“يوميا” الإنسان والتطور
20-12-2007
العدد: 111
نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة
والحلم (17)، الحلم (18)
الحلم (17)
تواصلت أحياء الجمالية والعباسية وأنا أسير وكأننى أسير فى مكان واحد. وخيل إلىّ أن شخصا يتبعنى، فالتفت خلفى ولكن الأمطار هطلت بقوة لم نشهدها منذ سنين ورجعت إلى مسكنى مهرولا. وشرعت أخلع ملابسى ولكن شعوراً غريباً اجتاحنى بأن شخصا غريبا مختف فى المسكن، واستفزنى استهتاره، فصحت به أن يسلم نفسه وفتح باب حجرة الاستقبال، وبرز رجل لم أر مثيلا فى مساحته وقوته وقال بهدوء وسخرية “سلم أنت نفسك”.
وملكنى إحساس بالعجز والخوف وأيقنت أن ضربة واحدة من يده كفيلة بسحقى تماما أما هو فأمرنى بتسليمه محفظتى ومعطفى وكان المعطف يهمنى أكثر ولكنى لم أتردد إلا قليلا وسلمته المعطف والمحفظة.. ودفعنى فألقانى أرضا. ولما قمت كان قد اختفى وتساءلت هل أنادى وأستغيث
ولكن ما حدث مهين ومخجل وسيجعلنى نادرة ونكتة فلم أفعل.
وفكرت فى الذهاب إلى القسم ولكن ضابط المباحث كان من أصحابى وستذاع الفضيحة بطريقة أو بأخرى
وقررت الصمت ولكنى لم أسلم من الوساوس.
وخفت أن أقابل اللص فى مكان ما وهو يسير هانئا بمعطفى، ونقودى.
القراءة:
هل يا ترى الدنيا كانت انقلبت إلى عالم الداخل عند نجيب محفوظ، بعد أن أغلقت نوافذ وبوابات الخارج، إلا من صياح وظلال محبيه ومريديه وهى تعلو لتخترق ستائر الحواس السميكة؟ هل أصبح بيته هو داخل ذاته، وناسه – مادة إبداعه- هم تشكيلات عالمه الداخلى أساسا؟ هل هذا هو ما يستدرجنى إلى قراءة معظم أحلامه داخل الذات أكثر منها خارجها، فأرى المنزل الرحم، وأرى تعدد الذوات بدلا من واقع الشخوص..؟
يتكرر الرجوع إلى “المنزل” حتى الآن بشكل قد يشير إلى اتجاه حركة غالبة فى كثير من الأحلام ربما نعود لرصدها حين تكتمل الدراسة.
حتى الآن، وبداية من الحلم الثالث نتابع حركية “الرجوع” “الحنين” باستمرار: فى “حلم (3)” رجع الراوى إلى شقته وأخطأ فيها، ثم فى “حلم (5)” رجع إلى مسكنه بعد أن ضاق بسيرك الخارج وتاقت نفسى للرجوع إلى مسكنى فإذا بالبلياتشو يستقبله مقهقها، وفى “حلم (7)” كانت غايته البادئة “أريد العودة إلى بيتى على الرغم من أنه لا ينتظرنى أحد”، وفى “حلم (8)” برغم أنه غادرالشقة هربا من امتلائها دهانا وربكة حتى الشعور بالطرد، راح يقول لنفسه وهو يغادرها، “.. وأنا أشعر بأننى لن أرجع إليها مدى عمرى”، هذا الشعور نفسه هو حنين إلى البيت وأسف على تركه.
فى بداية هذا الحلم الحالى نراه يرجع إلى بيته مهرولا احتماء من أمطار شديدة هطلت على أحياء تواصلت حتى تداخل المكان فى بعضه البعض. لم يؤمّنه أبداً – حتى الآن – هذا الرجوع، أو الرغبة فى الرجوع، أو الحسرة على احتمال عدم الرجوع
البيت يلوّح ، ينادى باعتباره ملاذا واعدا،
لكنه فى نفس الوقت يتبين أنه: إما خاليا أو غريبا، أو مفقودا، أو مختنقا بالفوضى.
هنا – فى هذا الحلم – كان البيت “محتلا”: لكن شعورا غريبا اجتاحتى بأن شخصا غريبا مختفٍ فى المسكن.
البيت هنا – كما فى كثير من الأحلام وقد أوضحنا ذلك- هو الداخل، أعنى النفس من الداخل، أو النوم، أو النزوع للرجوع إلى الرحم – كما ذكرنا– وأى من ذلك إنما يمثل أحد ذراعَىْ “برنامج رحلة الذهاب والعودة”، أحد قواعد حركية النمو، وله تجليات مختلفة أهمها النوم، دعاء النوم فى الإسلام يقول بأن النوم “مشروع موت صغير”، وأن الاستيقاظ هو البعث منه، وهو متروك بين يدى الله، هذه الحركية تجعل النوم قبرا مؤقتا، والقبر هو الرحم أيضا.
العودة إلى الداخل (الذات/البيت/الرحم) تتم باعتبارها ملاذنا ومأوانا ومأمننا الذى يمكننا أن نلملم فيه أنفسنا ونعيد ترتيب ذواتنا لنقوم من جديد، هذا الداخل الذى نتصوره أنه ينتظرنا فاتحاً ذراعيه ليس خاليا، الحقيقة أننا لسنا إلا واجهة لمن يشغله فعلا دون استئذاننا
نحن نعرف بعض ساكنيه ولا نعرف أغلبهم،
الرجل الذى كان يحتل المنزل لم يكن غريبا إلا لأن صاحبنا يكتشفه لأول مرة كما يكتشف أنه الأقوى، وأنه الاصل، وأنه قادر ان يستولى على كل شئ، بل وأن به من الجسارة مايسمح له أن يعلن فضيحة ضعف وخيبة هذا الذى ظن أنه صاحب البيت، وأنه قادر على طرد من سواه، مع أنه هو فى النهاية الضحية التى سُرِقَتْ، فالأفضل أن يكتم على الخبر، وأن يواصل الحياة بظاهره، لكن حتى ظاهره وهو ما يهمه أكثر (وكان المعطف يهمنى أكثر) سُرِقَ منه.
مع رفع الغطاء عن الداخل تتحول الأحوال: فيسير بين الناس كأنه هو، مع أنه ليس تماما كذلك، ليس كما كان قبل أن يحدث ما حدث.
يبدو أنه حتى الرقيب الذى عليه أن يطبق القانون، (ضابط المباحث) أصبح مصدر تهديد لاحتمال أن يبوح بالسر، فيعرف الناس أن ذلك “الظاهر” لم يكن إلا معطفا أو قناعا بلا حول ولا قوة
وآه لو اكتشف الناس أن الآخر شبهه تماما، أنه هو، فماذا يتبقى منه، بل آه لو اكتشف هو أنه ليس هو، لو قابل الآخر يسير هانئا بمعطفه ونقوده! وأنه حتى بعد أن انهزم، ليس متفردا حتى بقناعة!! (معطفه) وأنه لا يملك من أمره شيئا (نقوده).
الحلم (18)
.. وتم مجلسنا على الجانبين فى القارب البخارى بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالأخرين، وجاء الملاح ودار الموتور. الملاح فتاة جميلة. ارتعش لمرآها قلبى. اطلت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب، وركزت عينى رأسى فى رأسها النبيل وهى تمرق بنا فى النهر، وتتناغم خفقات قلبى مع دفقات النسيم وفكرت أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لى.
لكنى وجدت نفسى فى شارع شعبى لعله الغورية وهو مكتظ بالخلق فى مولد الحسين ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند إحدى المنعطفات فصممت على اللحاق بها.
وحيا فريق من المنشدين الحسين الشهيد.
وسرعان ما رجعت الى مجلسى فى القارب وكان قد توغل فى النهر شوطا طويلا.. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيت ملاحا عجوزا متجهم الوجه. ونظرت حولى لأسأل عن الجميلة الغائبة ولكنى لم أر إلا مقاعد خالية.
وقمت لاسأل العجوز عن الجميلة الغائبة.
القراءة
كما لاحظنا -حتى الآن – كيف تتكسر الحواجز باستمرار فى هذه الأحلام، كسرت حتى الآن حواجز الزمن (الماضى والحاضر) “حلم (2)” كسر الحاجز بين الموت والحياة، “حلم (14)” بين الحاضر والغائب، “حلم (13)” بين الخيال والواقع، “حلم (5)” فى هذا الحلم ينكسر الحاجز بين الماء واليابسة، بين النهر والحارة، بين “القارب البخارى تقوده الملاحة الجميلة”، وشارع الغورية
لكن قبل ذلك، قبل أن يجد نفسه فى شارع الغورية (غالبا) وهو بعد فى القارب كانت الملاحة (فى نفس الوقت) تطل عليه من النافذة وهو تحت الشجرة، ثم يحدد أننا فى بدايات رحلة الحياة بين الصبا ومطلع الشباب، وليس فى بداية النهار أو بداية دخول الليل مثلا، (خلّ بالك) وهى فى نفس الوقت تمرق به فى حين أنه يسير إليها، قد يكون سيره فى المركب يعنى أنه يعبر على سطحه إلى مركز القيادة حيث الملاحة، أو يكون سيره فى الشارع استجابة لنداء طلّتها من النافذة، برغم أنها تمرق بهم النهر فى نفس الوقت.
فى الشارع الشعبى فى الغورية تلوح له الملاحة الجميلة أيضا.
فتاته – حتى الآن – تلوح له فيتبعها حلم (2) تنظر إليه فيلحقها الحلم (7) تختفى منه فيبحث عنها حلم (2)، هنا أيضا: فى شارع لعله بالغورية، يلمحها، فيصمم على اللحاق بها.
(تحية الحسين الشهيد ليست بالضرورة إشارة إلى موته عطشا (إليها)، ولكن يمكن أن تكون كذلك).
مع الرجوع إلى إزالة هذه الحواجز نجد الراوى فى القارب من جديد، بعد أن ضاعت منه الملاحة الجميلة، وكأنه لم يترك القارب (الرحم أيضا) إلا ليفقدها، حل محلها ملاح عجوز،
هكذا ضاع العمر دون أن يولد بعد،
هو مازال فى القارب الذى كان الرحم، وهو هو القبر
كان رحما يعِدُ بالولادة حين كانت الأم هى التى تقوده، مع وجود آخرين على الجانبين فى المركب، إلا أنهم كانوا كل واحد منغلق على نفسه ولا علاقة له بالآخرين، – الموقف الشيزيدى – (أنظر حلم 16)
ثم نجد المركب فى النهاية يقودها عجوز وقد عادت خاوية، وقد أصبحت الرحم القبر،
وكأن الراوى فشل فى رحلة الحياة حين عجز أن يمارس حركية العلاقة بالآخر، (بالموضوع) على الرغم مما لاح له من وعود.
يظل النداء قائما، والحياة مشروعا، والجميلة واعدة لكنها اختفت لتظل دائما أمنية فى الصدر
وقمت لأسال العجوز عن الجميلة الغائبة.