“يومياً” الإنسان والتطور
29-4-2008
العدد: 242
“نحن” و فرويد “الآن” (2 من 3)
علمٌ وشائعات
مدخل
فيما يلى نواصل تقديم بعض ما يصل إلى ناسنا, فى ثقافتنا الخاصة, على أنه فرويد فى الممارسة الحياتية وهو ليس بالضرورة كذلك:
(1) يرادف الكثيرون منـا بين ما هو فرويد, وما هو تحليل نفسي, مع أن التحليل الفرويدى لم يعد إلا أحد أشكال التحليل النفسى.
(2) يخلط الكثيرون أيضا بين التحليل النفسى وبين أى علاج للمرض النفسى بما فى ذلك الطب النفسى خاصة إذا لم يستعمل الطبيب العقاقير أساسا، ولا يقتصر ذلك على العامة بل يمتد إلى مهنيين ومثقفين وعلماء وأطباء أعصاب, وربما أطباء نفسيين.
(3) يترادف اسم فرويد مع ما يسمى عند العامة “عقدة”, أو”مركب Complex مما يجعلنا نبادر إلى المغالاة فى تبرير سلوكنا ”الآن” بما حدث من تثبيت لخبرة سابقة عادة فى الطفولة.
(4) تتأثر كثير من محاولات الإبداع بتصورات المبدع عما هو فرويد, وما هو تحليل نفسي, وما هو عقدة نفسية, تأثرا مباشرا, خذ مثلا فى الإبداع الروائى (والقصصي) حين يغلب هذا الإلحاح لإثبات والتأكيد على سبب فى الماضى مما ينتمى إلى الحتمية النفسية، ليفسر الأحداث اللاحقة, مما يترتب عليه مسخ وتسطيح العمل الفنى برمته. أحيانا يقع هذا فى إطار ما يسمى ربط المقدمات بالنتائج, وأحيانا يـتناول ضمن ما يسمى “عقدة” الرواية أو المسرحية, ثم حلها, الأمر الذى يعتبر عائقا لأصالة الإبداع وغائيته الأعمق والتى تشمل توليد حركيته إلى ما تنطلق إليه. ناهيك عن الظهور المباشر لمثل هذه المحاولات التافهة بحضور طبيب نفسى أو محلل نفسى بشكل فج وجاهل فى كثير من المسلسلات والمسرحيات والأفلام.
(بلغ من إلحاح هذه الحتمية النفسية أن تقوم بتحديث جرائم ريا وسكينة فى “مسرحية ريا وسكينة” الجميلة للفنانين المتحدين- حين عمد تحديث النص إلى تبرير جرائم ريا وسكينة بتفسير حتمى سطحى سخيف (زوجة الأم تقتل أمهما فى الصعيد) الأمر الذى لم يكن يتطلبه النص أصلا إلا استجلابا لتعاطف ليس ضروريا مع سهير البابلى وشادية، لماذا؟!!!).
(5) وفى مجال النقد الأدبى كثيرا ما تختزل القراءات النفسية وخاصة ما يسمى النقد النفسي, إلى ما هو تحليل النفسي, فيقرأ الناقد المتن وكأنه يترجم النص إلى أبجدية فرويدية جاهزة وقادرة, وأحيانا مستبعـِدة.
كل هذا وغيره يجعلنا نتساءل ليس فقط عن فرويد الآن, ولكن أساسا عن موقعنا منه؟ ما تبقى لنا من فكره، وإلى أى مدى أسأنا ونسىء فهمه؟
كيف نناقش هذا الذى تبقي؟
كيف نقرأ من حاوروه؟ لنأخذ منه, ومنهم ماذا؟
ونترك ماذا؟
فيما يلى محاولة موجزة لتقديم خطوط عريضة لمراحل تطور فكر فرويد وما يقابلها, وما بقى منها, وما علاقتها بالفكر النفسى والطب النفسى الأحدث.
أولا: فرويد عالم الباثولوجيا المرضية
لم يكن فرويد قد انشغل بالتحليل النفسى بعد، حين حاول تفسير السلوك الإنسانى والمرض الإنسانى من خلال تصور خلل ارتباط بين الخلايا العصبية، وقد أثبت هذا الخاطر- كما ذكرنا أمس- فى كتيب عن الصحة والمرض انطلاقا من هذه البداية التشريحية الأكاديمية القح التى وجد نفسه فيها, فخطر بباله تفسيرا (مستحيلا آنذاك) وضعه فيما أسماه: المشروعThe Project لكنه تنكر له بعد أن هرب إلى أقصى الناحية الأخرى حتى أنه رفض - كما ذكرنا- نشر هذا المشروع فى حياته, لكنه نشر بعد وفاته.
التعقيب:
يعتبر هذا المشروع من أكثر دلالات إرهاصات عبقرية فرويد الباكرة, فبعد أكثر من قرن من الزمان أصبح الحديث عن علاقة الدماغ بخلاياه العصبية وتربيطاته ومستوياته وإعادة تنظيمه فى الصحة والمرض والعلاج, أصبح كل ذلك فى متناول البحث والنقد والتطبيق.
إن رفض فرويد لهذا الحدس الباكر لا يقلل من قيمته. إن الفكرة إذ تخرج من صاحبها لا تعود ملكه. بل إن تقييم المبدع لما أبدع, سلبا أو إيجابا ليس من حقه أصلا. وصلنى أن ما يقابل تنكر فرويد لهذا المشرع العبقرى الباكر تقييم ذاتى خاطئ أيضا لكن على الناحية الأخرى، وذلك حين بالغ فى إعلائه من قيمة كشف لم يصلنى –شخصيا- إلا باعتباره من أسطح كشوفه, وأكثرها تعسفا، أعنى “تفسير الأحلام” (أنظر بعد)
ماذا تبقى من هذا “المشروع” الذى لم يلتفت إليه أحد؟
لم يعد هناك من يدافع عن هذا المشروع The Project بعد أن تخلى صاحبه عنه.
إن ما يسمى الطب النفسى الحديث وهو الاسم الذى يختبئ فيه الطب النفسى الكيميائي, وأيضا الطب النفسى الميكني, يزعم أن كل الأمراض النفسية ما هى إلا نتيجة خلل كيميائى محدد، زيادة أو نقصا (وأخيرا: بدأ الحديث عن الخلل فى توازن الموصلات مع بعضها, ثم خلل فى داخل الخلية). وعلى هذا الأساس هو يعالج هذا المرض أو ذاك بتصحيح هذا الخطأ، هذا اختزال شديد لكن في داخله حقائق مضيئة، فرويد لم يقدم مشروعه بهذا الاختزال المعيب، إن مشروع فرويد الباكر يتكلم عن “الطاقة العصبية” و “التوصيل العصبي” أكثر من حديثه عن هذه المادة الكيميائية أو تلك. هذه الطاقة العصبية انقلبت عند فرويد (المحلل النفسى وليس عالم الباثولوجيا) إلى ما أسماه “ليبيدو” بعد فصلها عن الجهاز العصبي, وإلحاقها بغريزة الجنس.
إننا نرى أن مفهوم الطاقة الذى ورد فى “مشروع فرويد” هو أقرب إلى “الطاقة” التى يتحدث عنها الطب الشعبى والطب البديل فى جنوب شرق آسيا (“الشاكرا” مثلا), وربما يكون أقرب إلى الطاقة الخاصة الفعالة التى أشرنا إليها قبلا فى أبحاث تينبرجن ولورنز الأمر الذى ينكره ويتنكر له كل الأطباء التقليديون الذين يصابون بالحساسية إذا ما سمعوا عن أى طاقة غير طاقة الذرة, والكهرباء, وغير الوصلة المشحونة بإفراط بطاقة جسيمة فى جزيء الفوسفورHigh Energy Bond، وكل ما عدا ذلك يعتبرونه تعبيرا مجازيا, فإذا خرج إلى حيز الممارسة اعتبروه نصبا أو شعوذة .
ما يهمنا فى هذا المقام، هو أن نذكر أن أحداس فرويد فى “المشروع” قد تفرعت فى اتجاهات ثلاثة:
- الأول: الاختزال إلى الطب النفسى الميكنى والكيميائي,
- والثانى: هو استعمال أو سوء استعمال فكرة تنظيم ما يسمى تنظيم الطاقة الجسدية لاستعادة التوازن النفسي, بواسطة ما يسمى الطب البديل (مثل الإبر الصينية وغير ذلك)
- والثالث: هو محاولة تنظيم تبادل وإطلاق مستويات الطاقة البيونفسية لتحقيق نوع من التواصل والأداء البشرى القادر على أن يستوعبها ويطلق إيجابياتها (وهو ما أشرنا إليه فيما أسميناه علاج المواجهة المواكبة المسئولية م.م.م: حسب النظرية الإيقاعية التطورية للكاتب)
ثانيا: الشعور واللاشعور
منذ كان الإنسان وتعددت مستويات وجوده, ومنذ أن تبادل صحوه مع نومه, وحلمه مع ”لا-حلمه”, وهو يعلن بكل لغة أن هناك “ماوراء ما هو ظاهر”، قالتها الأساطير, والأديان، والقص الشعبي, والمثل الشعبي, والأحلام والسلوك اليومى، ومعظم أو كل انواع الإبداع. كان ذلك وما زال أمرا بديهيا بحيث لم يكن يحتاج إلى نظرية، ولا إلى عبقرية.
إن فرويد نفسه هو أول من يعلم ذلك, وهو بكل تواضعه وذكائه الخاص وتحايله أعلنها صراحة بقوله “. . يخيل إلى أنه قيض لى أن أكتشف أكثر الأمور بداهة”.
كيف تكون البداهة التى يعرفها كل الناس نظرية لها رائد وتلاميذ وكتب وتطبيقات أثرت فى كل المجالات بهذه الصورة؟ الإجابة هامة وهى لا تنطبق على نظريات التحليل النفسى فحسب, وإنما على نظريات ومنظرين كثيرين من أول أرشميدس حتى أينشتاين. إن الناس تعيش النظريات ثم يكتشفها العباقرة. بمعنى أن العباقرة لا يضيفون شيئا من عندهم, وإنما هم يعلنون بألفاظ ورموز فى المتناول ما كان يجرى دائما أبدا بحيث يصير هذا المُعاش -بإعلانهم وصياغتهم الكشفية- فى متناول الإفادة والاستفادة والتعديل والتطوير إن لزم الأمر.
قسم فرويد الشخصية (أو قل أعلن أن الشخصية مقسمة) إلى ما هو:
شعور (وهو المنطقة من النفس التى تتلقى الإدراك القادم من العالم الخارجي, وأيضا من الداخل)
وما قبل الشعور(تحت الشعور) وهى المساحة التى تلى الشعور مباشرة حيث الذكريات، والأحداث والعمليات التى يمكن أن يستدعيها الشعور بمجرد توجيه الانتباه إليها،
وأخيرا اللاشعور: وهو جماع كل العمليات والأحداث والذكريات الكامنة بعيدا عن الدراية الشعورية والتى لا يمكن أن نستدعيها بتركيز الانتباه وحده. وقد أكدت نظريات فرويد الباكرة على دور اللاشعور الطاغى والذى لا يمكن التعرف على محتواه إلا مع تغير الوعى (أثناء التنويم مثلا)، أو من خلال تأويلات متعددة المراحل للمادة المتاحة من الحلم خاصة أثناء التداعى الحر Free Association عبر التحليل النفسي, وأيضا من خلال زلات اللسان. وقد اعتبر فرويد أنه لا شيء يـُنسى أصلا, وإنما ينفي, أو يخزن فى اللاشعور, وأن الذى يقوم بالنفى النشط هو حيلة الكبت.
يبدو أن فرويد فرح بهذا الكشف فرحا شديدا فتمادى إلى آخر المدى فراح يضرب غرور الإنسان بأن ينكر فاعلية وعيه وإرادته أصلا, حتى قيل أنه شبه الوعى بذبابة تقف فوق ظهر فيل (الذى يمثل اللاوعى), وأن الذبابة تتصور أن الفيل إذا تحرك فإنها هى التى تقوده !!!
التعقيب:
بهذه الصورة يمكن القول إن فرويد لم يكتشف أكثر الأمور بداهة , بل إنه حاول تعرية أكثر الأمور رصانة وتمادى فى ذلك حتى تشوهت منه. يبدو أن هذه المغالاة هى التى جعلت خصومه يفتحون عليه النار لدرجة وصلت بهم ليس فقط إلى رفض نظريته, بل إلى رفض البداهة التى عرفها الناس منذ كانوا. أراد هؤلاء الخصوم أن يقذفوا بالنظرية التى غالى فرويد فى قيمتـها, فإذا بهم يقذفون معها باللاشعور برمته فصدق عليهم المثل القائل “ألقى السلة بالطفل الذى بها “ هؤلاء الخصوم حين أرادوا إنكار فرويد أنكروا وجودنا الخفى عنا “بالمرة”.
إن عموم الحكى الشعبي, وغير الشعبى قبل وبعد فرويد يحترم هذا الذى أسماه فرويد “اللاشعور”. إن كل ما أعلنه فرويد هو أنه استطاع أن يسمى هذا الذى يمارسه الناس ليل نهار منذ بدء الخليقة بأسماء علميه أو شبه علمية أو غير علمية: حين يقول مثلنا الشعبى “دى مش دبانة دى قلوب مليانه”، فإنه يشير إلى أساس مما نبهنا إليه فكر التحليل النفسى وهو يتحدث عن ميكانزم “الإزاحة” Displacement، وحين يقول مثل آخر اللى ما تعرفشى ترقص تقول الأرض عوجه” فهو ينبهنا إلى حيلة التبرير Rationalization وحين يقول “من اطعم صغيرى بلحة نزلت حلاوتها بطني” فهو يشير إلى حيلة التقمصIdentification. وهكذا. هذه أمور أقدم من فرويد بكثير. إن علينا أن نحافظ على حقنا فيها حتى لو ثبت خطأ نظريات فرويد جميعا.
إن من يهاجم أو ينكر وجود الحيل النفسية بدعوى أن فرويد قال بها لا ينظر حتى فى نفسه ولو للحظة واحدة. إنه لولا هذا الكبت العظيم يخفى عيوب الإنسان عن نفسه, ويخفف من فداحة عرى وقسوة ما بالداخل, لما أمكن للحياة أن تستمر.(هذا ليس دفاعا عن الكبت بقدر ما هو احترام لحركية النمو ومراحله). إن الاعتراف بحقنا فى كتم الألم إذا كان لا يحتمل, وفى إبعاد الذكريات المخجلة والمهينة مرحليا لا يحتاج منا أن نؤمن بكل ما قاله فرويد. إن إنكار كل هذا تحت زعم أنه “فرويدي” هو إنكار للطبيعة البشرية برمتها.
حين يقول كولين ماكجين (فى كتابه المشار إليه أمس) :
“نحن نتمتع بقدر كبير من فهم أنفسنا, نحن نعرف تفسير أفعالنا لأننا ببساطة, قادرون على إدراك دوافعنا, وبما نقول, فإن هذه الدوافع هى واعية”.
أو يقول:
“. . . ما أود قوله إذن هو أننى لم أعرف من جانبى حالة يمكن فيها أن نعزوا مثلا انحراف الذاكرة. . . للكبت. . . . ,”
ثم
“. . . إننى أشكك فى مجـمل فكرة الكبت الفرويدى وأراها محض خرافة بالرغم من شعبيتها (!!!)، لكن إذا كان الكبت فرضية غير مؤكدة، فيكون الحال كذلك من ثم, بالنسبة للاوعى الفرويدى حيث إنه يعرف بأنه حصيلة ما جرى كبته: فكرة إناء الفقاقيع العقلى خرافة أيضا، فالفقاقيع كلها تخرج بمجرد تكونها”
انتهى المقتطف: (علامات التعجب والبنط الأسود وما بين الأقواس من عندي)،
يضيف ماكجين:
”أنا شخصيا وجدت أن بإمكانى أن أمنع حالاتى العقلية الواعية بسهولة تامة, من الوقوع فى زلات اللسان, وإن كنت عاجزا تماما عن جعلها لا واعية “.
يقول كذلك:
” إننى على يقين من أننى نسيت كثيرا مما عرفت, لكن علىّ أن أقرر أننى لم أعرف رغبة أو ذكرى واحدة قمعت بالمعنى الفرويدي, وليس لدى الدليل، سواء من الفجوات الظاهرة فى ذاكرتى أو من شهادة الآخرين على أننى عانيت مثل ذلك النسيان “
التعقيب
هذا كلام يمكن أن يرد عليه أى إنسان أمى يستعمل مثلا عاميا مما ذكرنا أو غير ما ذكرنا، يعرى به فعلا ما صدر من صاحبه من خلال ميكانزمات أساسها الكبت، مع أو بدون استعمال ميكانزمات أخرى,
مثلا: الإسقاط (لا تشتم القحبة تلهيك، وكل اللى فيها تجيبه فيك), أوالتبرير (إيش حايشك عن الرقص يا اعرج, قال قصر الاكمام) أو الإزاحة (ما قدرشى على الحمار اتشطر على البردعة), أو التعميم (كله عند العرب صابون). . . إلخ . إن الوعى الشعبى -قبل فرويد وبعد فرويد حين يعرى الميكانزمات بالأمثال – مثلا – لا يقول إنها تحدث كما يحددها المثل، وإنما يصدر المثل العامى تعقيبا على فعل لا يعرف صاحبه لم فعله. وكأنه يقوم بتعرية الفعل وإظهار ما وراءه فى عمق الوعى (ما يسمى اللاوعى عند فرويد) بأن يطلق المثل يصف الفعل المعنى حتى يقترب من الحقيقة الأكثر موضوعية.
فى الليلة الكبيرة لصلاح جاهين, يعدل الرجل - من درب شكمبة- المدعو إلى اختبار قوته عن الاستجابة للتجربة “ورينا القوة, يا واد انت وهوه”, بأن يقول ” لا يا عم سعيدة، دى البدلة جديدة”, فالمبدع هنا (صلاح جاهين) يخلق مثلا جديدا مقابل المثل القديم الذى ذكرناه حالا: “إيش حايشك عن الرقص ياعرج قال قصر الاكمام“. ليكمل الناس, والأطفال خاصة, تعرية من اختبأ فى “بدلته الجديدة وهو يزفه مرددا “ها ها هأه سعيدة, يابو بدلة جديدة”.
وحين يختم السيد ماكجين نقده قائلا بمنتهى الثقة ” إن فكرة الكبت اللاواعى مستحيلة, أنت لا يمكن أن تكبت شيئا لا تعلم بوجوده, إنك إذا علمت بهذا الوجود فإنه لا يعود لاوعيا”!!! لا نرد عليه إلا أنه : بالذمة هل هذا اسمه كلام يصدر بعد حوالى قرن من ظهور نظرية بهذه القوة وهذا العناد؟ نظرية تقول بعض ما قاله عامة الناس منذ عشرات القرون؟ هذه النظرية تناولت –مثلا - حكاية الشعور واللاشعور هذه؟، ليس فقط باعتبارها وجهة نظر فرويدية، بل باعتبار كونها بديهية إنسانية؟ قبل فرويد وبعده؟
كيف نعيش “نحن” الآن بين الشعور واللاشعور؟
الناظر فى موقفنا الآن بالنسبة لأى موضوع كان، خاصة الموضوعات العامة، قد يلاحظ أننا نتنازل عن مسئوليتنا عن ما نأتيه ظاهرا بمحض وعينا (شعورنا) وكأن أفعالنا الظاهرة هى من صنع غيرنا، وبالتالى نجد أنفسنا تحت زعم التسليم للاشعور الذى يتحكم فينا, فى أحضان الخرافة مستسلمين لمجهول غامض.
ثم إننا على الجانب الآخر نتنازل عن “لاشعورنا” ومحتواه الذى لا نعرفه، والذى هو قادر، فى الوقت المناسب، أن يطلق سراح ما ينقصنا، نكتمل به وننمو باستيعابه فى ظروف مناسبة، نتنازل عنه لصالح شعور ظاهر مصنوع، وهذا هو ما قد يفسر أن القضايا, والعقائد, والتصريحات, والأرقام كلها عندنا محكمة الإغلاق محسومة النهاية. كل من ينتمى إلى فكرنا أو ديننا هو على حق أكيد وحيد, وليس هناك أى احتمال آخر (ولا فى اللاشعور!!).
نحن فى الحالة الأولى نستثمر سوء فهمنا لفكر فرويد لنعيش فى ظلام استسلامى لما لا نعرف
ثم إننا فى الحالة الثانية نقف ضد فرويد، من فرط اليقين الظاهر الثابت, الذى لا يسمح بأى احتمال آخر.
وغدا ننتقل إلى الجزء الثالث والأخير من هذه المتابعة عن فرويد وتفسير الأحلام ثم تشريح الشخصية.