نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-2-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4173
نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى
بين يحيى حقى و خيرى شلبى (1 من 2) (1)
مقدمة:
حين يواجه ناقد ما، له منظومته الأيديوولوجية، ومرجعيته العلمية، وأرضيته المعرفيه، ما يقدمه مبدع جيد جاد من رؤية تخالف ما ثبت لدى هذا الناقد “بالضرورة” (علما، أو تاريخا، أو أيديولوجية، أو حتى دينا)، أين يضعها؟ هل يحكم عليها بالصحة والخطأ؟ هل يقيسها بمقاييس ما وصل إليه من علم حتى لو كان متخصصا فيه بجوار اهتماماته النقدية؟ هل يضمها إلى نوع من الخيال البعيد، ومن ثم غير القابل للقياس بمحكات الواقع ومعطياته الحالية؟ هل يستلهمها بدهشة مسؤولة باعتبارها مصدرا مختلفا للمعرفة، فيضع لقراءتها ما يلوح له من فروض جديدة محتملة، تتحقق أو لا تتحق بإضافة من مبدعين آخرين، أو من مصادر أخرى للمعرفة: آنية، أو آتية؟
متى كان المبدع مبدعا، فعلينا أن ننحنى لما أبدع، لا أقول نستسلم له، ولكن نحترمه، ونشتغل فيه بما هو، لكى لا نحكم عليه من خارجه. لعل هذا هو ما دعانى إلى رفض، أو على الأقل التحذير من أغلب مناهج النقد النفسية، وخاصة منهج التحليل النفسى التقليدى. (فصول 1983) (2) مسموح بأن تواكب المعرفة معرفة أخرى من منظومة أخرى تدعم بعضها بعضها، أو تعارض بعضها بعضا، لعلها تجادل بعضها بعضا، لكن أن تقف منظومة معرفية، مهما كان إحكامها أو رواجها، وصية على منظومة أخرى تقيسها بأدوات من خارجها، فهذا اختزال غير مقبول.
حين قرأت لحس العتب لخيرى شلبى، وعشت جزئية التداوى الفاشل القاتل بلحس قاذورات ما تبقى من أحذية الداخلين إلى مقامات الأولياء فى مركز دسوق، جزعت، وحين مات خالد (الأخ الأصغر) نتيجة لذلك حزنت، لكننى اطمأننت للرسالة التى وصلتنى، ثم فوجئت أن شقيقه (فخرى:الرواى) المصاب بنفس المرض تقريبا قد شفى تماما، وبسرعة غير متوقعة، من وصفة أخرى لضاربة ودع أشارت على أمه ببعض الطقوس والرقى، شفى إذْ تجرع من الحياة الخميرة النابتة فى الخل التى تلقت قطر الندى، على نغمات الإيقاع الحيوى الكونى المنتظم. فوضعتُ ما حدث بين قوسين. لم أرفضه برغم مخالفته لأبسط قواعد الطب، ولم أضعه فى نفس موضع لحس العتب باعتبارهما تطبيبا شعبيا معاً، بل رحت أحاول أن أفهم حدْس هذا المبدع الذى جعلهما عكس بعضهما تماماً، فطفقت أقرأ المرة تلو الأخرى دون حل قريب.
يبدو أن هذه الجزئية من الرواية، هى التى ذكرتنى برواية يحيى حقى الشهيرة : قنديل أم هاشم ، لم تسعفنى الذاكرة بالتفاصيل، فرجعت للرواية، فحضرنى بوضوح غامض أن قطر العين المريضة بزيت القنديل قد فشل حتى قاربت فاطمة العمى، وأن استعمال جزئيات العلم حتى الوارد منها من “بلاد بره” قد فشل أيضا وأوصل الحالة إلى نفس المصير. لكنَّ تصالحا ما قد تم أخيرا بين إيقاع وعى المعالج والمريضة والكون فى لحن متكامل، جعل تلقى المريضة لما سبق فشله، ينجح، وبلا دهشة (أنظر بعد)
لم أجد تفسيرا علميا لما حدث هنا وهناك. رفضت التفسير بالإيحاء السطحى، كما لم أقبل تلفيقا مختزلا يصفق لشعار يجمع لفظىْ “العلم والإيمان” معا، بشكل شعرت معه بالاستسهال حتى خشيت أن يصل هذا الكلام إلى المتلقى بتلفيق مصطنع لم تقصده الرواية. على الناقد وهو ينفى هذا التلفيق الذى لم يرد فى النص أن يثبت عكس ذلك أو غير ذلك، الرفض هنا للتسطيح والتلفيق أو حتى للتسويه، لكنه لا يشمل رفض أى جدل حيوى محتمل. فهى دعوة غامضة مثيرة: أن نعيد النظر فى مفهوم أعمق لما هو علم وما هو إيمان وما هو طب وما هو خرافة. وهذا ما تحاوله هذه المداخلة.
أثناء مراجعتى لقنديل أم هاشم (3)، وكنت متحفظا على ما شاع عنها، وبالذات على ما وصلنى من الفيلم بنفس الاسم، (قبل أن اشاهده) فوجئت بمنظر تم حذفه فى الفيلم وربما أغفل فى كثير من النقد، ولقد تبينت أننى لم أنتبه إليه من قبل بالقدر الكافى: منظر إسماعيل،(الدكتور إسماعيل فى نهاية الرواية) وهو كائن ضخم الجثة، أكرش، مدمن للتدخين وربما للنساء الجميلات، مصدور، يستعمل امرأته، بأقل احترام، فيُنسلها ما شاء من نسل دون حساب (وربما دون مسئولية)، وفى نفس الوقت يعالج الفقراء بقروش، فى مكان قذر، ويشفون. تساءلت: ما علاقة هذه النهاية (أقل من صفحتين قطع صغير) بكل ما جاء فى الرواية من صراع بين العلم والمعتقدات الشعبية؟ بين الغرب والشرق؟ بين الشمال والجنوب؟ بين الانتماء والخلع؟ . تأكدت أن وقفة أمام هذه النهاية التى حذفتها السينما، وربما تجاوزها أغلب النقاد، هى ضرورية لإعادة النظر فى النقد المتاح، ثم تأكدت أن قراءة حالة إسماعيل كنص بشرى نقدا، قد تكون لازمة لتفسير بعض أبعاد الصورة الكاملة دون الغاء صفحتىْ النهاية فأجلت ذلك لأتناوله فى دراسة لاحقة مكتفيا أن أركز فى هذه الأطروحة على مستويين نقيضين للتطبيب الشعبى.
لحس العتب مقابل حدس الإيقاع الحيوى
بالعودة إلى رواية لحس العتب لخيرى شلبى (4) نتذكر كيف تسربت الحياة من أسرة طفلنا الراوى على أكثر من مستوى، المال تسرب بخيبة الوالد التجارية، ولم تنفعه أحلامه حالة كونه جالسا ينتظر عكس ما يجرى أمامه واقعا، هذه الأحلام كانت محل نقد أو رفض أو سخرية هامسة أو معلنة من معظم رواد المندرة، سواء وهم جلوس يتغامزون، أو بعد الانصراف، ويبدو أن بعد الوالد عن الواقع اضطره أن يفرض خياله الآملِ بقسوة جازمة، وربما هذا هو ما وصل للأولاد كنوع من القسوة حتى رفضوه: “…لقد كان يساورنا الشك فى أن يكون أبى- هذا الجلف الخشن الغليظ الصوت والرقبة – كان ذات يوم من الأيام ابن عز” (ص 7). المسألة لم تعد تدور حول ما إذا كان رب الأسرة إبن عز أم إبن فقر، بقدر ما أنها تعلن أن هذه الأسرة لم يعد يربطها تاريخ أو أمل. وحين أعلن المرض حلوله فى فخرى وأخيه بهذه الصورة التى تنبعج فيها البطن ويذوى الجسم، كان ذلك بمثابة الإعلان الأقسى لتسرب الأشياء والحياة. كل شىء يتسرب إلا الترابيزة التى أعلن الراوى إحياؤها لتقاوم حتى النهاية، لم يستطع أى من الولدين أن يقاوم المرض مقاومة الترابيزة للإزاحة، تراجعا أمام ضربات المرض المتلاحقة . الترابيزة فعلت العكس، إذ ظلت تمتنع أن تضحى بوجودها فى سبيل توفير نفقات علاجهم، المرض الخطير المتسحب بهذه الصورة كان بمثابة إعلان هزيمة الحياة تدريجيا وباضطراد.
لم ينفع التطبيب الاجتهادى العشوائى، ولم تتيسر مصاريف علاج الطب التقليدى، فما العمل؟
هنا، كما فى القنديل، مستويان من التطبيب الشعبى، الأول فيه من التفسخ والاغتراب ما تجسد فى قذارة منفصلة متجمدة لفضلات بشرية ساقطة كنيازك بشعة متنافرة عفنة، فالعتب الذى لحسه الطفلان لم يكن له علاقة لا بالأولياء الذى هو على بابهم، ولا بالطبيعة المحيطة النابضة ذات الإيقاع الحيوى، وحين أُفرغ العتب (بالمسح قبل اللحس) مما عليه من قاذورات أصبح خاويا حتى من قذائفة الشاردة المتنافرة. تبين الشيخ على بقوس (الشيخ كعبلها)، وهو الذى أشار على الأم بالوصفة ابتداء، تبين هذا الخطأ الذى حدث نتيجة مسح العتب وتنظيفه قبل اللحس، وأفتى بأن ذلك هو الذى جرح شعور ولىّ الله، فصحح الوضع ونصح الأم أن يكون اللحس دون غسيل، ففعلتْ، ولحس الطفلان بقايا وشظايا ونتن القذارة والعفن: انغرست بقايا التفسخ البشرى كأنها النيازك الساقطة نافرة من لحن الحياة، انغرست فى قلب الأخ الأصغر (خالد) فقضت عليه فى ليلته. فشلت محاولة الاستعانة بالأولياء لأنهم لم يكونوا هناك أصلا فى وعى طالب عونهم. حلت محلهم بقايا قاذورات أحذية ونعال وأقدام الداخلين إلى المقام، كان التبرك ببقايا نشاز قذرة منفصلة متفسخة وثنية، فهى الخرافة القاتلة.
البديل التقليدى بعد هزيمة الحياة فى الأخ الأصغر “خالد”، كان زيارة الطبيب فى البندر لعله ينقذ ما تبقى أو من تبقى، لكن الإمكانيات لم تسمح إلا بزيارة واحدة للدكتور ألبير فهمى فى بندر دسوق حين أمكن توفير أجرة السفر والكشف من بيع نحاس الأم المرّة تلو الأخرى، فأمكن توفير قيمة الكشف ومصاريف السفر، لكن المبلغ لم يغطِّ ثمن الدواء، كذلك لم تنفع استضافة الجدة الصبية وزوجها الفحل للطفل المريض إلا بقدر ما أتاحت استشارة عابرة لمستشفى حكومى ثبت أنها كانت مثل قلّتها، ثم سرعان ما تخلصت الجدة وزوجها من الطفل الدخيل الذى كاد يفسد عليهما شغل الليل الصارخب.
فى قنديل أم هاشم لم ينفع الزيت كجسم متعين غريب عن الوعى والإيقاع، كما لم تنفع المعلومة العلمية الجزئية المنفصلة هى أيضا كجسم غريب، لكن الذى يبدو أنه نفع هو التصالح مع أنغام الوعى البشرى ضمن لحن النغم الأكبر للإيقاع الحيوى مستعملين كل آلات عزف التوازن معا: علماً، وإخلاصاً، ومشاركةَ وعىٍ لوعىٍ، تحت مظلة وعى ممتد أكبر.
فى لحس العتب: ضاربة الودع قدمت بحدْسها الفطرى حلا آخر له معالم أخرى، هو الذى نجح إذْ تميز بشكلٍ ما بمواكبة الإيقاع الحيوى وصْلا بين الوعى البشرى والوعى الكونى (الإيمانى) الممتد، وذلك كما ذكرنا: سواء من خلال الخميرة – فى الخل- المخلٍّقة للحياة، أو من مواكبة الإيقاع اليومامى، فى مجال ثلاث أذانات: المغرب والعشاء حتى الفجر، ثم مواكبة ظهور القمر أول كل شهر لثلاثة أيام، كل ذلك ليس شافيا بذاته، لكنه قد يحمل حدسا شعبيا يقول بأن الحياة التى تسربت بالانفصال والاغتراب والتفسخ والقذارة يمكن أن تعود بالاتساق والهارمونى والصحوة التوازنية فى حضن الطبيعة.
الفرق بين لحس العتب، وبين التناغم مع الطبيعة فى مواكبة الإيقاع الحيوى (الإيمانى: العارف هو الله- شِفاه على الله وعلىّ – ص64)، هو الفرق بين نشاز الخرافة والتناغم مع لحن الطبيعة الممتد. ضاربة الودع ليست عمياء البصيرة، ولا هى صاحبة حسم اغترابى، هى قد تكون مجرد وسيط فطرى يستوعب إيقاع الكون، وإيقاع البشر فى آن، فينصح كيف يصحح النشاز بالعودة إلى التكامل مع اللحن الأساسى الممتد.
وعى هذا الحدْس الفطرى قد يكون قادرا على أن يلتقط النغمة النشاز مثل أى أذن من التى نسميها “الأذن الموسيقية” التى تلتقط أى نغمة نشاز تتداخل فى لحن تعرفه جيدا: ربما هكذا تبين لفطرة ضاربة الودع كيف تتسرب الحياة من الآلة المنفردة (فخرى) حين انفصلت – لأى سبب كان – عن اللحن الأساسى،(المرض) فأشارت ضاربة الودع بما أشارت به مما يمكن أن يسهل طريق التصالح بين إيقاع وإيقاع، فى لحنٍ ممتد أكبر. ربما يكون مثل هذا التصالح المحتمل قادار على أن يساهم فى إعادة التوازن حتى التغلب على أمراض عضوية فعلا وليس فقط أمراض نفسية وظيفية، إن ذلك لا يعنى أن يكون هذا الحل بديلا عن الطب المعاصر، وإنما هو يشير إلى بعد آخر لما يسمى “الصحة”.
قلنا فى المقدمة، نحن لا نستطيع أن ننكر حدس المبدع لمجرد أنه يخالف معلومات جزئية فيما وصل إلينا من طب وتطبيب، إن الطب الرسمى إذ ينكر أهمية استعادة الهارمونى بين مستويات التوازن الداخلى المتصل بالتوازن الخارجى، إنما يفّوت على نفسه فرصا ليست هينة مهما بدت غامضة له فى الوقت الحالى. المفروض أن الطبيب الحقيقى هو وسيط حقيقى لاستعادة التناغم الإيقاعى الحيوى المنطلق = الصحة. المطلوب هو أن يستعمل الطبيب كل وسائله العلمية التى تساعد على استعادة هذا التوازن (بعد التخلص من أسبابه إن وجدت)، لكن ليس هذا هو الحادث فى عالم الطب الحديث، فالاعتماد كله أو أغلبه هو على الأدوات والفحوص والمضادات والتسكين، إن إنكار الطبيب المعاصر لدور الطبيعة فى استعادة الهارمونى هو الذى يخلـّق ما يسمى “الطب البديل” بخيره وشره, ثم إن التمادى فى هذا الإنكار هو الذى جعل الخرافة تصبح هى الغالبة والأكثر ضررا.
عودة الحياة إلى الطفل فخرى، من خلال احتمال استعادة التوازن مع بقية دوائرها، صاحبها حادث الاضطرار للتخلص من الترابيزة بعد أن انهزمت تحت سقوط السقف فوقها حتى تهشمت. كأن انهيار السقف على الترابيزة هكذا هو إعلان إمكان كسر الجمود حولها، بعد أن أصبحت لا تمثل الحياة، لقد بدا بمثابة “إعدام العدم” الذى أصبحت تمثله الترابيزة بعد أن كانت تمثل الحياة. إن تسليم الوالد بنزوحها كما انزاح الملك فاروق هو اعتراف بأن عز الحياة لا يعود لمجرد تمسكنا برموزه القديمة، وإنما هو يتخلق من جديد إذا تصالحنا مع أنغام الحياة المتجددة الممتدة القادرة على استعادة التوازن بين دوائر الوعى و دوائر الكون.
هذا عن الخطوط العريضة للمرض/التسرب/ النشاز/ التوقف،
فى مقابل
التناغم/ التوازن/التجدد/البعث،
مجرد فرض، وفى هذا إعلان أيضا عن التناقض بين التسليم النشازى المتطاير، فى مقابل استعادة مواكبة الطبيعة بيقين جديد (وليس بإيحاء مسطح)، ثم لعله تنبيه إلى موقع الطب الميكنى الحديث الذى ينبغى أن يعود ليحترم إمكانيات المريض إذ يطلب النصح، وأن ينصت إلى البدائل من واقع الحال، , ويميز منها ما يعاونه، فلا يعمم الرفض ويعتبر أن كل ما ليس فى نطاق معلوماته، هو خرافة محض وفى نفس الوقت عليه ألا يقزّم دوره حين تصبح عطاياه الجزئية منفصلة عن “تناغم الوعى الفردى فى الطبيعة”: أصل ما يمكن أن يسمى “صحة”.
………
ونكمل غدا
[1] – نشرت فى مجلة وجهات نظر – عدد مارس 2006
[2] – يحيى الرخاوى (إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى)، مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الأول، 1983
[3] – كتبت رواية قنديل أم هاشم فيما بين (1939 – 1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل
[4] – وصدرت رواية لحس العتب فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005.