والسلبية، وبالتالى، من باب أولى، وجدت أن علينا أن نتساءل سؤالا متعلقا بالطب عامة، والطب النفسى بشكل أكثر تخصيصا: هل هو علم؟ أم مهنة؟ أم فن؟ (أم ماذا؟)

أنا أحب كلمة “مِعَلم” (بكسر الميمم، خوفا من قراءتها مضمومة، كما أننى أحب أن أعلِّم الصنعة أكثر،) أحبها أكثر من حبى لكلمة عالم.

لاحظت مؤخرا بل طول عمرى، أن استقبال الناس لما يقوله النفسيون عن النفس البشرية مبالغ فى قيمته ، لأنهم يحسبون أن ما نقوله – خاصة فى وسائل الاعلام– هو العلم المتين (أخشى أن أقول: أو النهائى)، والأمر ليس كذلك أصلا، بل إننى رفضت منظومة “التفسير النفسى للأدب” وكتبت معظم نقدى من منطلق “التفسير الأدبى للنفس” باعتبار أن الأدب هو الأسبق، ومنه نتعلم ماهية النفس أدق، ومن ثم يمكننا أن نعالجها أفضل.

حين زحف العلم عامة إلى الثقافة، وكان ينبغى أن يفعل، ومع تضخم منظومته، كاد يحتكر الحق فى تشكيل الثقافة الأحدث، وذلك بتمادى الزحف إلى، وعلى، المنظومات المعرفية الأخرى، يسمِّىَ هذا التوجه باسم “الثقافة العلمية”، وأنشئت له لجنة فى المجلس الأعلى للثقافة شرفتُ بعضويتها منذ أكثر من عشر سنوات وحتى الآن، ومن خلال نشاطها المثابر استطعت أن أتبين خطورة التداخل غير المحسوب، وأحيانا غير المسئول، بين العلم والثقافة والخبرة والصنعة والفن، (وما بين منظومات وقنوات المعرفة عموما)، وأيضا خطورة طغيان إحداها على الأخرى.

 ‏‏ ‏أغامر‏ ‏بطرح‏  ‏تصورى ‏عن‏ ‏ما جاء بالعنوان، وعلاقته بما يسمى “‏الثقافة‏ ‏العلمية‏” كما يلى:

مقدمة:

‏ ‏ثمة‏ ‏مقدمة‏ ‏أخرى‏ ‏أشعر‏ ‏أنها‏ ‏لازمة‏ ‏ابتداء‏:‏ ‏

خطر‏ ‏ببالى – منذ البداية–  ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏التسخير‏ ‏العملى ‏لمعطيات‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏تسهيل‏ ‏وتنظيم‏ ‏السلوك‏ ‏اليومى ‏المادى ‏الظاهر‏ ‏هو‏  ‏ما‏ ‏يسمى ‏التكنولوجيا‏ (‏اللاحقة‏)(1) ‏فإن‏ ‏تسخير‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏الناس‏ ‏وتنظيم‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏مستويات‏ ‏الدماغ‏) ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏الجديد‏ ‏المسمى “‏الثقافة‏ ‏العلمية‏”، ‏ولا‏ ‏أعنى ‏بتنظيم‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏ ‏أى ‏محتوى ‏إيديولوجى ‏معين‏، ‏وإنما‏ ‏أعنى ‏التنسيق‏ ‏القادر‏ ‏على ‏إتاحة‏ ‏الفرصة‏ ‏لكى ‏تـمارس‏  ‏الحياة‏ ‏اليومية‏ ‏بأكبرقدر‏ ‏من‏ ‏الموضوعية‏ ‏والإبداع‏.‏

كان علىّ أن أتساءل من موقع تخصصى “‏ما‏ ‏هى ‏معطيات‏ ‏وإسهامات‏  ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تنظيم‏ ‏الوعى ‏البشرى ‏لتخليق‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏ ‏معاصرة‏ ‏مناسبة‏ ‏لحركية‏ ‏الإبداع‏ ‏وتشكيل‏ ‏الحاضر‏ ‏فالمستقبل؟‏

وجدتنى ‏- وأنا أحاول أن أجيب –  ‏أعيد اكتشاف أوجه‏ ‏القصور‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏والتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعيق‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏ ‏علمية‏ بالمعنى الذى قدمته حالا، ‏ذلك‏ ‏أننى ‏تبينت‏ – ‏ليس‏ ‏لأول‏ ‏مرة كما ذكرت‏- ‏أن‏  ‏معطيات‏ ‏ما‏  ‏يسمى ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏لا‏ ‏تعدو‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏إسهاما‏ ‏شديد‏ ‏التواضع‏ ‏لمعرفة‏ ‏النفس‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏المغالاة‏ ‏فى ‏قيمتها‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏معوقا‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏عاملا‏ ‏مساعدا‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏بما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏حددناه‏ ‏سالفا‏، ‏وهكذا‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏أحدد‏ ‏دورى ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏ما‏ ‏لا‏ ‏ينبغى، ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏ما‏ ‏ينبغى، ‏وإليكم‏ ‏بعض‏ ‏ذلك‏:‏

أولا‏: ‏مازالت‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏غير‏ ‏الناضجة‏ ‏غير‏ ‏المحكمة‏ (‏بالمنهج‏ ‏السائد‏ ‏حتى ‏الآن‏)، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تؤخذ‏ ‏معلوماتها‏ ‏بإعتبارها‏ ‏مرجعا‏ ‏وصيا‏ ‏على ‏وعى ‏الناس‏ ‏أو‏ ‏مفسرا‏ ‏لسلوكهم‏، ‏إلا‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏متواضعة‏ ‏تماما‏ ‏، ومع‏ ‏اختلاف‏ ‏الثقافات‏ ، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏تنوع‏ ‏الوعى ‏الدينى ‏والمعتقد‏ ‏الدينى ‏والظروف‏ ‏البيئية‏ ‏والمعرفية‏ ‏المختلفة‏، ‏تصبح‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏توسيع‏ ‏مصادر‏ ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏أشد‏ ‏إلحاحا‏ ‏وإلزاما‏.‏

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏أوجب‏ ‏الواجب،‏ ‏ونحن‏ ‏نساهم‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏الموضوعى، ‏أن‏ ‏نحذر‏ ‏من‏ “‏نـَفْـسَـنَـةْ‏” ‏الحياة‏ ‏المعاصرة‏، ‏وأعنى ‏بتعبير‏ ‏نَفْسَنَة‏ (Psychiatrization ‏أو‏ Psycholization ) = ‏المبالغة‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏اللغة‏ ‏والرطانة‏ ‏والمصطلحات‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تفسير‏  ‏مظاهر‏ ‏السلوك‏ ‏البشرى ، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏السياسة‏ ‏والإبداع‏، ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏  ‏التفسيرية‏  ‏النفسية ‏المباشرة‏ ‏التى ‏يطلبها‏ ‏الناس‏ ‏بإلحاح‏ ‏واستسهال‏، ‏فيسايرهم‏ ‏الإعلام‏ ‏بسطحية‏ ‏وحسن‏ ‏نية‏، ‏ثم‏ ‏يستجيب‏ ‏لها‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيون‏ ‏وبعض‏ ‏علماء‏ ‏النفس‏ ‏بالفتاوى ‏والإملاء‏، ‏إما‏ ‏أنها‏ ‏تتناول‏ ‏جانبا‏ ‏محدودا‏ ‏من‏ ‏السلوك‏، ‏أو‏ ‏أنها‏ ‏تتبع‏ ‏نظرية‏ ‏بذاتها‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏ثم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏هى – غالبا – “‏وجهة‏ ‏نظر‏” ‏لصاحبها‏ ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏معلومة‏ ‏محكمة‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏التسطيح‏ ‏الغالب‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏معرفة‏ ‏نفسية‏” ‏أقرب‏ ‏إلى ‏النصح‏ ‏والإرشاد‏ ‏والتفسير‏ ‏الخطى ‏أحادى ‏المنطق‏.‏

ما هو الممكن؟

دعونا ننظر كيف‏ ‏تضيف‏ ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏عامة‏ – ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى ‏- ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏ ‏عامة، وثقافة علمية خاصة‏‏.

أولا‏: ‏ينبغى ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏على ‏مصراعيه‏ ‏للتقدم‏ ‏نحو‏ ‏محاولات‏ “‏معرفة‏ ‏النفس‏” ‏من‏ ‏كل‏ ‏روافد‏ ‏المعرفة‏.‏

‏‏ثانيا‏: ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تحدد‏ ‏الأهداف‏ ‏التى ‏نريدها‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏لتنظيم‏ ‏الوعى ‏وتأكيد‏ ‏الموضوعية‏ ‏وإطلاق‏ ‏الإبداع

ثالثا‏: ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تحدد‏ ‏الوسائل‏ ‏القادرة‏ ‏عل‏ ‏تحقيق‏ ‏هذه‏ ‏الأهداف‏  ‏بالعمل‏ ‏على ‏التدريب‏ ‏على ‏أفضل‏ ‏سبل‏  ‏التلقى، ‏والتأكيد‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏اللغة‏ ، ‏وإطلاق‏ ‏دورية‏ ‏الإبداع‏  ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏تقديم‏ ‏معلومات‏ ‏مهزوزة‏ ‏صادرة‏ ‏من‏ ‏منهج‏ ‏مشكوك‏ ‏فيه‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏قدمت‏ ‏بطريقة‏ “‏وُثْقانية‏” ‏وكأنها‏ ‏الحق‏.‏

إن‏ الارتقاء بالثقافة‏ عامة‏ ‏ينبغى أن يهتم‏ ‏بالتركيز‏ ‏على ‏الإسهام‏ ‏فى ‏تنمية‏ ‏الأداة‏ ‏البشرية‏ ‏التى ‏تحقق‏ ‏الموضوعية‏ ‏الحياتية‏ ‏بتنمية‏ “‏التفكير‏ ‏العلمى‏” ‏كمنهج‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏اليومية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الأهم‏ ‏فى ‏مرحلتنا‏ ‏هذه‏ – ‏بل‏ ‏وفى ‏كل‏ ‏المراحل‏- ‏هو‏ ‏ألا‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ “‏البحث‏ ‏العلمي‏” ‏فى ‏معامل‏ ‏الأبحاث‏  ‏وحتى ‏فى ‏الجامعات‏: ‏هو‏  ‏فقط‏ ‏الذى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتبع‏ ‏فيه‏  ‏المنهج‏ ‏العلمى، ‏التفكير‏ ‏العلمى ‏يأتى  ‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏منهج‏ ‏الممارسة‏ ‏فى ‏المعمل‏ ‏أو‏ ‏فى ‏التجريب‏، ‏وهو‏ ‏سلوك‏ ‏يومى ‏يجرى، ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يجرى، ‏فى ‏كل‏ ‏موقع‏ ‏وعلى ‏كل‏ ‏مستوى، ‏أما‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏فهو‏ ‏ممارسة‏ ‏محدودة‏‏، ‏وقد‏ ‏تكون‏ ‏هامشية‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏فى ‏بلدنا‏ ‏خاصة‏، ‏بالنسبة‏ ‏لدورها‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏وعى ‏الناس‏.‏

التفكير‏ ‏العلمى ‏لا‏ ‏يرتبط‏ ‏بمنهج‏ ‏تجريبى ‏ظاهر‏ ‏بذاته‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏قاصر‏ ‏على ‏المعطيات‏ ‏المادية‏ ‏المحدودة‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏يعنى ‏الإنغلاق‏ ‏خلف‏ ‏نتائج‏ ‏المعامل‏ ‏وأرقام‏ ‏الإحصاء‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يحقق‏ ‏موضوعية‏ ‏المعرفة‏.‏

موضوعية‏ ‏المعرفة‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏ ‏بالذات‏ ‏تتحقق‏ ‏من‏ ‏روافد‏ ‏معرفية‏ ‏متوازية‏ ‏ومتكاملة‏، ‏وليس‏ ‏باختزالات‏ ‏علمية‏ ‏تعسفية‏ ‏لمجرد‏ ‏أنها‏ ‏خرجت‏ ‏من‏ ‏معمل‏ ‏أو‏ ‏عوملت‏ ‏بالإحصاء‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏موضوعية‏ ‏المعرفة‏ ‏لا‏ ‏تُستمد‏ ‏من‏ ‏نص‏ ‏جامد‏ ‏ولا‏ ‏من‏ ‏حدث‏ ‏تاريخى أصبح ماضيا لايعاد، وإن كان يستعاد لنقرأ من جديد!

  وعلى ‏ذلك‏ ‏تكون‏ ‏للمعلومات‏ ‏المحكمة‏ ‏المستقاة‏ ‏من‏  ‏المنهج‏ ‏التجريبى ‏نفس‏ ‏الأهمية‏ ‏التى ‏للمعلومات‏ ‏الواردة‏ ‏من‏ ‏كشف‏ ‏الوعى ‏بالتحريك‏ ‏الأدبى ‏والفنى، ‏هذا‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الرافد‏ ‏الأعمق‏ ‏للمعرفة‏ ‏الواردة‏ ‏من‏ ‏العلاقة‏ ‏السليمة‏ ‏بين‏ ‏الإنسان‏  ‏وربه‏ ‏ ‏إيمانا‏، واحتسابا.

يصبح‏ ‏الإنسان‏ ‏عارفا‏ ‏موضوعيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يستقى ‏أبجدية‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الروافد‏ ‏الثلاثة‏ (‏الإبداع‏ ‏العلمى، ‏والإبداع‏ ‏التشكيلى – ‏باللفظ‏ ‏واللون‏ ‏وغيرهما‏- ‏والإبداع‏ ‏الإيمانى‏)، هذا فضلا عن إبداع الذات، وذلك ‏بتكامل‏ ‏متناغم‏ ‏وليس‏ ‏باختزال‏ ‏مترجم‏.‏

فالذى ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يترجم‏ ‏اللغة‏ ‏الدينية‏ -‏مثلا‏- ‏إلى ‏لغة‏ ‏علمية‏ ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يحشر‏ ‏الأكبر‏ ‏فى ‏الأصغر‏، ‏ولعله‏ ‏يحشر‏ ‏الأصول‏ ‏فى ‏الفروع‏ ‏أحيانا‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏يختزل‏ ‏المطلق‏ ‏إلى ‏المحدود‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يغلق‏ ‏رافدا‏ ‏مستقلا‏ ‏للمعرفة‏ ‏الموضوعية‏ ‏التى ‏تصب‏‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏الوعى ‏الخلاق‏.‏

كذلك‏ ‏فإن‏  ‏الذى ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يفرض‏ ‏وصاية‏ “‏نص‏ ‏دينى‏” ‏على ‏معرفة‏ ‏علمية‏ ‏إنما‏ ‏ينكر‏ – ‏ضمنا‏- ‏أن‏ ‏المعارف‏ ‏التى ‏أنزلها‏ ‏الله‏ ‏على ‏عباده‏ ‏وهم‏ ‏يمارسون‏ ‏منهجا‏ ‏رصينا‏، ‏هى ‏من‏ ‏فيض‏ ‏تكريم‏ ‏إنسانية‏ ‏الإنسان‏ ‏بتوسيع‏ ‏دائرة‏ ‏معارفه‏ ‏وتعميق‏ ‏أبعاد‏ ‏وعيه‏. ‏وأن‏ ‏اتباع‏ ‏المعارف‏ ‏العلمية‏ ‏الموضوعية‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏العبادة‏ ‏لأنه‏ ‏حكم‏ ‏بما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏من‏ ‏معارف‏ ‏ووعى ‏فائق‏ ‏ينير‏ ‏بصيرة‏ ‏المبدعين‏ ‏ومن‏ ‏لا‏ ‏يحكم‏ ‏بما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏من‏ ‏معارف‏ ‏موضوعية‏ ‏عبر‏ ‏عقول‏ ‏مبدعة‏ ‏فقد‏ ‏خالف‏ ‏فطرته‏.‏

ثم‏ ‏يأتى ‏دور‏ ‏الإسهام‏ ‏النفسى ‏فى ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى “‏طبيعة‏ ‏وتأثير‏ ‏اللغة‏”، ‏وبالتالى ‏مساندة‏ ‏صقلها‏ ‏باعتبارها‏ ‏التركيب‏ ‏الرائع‏ ‏المنظـم‏ ‏للوعى، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هى ‏الأساس‏ ‏المتين‏ ‏لإمكانية‏ ‏التواصل‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏لتقوم‏ ‏اللغة‏ ‏بدورها‏ ‏الكيانى ‏والمعرفى، ‏وهنا‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الإسهام‏ ‏النفسى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏بدور‏ ‏نشط‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏ترشيد‏ ‏تحريك‏ ‏اللغة‏ ‏وتوجيه‏ ‏نموها‏، ‏أى ‏التدريب‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏الوعى – ‏حيث‏ ‏اللغة‏ ‏أساس‏ ‏جذرى ‏فى ‏تشكيله‏، ‏ولكى ‏تصبح‏ ‏اللغة‏ ‏كيانا‏ ‏حيا‏ ‏متحركا‏- ‏بأصول‏ ‏مرعية‏ ‏والتزام‏ ‏إبداعى – ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تسهم‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏اللغوية‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏الناس‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏معاصر‏ ‏موضوعى ‏خلاّق؟

  • ثم‏ ‏يأتى ‏دور‏ ‏العلوم‏ (‏والمعارف‏) ‏النفسية‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏الناس‏ ‏بالتركيز‏ ‏على ‏المفاهيم‏ ‏الحقيقية‏ ‏للإبداع‏، ‏لا‏ ‏بوصفه‏ ‏نتاجا‏ ‏خاصا‏، ‏لمواهب‏ ‏فردية‏ ‏محدودة‏، ‏وإنما‏ ‏بوصفه‏ ‏طبيعة‏ ‏بشرية‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ – ‏كل‏ ‏إنسان‏ – ‏بشرا‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تنميتها‏،‏وهنا‏ ‏يحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏تعريف‏ ‏الإبداع‏، ‏بحيث‏ ‏يشمل‏ ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏ونوع‏ ‏الوجود‏، ‏وتفجر‏ ‏الوعى، ‏واستيعاب‏ ‏الحلم‏، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الناتج‏ ‏الإبداعى ‏فى ‏صورته‏ ‏المألوفة‏ ‏تشكيلا‏ ‏رمزيا‏ أ‏و كشفا‏ ‏علميا‏.‏
  • كذلك‏ ‏تسهم‏ ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ – ‏من‏ ‏كل‏ ‏مصدر‏- ‏فى ‏توثيق‏ ‏العلاقة‏ ‏بالواقع‏ ‏الحى، ‏ليس‏ ‏باعتباره‏ ‏الملموس‏ ‏بالحواس‏ ‏فحسب،‏ ‏وإنما‏ ‏باعتباره‏ ‏الوجود‏ ‏الموضوعى  ‏للداخل‏ ‏والخارج‏ ‏وامتدادهما‏.‏
  • وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ “‏الزمن‏” ‏ككائن‏ ‏حاضر‏، ‏ومجال‏ ‏إرادى ‏معا‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدرج‏ ‏ضمن‏ ‏اهتمامات‏ ‏الجانب‏ ‏النفسى ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الإسهامات‏ ‏التى ‏نشير‏ ‏إليها‏ ‏حالا‏.‏

من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نخلص‏ ‏إلى ‏القول‏:‏

أولا‏: ‏إن‏ ‏إسهام‏  ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تنمية‏ ‏الثقافة‏ ‏الموضوعية‏ ‏وتشكيل‏ ‏الوجود‏ ‏الحى ‏لشعب‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏قاصرا‏ ‏على ‏ما‏ ‏يسمى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏أغلب‏ ‏المعطيات‏ ‏المحدودة‏ ‏المجردة‏ ‏لهذين‏ ‏الفرعين‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تؤخذ‏ ‏بحذر‏ ‏شديد‏، ‏لتواضع‏ ‏نضجها‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ولمحدودية‏ ‏منهجها‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى‏.‏

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏إسهام‏ ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يركز‏ ‏على “‏كيف‏ ‏الحياة‏” ‏وليس‏ ‏على “‏كم‏ ‏المحتوى ‏للحياة‏” ‏وذلك‏ ‏حتى ‏يتحقق‏ ‏وجود‏ ‏بشرى ‏خليق‏ ‏بما‏ ‏حققه‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏معارف‏ ‏وما‏ ‏امتلك‏ ‏من‏ ‏أدوات‏. ‏فالتركيز‏- ‏مثلا‏ – ‏على “‏كيف‏ ‏نقرأ‏” ‏ينبغى ‏أن‏  ‏يلقى ‏نفس‏ ‏الاهتمام‏ ‏الذى ‏نوليه‏  ‏للتركيز‏ ‏على “‏ماذا‏ ‏نقرأ‏”،  ‏وربما‏ ‏أكثر‏.‏

ثالثا‏: ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏المعطيات‏ ‏العلمية‏ ‏والتقنية‏ ‏المعاصرة‏ ‏والمناسبة‏ ‏فيما‏ ‏يختص‏ ‏بتشكيل‏ ‏وعى ‏المواطن‏ ‏المعاصر‏ ‏لتحقيق‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏التناسب‏ ‏مع‏ ‏مسيرة‏ ‏العصر‏ ‏وإنجازاته‏ ‏وذلك‏ ‏بالعمل‏ – ‏بكل‏ ‏الوسائل‏ – ‏على ‏تنمية‏ ‏كل‏ ‏من‏: ‏

‏(‏أ‏) ‏الإدراك‏ ‏النقدى المتجدد، مع ‏تنمية‏  ‏وتدريب‏ ‏العقل‏ ‏النقدى.‏

‏(‏ب‏) ‏الحرص‏ ‏على ‏إحكام‏ ‏ورصانة‏ ‏ومرونة‏ ‏وحركية‏ ‏اللغة‏.‏

‏(‏ج) ‏تنمية‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى ‏ونوع‏ ‏الوجود‏ (‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏إنتاج‏ ‏الإبداع‏  ‏التشكيلى ‏الرمزي‏).‏

(‏ء‏) ‏إعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏العلاقة‏ ‏بالواقع‏ ‏الداخلى  ‏والخارجى ‏وهما‏  ‏فى ‏حالة‏  ‏امتداد‏ ‏غير‏ ‏متناه‏.‏

‏(‏هـ‏) ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏كمتغير‏ ‏فاعل‏، ‏فى ‏متناولنا‏ ‏أيضا‏، ‏أى ‏أن‏  ‏لنا‏ ‏فى ‏تشكيله‏ ‏دور‏ ‏إرادى ‏قادر‏.‏

وبعد:

 إننا إذا كنا نحذر من طغيان منظومة معرفية على بقية المنظومات سواء كانت علماً رصينا، أو تفسيراً دينيا ليس مقدسا (فالدين هو المقدس وليس التفسير) فعلينا أن نحذر بنفس القدر من هذه الموجة السائدة التى تدخل تعبير التفسير النفسى فى كل شئ من أول لون حجرة المائدة حتى إحراق ناس غزة بلا تمييز بين طفل، وشيخ، ومحارب، وآمن، إحراقهم جميعا فى المحرقة الجارية تحت سمع وبصر العالم وأغلبه “يتفرج”

مثل هذه التفسيرات تصل أحيانا إلى التبرير والتسويغ،

 ما الذى يفيد أو يفسر أن نقول إن ما يفعله الاسرائيليون فى غزة وغير غزة هو دليل على جنون قادتها، أفى هذا تفسير لما يجرى؟ أم أنه إهانة للمرضى والمنطق معا؟.

والأمثلة غير ذلك كثيرة.

ملحوظة:

غداً وبعد غد سوف ننشر حلقة من حلقات “سر اللعبة” عن “الحق فى الفرحة”، هى “لعبة الضحك”، وقد فضلنا أن ننشر نفس الألعاب اليوم، لندع القارئ يستعد لها بتجربة الإجابة عليها قبل أن نناقشها، أو يطلع عليها فى الموقع (“لعبة الضحك” “برنامج سر اللعبة” 20-2-2004) والدعوة عامة.

الألعاب العشرة + 1:

اللعبة الاولى: الضحك حاجة والفرح حاجة تانية دا انا ساعات وانا باضحك………………

اللعبة الثانية: أنا أخر مرة ضحكت من قلبى كانت……………………………………….

اللعبة الثالثة: أضحك ازاى وانا شايف اللى جارى ده!! دا أناعلشان اضحك لازم………..

اللعبة الرابعة: طبعا لازم احب اضحك مهما كان ماهو أصل المسألة……………………

اللعبة الخامسة: مش معنى إنى باضحك  انى ناسى همومى او هموم الناس هو يعنى قلة الضحك..

اللعبة السادسة: انا باكرة اللى بيتمسخر على خلق اللة قال اية  بيضحك مع انى ساعات……..

اللعبة السابعة: الواحد نفسة يضحك بحق وحقيق أصل أنا بصراحة………………………

اللعبة الثامنة: أنا ضرورى أنسى الاول قبل ماأصدق أنى قادر أضحك، أصل أنا …………….

لعبة إضافية:  أنا ينفع أضحك من قلبى حتى لو………………………………………

اللعبة التاسعة: أنا نفسى أضحك مع حد يكون قريب منى وشايفنى، ماهو أصل يعنى………..

اللعبة العاشرة: لأّه بقى!!! أنا من حقى أضحك بصحيح حتى لو …………………..

[1] – أضفت اللاحقة، لأن التكنولوجيا ليست دائما تطبيقا عمليا لمنجزات العلم، فهى قد تسبقه، وبالتالى تكون “تكنولوجيا سابقة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *