الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى بين يحيى حقى و خيرى شلبى (2 من 2)

نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى بين يحيى حقى و خيرى شلبى (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين  4-2-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:   4174

(مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى

النقدية والإنشائية والإبداعية

نواصل اليوم استكمال الجزء الثانى من نشرة أمس الأحد:

نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى ( 2 من 2)

بين يحيى حقى و خيرى شلبى (1)

……………

……………

الإيقاع الحيوى: نور على نور

حين حضرت لى رواية قنديل أم هاشم فارضة نفسها فرضا وأنا أقرأ لحس العتب لم أستطع أن أتبين معنى ذلك بدرجة جاهزة من البداية؟ تقارب زمن الروايتين ليس كافيا، كما أن ممارسة التطبيب الشعبى (بشقيه السلبى والإيجابى) ليس متوازيا بما يسمح بالمقارنة، إلا أن نظرة لاحقة جعلنى أربط بين هذه الممارسات النقيضية فى كلا العملين، بما قد يضيف إلى الفروض المطروحة بعض الانارة.

ليس الزيت، لكنه النور

من البداية والشيخ درديرى ينبهنا أنه “يشفى  بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان”  (ص 7)، فلا بصر مع فقد البصيرة، ومن لم يُشف فليس لهوان الزيت بل لأن أم هاشم لم يسعها بعد أن تشمله برضاها، أم هاشم كما وردت فى الرواية، وفى وعى غالب فى الشعب المصرى, لها حضور حيوى نابض. هى ليست مجرد فكرة إيحائية. حين استنقذتْ نعيمة بأم هاشم طالبة التوبة ، شك إسماعيل أنها (السيدة زينب) بادلتها القبلة تعبيرا عن قبول شفاعتها “.. ومن ذا الذى يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة” (ص80).

القنديل لم يكن أبدا “فانوسا” يضىء، مساحة محدودة بجدران فحسب، هكذا أوضح الأمر الشيخ درديرى منذ البداية (ص66) قال :”هيهات للجدران أن تحجب نوره”. ثم يمضى الوصف بحيث لا يدع مجالا للشك أنه ليس قنديلا: “…وانتبه (إسماعيل) لوصف الشيخ “.. هذا القنديل الصغير .. يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار، إننى ساعتها لا أطيق أرفع عينى إليه” ثم يردف الشيخ درديرى وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، يضفو ضوؤه الخافت على المقام  كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام فى أحضانها، ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانا او وقفات تسبيحها همسا. يطفو (القنديل) فوق المقام كالحارس مبتعدا تبجيلا، أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطداما بين ظلام يجثم، وضوء يدافع، إلا هذا القنديل، فإنه يضيئ بغير صراع! لا شرق هنا ولاغرب، ما النهار هنا ولا الليل، لا أمس ولا غد”، “وانتفض إسماعيل، لا يدرى ما هذا الذى مس قلبه”! ( ص 74)

نور القنديل يحضر كائنا يـَرى، يُدرك، ويُرضع ويحنـُو من البداية (ص 66) حتى قرب النهاية (17) ” .. ورفع إسماعيل بصره، فإذا القنديل فى مكانه يضئ كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، خيـّل إليه أن القنديل وهو يضئ إليه ويبتسم (لاحظ تكرار نفس الألفاظ رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ!! (ص74).

هذه القصيدة تفرق بين النور الحانى، وبين الضوء المقتحم، وتجعل الواقع السلسلة التى تحمل القنديل (ص 74) هو الوهم (أما السلسلة فوهمُ وتعّله). حين يصل الأمر إلى الإشارة، ولو دون قصد، إلى القنديل وكأنه يستمد نوره من زيت شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، حيث لا نهار ولا ليل، حيث السرمدية الحانية، فنحن أمام قبس يرمز إلى، إن لم يعرض، النور الذى هو على نور، وبالتالى لا يكون الزيت زيتا عاديا يقطر فى العين لمرضى البصر، وإنما هو الزيت الذى هو النور الذى يكاد يضىء ولم تمسسه نار، هو النور الذى ينير البصائر إيقاعا حيويا متسقا. الفرق بين الزيت حين يوضع كزيت، مادة لزجة لها قوام، فى عين رمضاء، وبين النور الذى يعيد النغـمة الشاردة النشاز (المرض) إلى موقعها فى اللحن الممتد من الإيقاع الحيوى الذاتى إلى الإيقاع الحيوى الكونى، هو الفرق بين زحف العمى إلى عيون فاطمة النبوية نتيجة التداوى بالزيت المتعين، وبين إبصارها نتيجة للتناغم مع إيقاع النور الممتزج بالعلم الصحيح. أما جزئيات العلم وهى منفصلة عن هارمونية النور الإيمانى المسئول، فهى لا تقل اغترابا عن الزيت الجسم الغريب قبحا ونشازا. هذا الفرق فى رواية حقى يكاد يكون موازيا  للفرق بين لحس العتب وبين حدس ضاربة الودع وسيطا إلى استعادة التوازن مع النبض الحيوى فى رواية شلبى.

قد يكون من السهل نسبيا أن نفهم الفرق الأول بين الزيت كزيت، وبين الزيت كنور السماوات والأرض، من خلال فرض عن علاقة الصحة بالتوازن الحيوى الممتد. الأصعب هو أن نتصور أن المؤسسة المعلوماتية الطبية المغتربة عن هارمونية الوجود الأشمل، يمكن أن تكون أحيانا لها هذا الإضرار حتى العمى. ربما يفسر بعض ذلك – فرضا – هو تلك الكلمة التى أطلقها إسماعيل وهو يهوى بعصاه على القنديل ص 194 : ” وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه حتى تناثر زجاجه، وهو يصرخ ” أنا.. .أنا …أنا . كتب المؤلف هامشا مضافا إلى الطبعة التى بين يدى ص 104 مؤرخا سنة 1974 يعلق فيه على هذا الموقف: من النادر أن يرصد كاتب نفسه كل هذه المدة (أكثر من أسبوع) وهو يحاول أن ينتقى لفظة بذاتها لموقف بذاته، ومن النادر أن يأتى بهذا اللفظ الغاضب المنقطع “أنا..أنا” مبتدأً بلا خبر، ليفيد به (بنص هامش اعتراف الكاتب بعد ثلث قرن) أن “…هذه هى الكلمة التى كنت أبحث عنها ، لأنها تجسد كل المعانى التى طلبتها”. ما هى تلك المعانى التى طلبها المؤلف حتى تحتويها هذه الكلمة فيفرح بها ثم يفرضها وكأنه يطالبنا أن نلتقط كل المعانى التى طلبها، فجسدها فى كلمة نستعملها نحن فى معنى واحد. يضيف المؤلف إلى الهامش تفسيرا (مرفوضا منى على الأقل) لذلك:  مرة بحجة أنها الكلمة التى قالها نيتشه هابطا من بيته حين أصيب بالجنون، ومرة وهو ينتبه  إلى أن حرف النون به نغمة الأنين. بصراحة لقد تعجبت من هذا الهامش ورفضته بقدر ما فرحت به، رفضت محتواه التفسيرى أو التبريرى، فالمبدع يكتب ما يعن له دون وهو لا يحدد “كل المعانى التى طلبها”، ثم تأتى الكلمات لتحتوى ما تشاء من معان حتى لو لم تكن تحتويها قبلا، صحيح أنه بين كتابة النص وكتابة الهامش أكثر من ثلاثين سنة، لكن هذا فى ذاته يجعلنا نحترم الكلمة بقدر ما نتحفظ تجاه تبريرها. ثم إن حكاية النون والأنين هى أبعد ما تكون عن موقف الصراخ المجنون، وحتى حكاية نيتشة ليست كافية لتعلن أن مَسَّا من الجنون قد أصاب إسماعيل. إلا أننى فرحت به للتأكيد على أهمية هذا الانتقاء ولكن من وجهة نظر أخرى.

 لقد استقبلتُ صيحة “أنا.. أنا.. أنا..” باعتبارها إعلان انفصال الكيان الفردى عن النبض البشرى الجماعى، وعن النبض الكونى الكلى، هذا الانفصال الذى يلغى فاعلية الإيقاع الحيوى فى استعادة التوازن، فينقلب العلم الجيد والمعلومات المفيدة من آلات تشارك فى عزف لحن الإيقاع الكلى، إلى جسم غريب قد لا ينفع وقد يضر، فتكون بمثابة الزيت المنفصل عن النور. المعنى الذى جاء بعد ذلك فى إعلان إسماعيل  أنه ” لا علم بلا إيمان (ص 117)”، أو أنه:  وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان (ص 119) هو معنى له موقعه الدال فى عمق مضمونه، لكنه إذا أخذ بظاهره يصبح تلفيقا مسطحا من كلمات متجاورة تكاد تضيف إلى الاغتراب مزيدا من الاختزال والتجزئ على الجانيين. هذا التلفيق شائع بين الدين والعلم ، وأيضا فى السياسة والإيمان (أنظر بعد). التفيق يفقد شقيه فاعليتهما معا، بل وفاعلية كل على حدة، أما الجدل الذى أرجح هنا إمكانية أن يجرى بين الأداة الجزئية، وبين الوجود الشمولى، فهو يخـّـق مستوى جديدا من التوازن المتناغم فى تصعيد ضام.

الرسالة التى تصل من الفيلم (2) دون الرواية، لها قيمة من حيث أنها تنبهنا أن القائمين عليه قد وصلتهم من العمل ما قد يصل العامة أو المتدينين المهزوزين من مثل هذه الأعمال الرائعة إذ يختزلونها إلى ما ليست هى، وكأن كل المراد من مثل هذا الإبداع هو إعلان انتصار ما يسمى علما على ما يسمى خرافة. ليكن، ولكن هذا ليس هو كل ما يقوله النص، ولا هو يستأهل أن يكون نصا إبداعيا ليوصل لنا هذه النصيحة الإرشادية البديهية . إن مثل هذا الاختزال والتسطيح جدير بأن يفرغ النص من مضمونه، بل وأن يشوه جماله.

إذن ماذا؟ هل ثـَمّ تفسير بديل؟

إن إسماعيل لم يصبح فى النهاية متدينا أفضل، كما أنه لم ينته مشايعا للعشوائية المتفسخة (الخرافة)، وبالتالى طبيبا أبلها يتبرّك بما شاع كيفما اتفق. إن ما بلغنى هو أن إسماعيل قد استعاد توازنه الإيمانى الإبداعى الموضوعى القادر على تدعيم وعى الطبيب، إن تفسير أسلوب هذا العلاج لا يمكن أن يطرح إلى فرضا يشير إلى احترام مستويات وعى المريض مع مستويات وعى الطبيب فى علاقتها بمستويات وعى الكون، لقد اكتشف وعى فاطمة من خلال هذا الحدس الفطرى أن معالجها – برغم أنها تحبه – فردا – حتى التقديس فالاستسلام – منفصل عن الإيقاع الجماعى. إنه جسم غريب عن الوعى الجمعى والوعى الكونى (أنا .. أنا .. أنا ..) وحين عاد مؤمنا بمعنى التناسق مع من حوله وما حوله، ناسا وطبيعة، ونورا على نور، استجاب وعى فاطمة لعودته، وشفيت بنفس الوسائل التى سبق أن فشلت.

النص الإبداعى الذى بين أيدينا يعلن أن فاعلية العلاج تتأتى بوضع كل الوسائل المفيدة: علما وإيقاعا حيويا، وإيمانا وتواصلا إنسانيا، لاستعادة التوازن الذاتى فى علاقته بالتوزان الأكمل المفتوح النهاية الذى “ليس كمثله شئ”.

النص الذى يقول: ” وعاد من جديد إلى علمه وطبه يشده الإيمان ..”  (ص 119) لا يشير إلى أية تسوية مائعة تجمع بين لفظين لهما سمعة طيبة،  لكنهما إذا ضُمّا إلى بعضهما تعسفا ضاعا فيما ليس هما. تماما مثل نفس الشعار”العلم والإيمان” حين يستعمل فى السياسة لغرض مناوراتى تسوياتى مخادع، أو حين يسَّوق فى سوق التفسير العلمى للنصوص المقدسة. كل هذا هو نوع من الاستسهال والاختزال لكل من العلم والايمان على حد سواء.

فروض متصاعدة

ليس من حق الطب والأطباء أن ينكروا – لأى سبب علمى أو شخصى أو شبه علمى أو تجارى – ما جاء فى عملٍ إبداعى ظهر نتيجة لحدس مبدع له خبرته ووعيه ورؤيته وأدواته، قد يكون من حق المؤسسة الطبية أن ترفض الممارسات الطبية الفعلية خارج نطاق قوانينها ولوائحها، وأن تسن لذلك القوانين بالحق أو بالباطل، لكن أن تـُرفض أحداثا جاءت فى عمل إبداعى جاد جيد، فهذا ليس من اختصاص المؤسسة الطبية، ولا من سلطتها.

أيضا لا يمكن أن نسائل المبدع لماذا كتب هذا الحدث هكذا، أو لماذا رجح أن هذا العلاج نجح وذاك العلاج فشل، يحدث مثل هذا أحيانا فى مقابلات صحفية أو ثقافية عابرة، بعد ظهور العمل، وهو خطأ منهجى حتى لو أجاب المبدع على أسئلة السائل إجابات مساعدة، كما قد يأتى التفسير أيضا من عالم أو طبيب حين يُسأل نفس الأسئلة فيفتى من واقع منظومة تخصصه دون الالتزام بالسياق الإبداعى واختلافات اللغة والأدوات.

إن مهمة  النقد الإبداعى هى قراءة النص لتفكيك أبجديته لإعادة تشكيله عبر كل منظومات الناقد المعرفية وحدسه الإبداعى وأدواته، يضع الناقد لذلك الفروض، ويعيد تشكيل النص، انتظارا لنقد النقد وهكذا،إلى غير نهاية.

وأخيرا فإنه ليس من حق فن لاحق (السينما أو المسرح أو المسلسل) أن يسطح إبداعا غائرا بمثل ذلك التشويه الذى طرحه الفيلم بنفس الأسم.

الخلاصة: (الفرض)

إنه ينبغى  علينا أن نقوم بمهمة النقد ونحن نحترم كل حرف ورد فى النص، نحترمه ونجادله ونتعلم منه، ونعيد تشكيله فى إبداع ناقد مستكشف. إن كلا من حدس العتب وقنديل أم هاشم يمكن أن يحمل دعوة لتعميق فهم الوعى والوجدان ليصبح إسهامهما فى استعادة التوازن نحو الصحة  فعلا بيولوجيا إيجابيا إيمانيا يكمل عمق العلم و يسهل وظيفته. إن هذا، وليس الإيحاء السطحى، هو  الذى يعيد الصحة بمعنى التوازن الإيقاعى من خلال استعمال آليات العلم بالضرورة.

الإيقاع الحيوى الكونى هو اللحن الأساسى الذى يحتاج إلى آلات تعزفه، وما الآلات البشرية إلا أدوات لعزف هذا اللحن الأعظم، تفاصيل أوتار الآلات البشرية تشمل كل شىء: من مفردات العلم إلى حدس الفطرة، إلى انتظام فحوى العبادات، كل ذلك يتكامل مع وعْـى من يستعملها من خلال إيقاعه الحيوى الخاص، وبالتالى يصبح قادراً على أن يتلاحم مع إيقاع وعى مريضه الناشز، فى حضن وعى الكون المحيط الممتد بغير نهاية، فينتظم فى لحن الوجود الأكبر إلى غيبٍ يقينىّ ليس كمثله شئ.

 بهذا تصبح أية آلة منفردة، سواء كانت معلومة علمية شاردة، مهما كانت صحيحة، أو زيت قنديل منفصل عن نوره، أو قاذورات من بقايا النعال على عتبة ولى. أو فتوى سلطوية تافهة أو منافـقة، يصبح أى من ذلك نشازا لو عزفت أية آلة منفردة وحدها لذاتها، ثم قد ينقلب النشاز المنفصل إلى نيزك ساقط، فهى الخرافة المضللة حتى القتل والكفر والشقاء أو الخدر الميت.

الأمر الذى يحتاج إلى إعادة نظر لإكمال الصورة هو ما آل إليه حال الدكتور إسماعيل (الدكتور اسماعيل) بعد شفاء فاطمة، فى نهاية الرواية، الجزء الذى  تجاوزه أغلب النقاد (غالبا)، وما كان بمقدور الفيلم الذى قدم الرواية بكل تلك السطحية أن يقترب منه أصلاً. هذه النهاية تحتاج إلى قراءة نقدية خاصة، وهو ما يمثل الجزء الثالث من هذه الدراسة، الذى أسميته ” نصُ إسماعيل رجب عبد الله””.

[1] – نشرت فى مجلة وجهات نظر – عدد مارس  2006

[2] – كنت قد أشرت بتفصيل نسبى  فى المسودة الثانية إلى ما بلغنى من تفسير الفيلم للرواية بأن الشفاء الأخير تم بطريقة العلاج بالإيحاء، ورفضت أن نفسر المسألة بهذا الاختزال شبه العلمى، لكننى لما  أتيحت لى فرصة مشاهدة الفيلم بعد ذلك – الفضل لابنتى “نهى يحيى حقى” – قضلت أن أحذف تلك التفاصيل فى المتن، مكتفيا بهذا الهامش. إن ما جاء فى الفيلم  ليس مجرد خطإ أو تسطيح ، لكنه تشويه للنص وتوظيف له فى عكس ما يمكن أن يصل منه. لكل من الفن والطب والإيمان . ثم إنى شعرت أن ثمة أمانة فى عنقى أن أحرر النص نقدا مما يمكن أن يكون قد لحقه بما اتقرفه الفيلم فى حقه، هذه الأمانة ربما هى التى حملها لى المؤلف عفوا دون أن أتيقن ساعتها كيف أحملها، أو متى.

عرفت يحيى حقى وأنا فى الخامسة عشر (1948) طالبا فى الثانوى فى منزل أستاذنا وصديقه الحميم الأستاذ محمود شاكر، ثم التقيته فى اوائل الثمانينات عند أستاذنا أيضا، وإذا به يعلق على بعض ما أكتب نقدا أو رأيا، ويسألنى: ألا تستحق أعماله أن أدلى فيها بدلوى، خجلت بحق (بقدر ما فرحت طبعا) ولم أف بوعدى حتى الآن. بعد ستة عقود من لقاءاتنا الأولى وربع قرن من لقائنا الثانى أجد نفسى أشرف بأن استجيب لما حملنى من أمانة وأحاول أن أصحح ما أفسده الفن والجهل والمؤسسات المغلقة الفهم، فلتغفر لى يا سيدى تأخرى، ولأحمد الله على أنى فعلتها بما يستاهل، فلعلك سيدى تقبلنى.

 يقول الفيلم شيئا ينفصل تماما عن عمق المتن، بل يشوهه، الفيلم يفسد ما دعى إليه النص من إيمان بعنى التناغم الصحى مع الإيقاع الحيوى المتصاعد، وهو يضع محله تلفيقات وتسويات ليس بها إضافة، وحتى يتم له ذلك يضيف ويحذف ويبدل ويلفق مايشاء. مثلا : لم تجر فى النص أية عمليات لفاطمة، فى الفيلم عمليتان، وتبدو الثانية وكأنها عملية وهمية للإيحاء، وهذه جريمة فى ذاتها، يقوم بها الهواة من الأطباء كأنها مشروعة،ويفرحون بنتائجها التافهة التى يمكن أن نحصل عليها بأى أيحاء أخيب. كذلك  لا يوجد فى الرواية تشخيص لما ألمّ بالعين لكن الفيلم تبرع أن يحدد التشخيص على أنه “عمى هستيرى”، كما لا يوجد فى المتن إيهام وخداع باستبدال الزيت بدواء حقيقى، هذا أسلوب سطحى قد ينفع فى حالات عابرة لا تمت من قريب أو بعيد لحالة فاطمة النبوية. أضف إلى ذلك أن ما عرضه الفيلم هو تقابل بين دروشة عشوائية زائطة، وبين مجموعة أطباء رسميين  تقليديين مما أدى إلى تشوية رسالة النور من القنديل، وتشويه معنى التصوف النابض بإيقاع الحياة، القادر على تغير حتى النشاز  البيولوجى – لكل هذا وغيره ، لن أعرج على الفيلم فى متن النقد، مع التنبه ألا يحكم على النص من الفيلم وإنما من أصوله.       

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *