نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-9-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5138
من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس”(1)
(مرورا بالعلاج الجمعى)
الفصل الأول
ملامح المنهج، والتعريف بالحالة (5 من ؟)
مقدمة:
انتهت الحلقة السابقة بحوار يلمس الامراضية (السيكوباثولوجى التركيبية) ويرجع الهلاوس أو الصور المرئية إلى داخل النفس بدلا من استقبالها من الخارج بعد أن حكى محمد عن صوت أمرأة “بتتكلم عليّا” هكذا:
المريض: بقيت اسمع صوت واحدة ست بتتكلم عليّا، وساعات تطلع أصوات مش هيّا، باسمعها فى ودانى
د. يحيى: وإيه يعنى؟ ما هو برضه الواحد ممكن يسمع بودانه من جوه، شغلانة يعنى، مش الودان متوصلة لجوّة برضه؟
محمد: لأ من بره.
د. يحيى: ماهو الصوت ممكن ييجى من جوه، بس بتسمعه من بره حتى لو أصله جوه، على فكرة: هيّا الواحدة، الست، اللى بتسمع صوتها دى اسمها إيه؟
* نلاحظ أنه من المقابلة الأولى والطبيب يحاول أن يوصل للمريض ماهية “الواقع الداخلى”، وأن له دوره وشخوصه التى لا وسيلة لرصدها كما هى فى الداخل، فُنـُجـَسـِّمها فى الخارج، هذا علما بأننى لا أعتبر هذا مجرد حيلة نفسيه (ميكانزم: “إسقاط”)، وإنما أرصُدهُ وأتعامل معه كواقع آخر، حتى لا نخطىء فى تهميشه أو تجريده، وأحاول توصيل هذه المعلومة كحقيقة للمريض بصبر وإصرار، وهى عادة تصل إليه أكثر من الشخص العادى لو لم نتمادَ فى النقاش والشرح بالألفاظ، هى تصل للمريض أكثر – كما قلنا- مما تصل إلى الشخص العادى بما فى ذلك الكثير من الأطباء.
محمد: إسمها إزاى؟ إيش عرفنى
د. يحيى: ما دام هى واحدة ست، يبقى لها اسم، إيه رأيك تيجى نِسَمـِّيها.
ونواصل اليوم:
محمد: أنا اللى أقول إسمها إيه!!!؟
د. يحيى: أيوه يا أخى إسمها إيه؟ يا اللا نسميها، هوّا فيه واحدة تقول الكلام ده، وتعمل العمايل دى وما يبقاش لها إسم ، إسمها إيه؟
محمد: أى إسم وخلاص.
د. يحيى: إديها اسم
محمد: هالة.
د. يحيى: عندها كام سنة
محمد: 35
د. يحيى : بيضا ولاّ سمرا
محمد: بيضة
د. يحيى: شفت ازاى! أديك قدرت تشوفها جوّة، وإن اسمها هالة، وإنها بيضا
* لم أكن أعرف قبل هذا “التفريغ” أن هذا النوع من التعيين (2)، هو نوع من تحريك الإبداع التجسيدى، أكثر منه خيال تجريدى، وأنه يمكن توظيفه فى المساعدة على أن يوصِّل نفس الرسالة العلاجية (أعنى تجسيد الداخل واقعا فعليا) بهذه الصورة المتعينة، التى يمكن أن تكون لها علاقة ببعض أنواع السيكودراما التى نمارسها فى العلاج الجمعى، بل لعل لها ما يقابلها أيضا فيما يقوم به الطب الشعبى، لكنه يضعها “كائنا” فى الخارج ويسميها “جان”، أو “لبس”، أو “أسياد”…الخ، فى حين انها تـُقَدَّمُ هنا على أنها “كيان” داخلى ضمن التركيب البشرى النيوروبيولوجى، كمستوى وعى قائم فى داخلنا، وبالتالى يمكن تحريكه بالعلاج إلى المشاركة فى جدل غائىّ ابداعى إلى وعى أشمل، عبر وعى بينشخص، إلى وعى جمعى …إلى ما بعده!
د. يحيى: اتفقنا: يبقى اسمها هالة، وبيضة، طب تسمح لى أغششك تغشيشة صغيرة، ماتيالا نخليها جوّة ونسمع صوتها من برّة.
محمد: يعنى إيه تبقى هىّ جوه بس الصوت جاى من بره؟
د. يحيى: ما هى تغشيشة والسلام، أنا ما باحاولشى أقنعك، بس يجوز تنفع.
محمد: آه، بقى كده!!؟
د. يحيى: إيه رأيك ينفع؟!
محمد: ينفع.
د. يحيى: إيه ده!!؟ هوّا إيه إللى ينفع؟ هوّا انا كل ما أقول حاجة صعبة تاخدنى على قد عقلى. هوّا إيه هو اللى ينفع؟
* يلاحظ هنا نوع الحوار الجارى، الذى يشمل احترام عدم الفهم، والبعد عن أى إقناع منطقى، وتبادل الأدوار تلقائيا، وكأن هناك حوارا موازيا يجرى بجوار هذا الحوار الظاهر يصل بين المتحاورين ليوصل رسالةً ما، مهما كانت غير واضحة، وقد وصلنى ذلك أساسا من خبرتى فى العلاج الجمعى (3)، حين نؤكد لبعضنا البعض أننا “بنشتغل فى اللى مش فاهمينه”، وأيضا ” بنشتغل فى اللى مش عارفينه”، ثم نواصل التواصل دون توقف حتى خطر لى أن أسمى هذا التكنيك “الحوار الموازى”.
محمد: أنا كنت عايز أقعد معاك كده لوحدنا، أحسن.
د. يحيى: تقعد معايا لوحدنا؟!!
محمد: آه
د. يحيى: ليه بقى،”تشربنى حاجة أصفرا”، (ضحك) لا ياعم!
محمد : مش قصدى
د.يحيى: ما هو طبعا مش قصدك، ما انت عارف أنى باهزّر بس الدكاترة دول لمّا يشاركونا حايساعدوا فى العلاج
محمد: يا ريت
د. يحيى: شوف يا ابنى: ربنا أتاح لك الفرصة دى.
محمد: ما أنا عايز أتكلم والكلام مش مجمّع معايا خالص.
* مرة أخرى، وللزملاء الأصغر خاصة: عليهم ألا يأخذوا ألفاظ المريض بما تعنى حرفيا، فقوله: “الكلام مش مجمّع معايا خالص” لا يعنى بشكل مباشر أنه يعانى من تفكك الكلام أو اللا ترابطIncoherence فكما نلاحظ أنه يواصل الحوار بمنتهى الدقة والتسلسل، ومع ذلك فإن إعلانه ذلك يشير إلى وصف حركية الداخل فى نفس الوقت، أكثر مما يشير إلى اضطرابات مجرى الكلام أو القدرة على تشكيل التفكير المعلن فعلاً، وبالتالى فإن هذا الوصف لا يعنى إطلاقا ما يسمى “الاضطراب الجوهرى للتفكير” Formal Thought Disorder
د. يحيى: المسألة مش مجرد كلام، الكلام خطوه نِطْلع منها بحاجة سوا سوا، إنت بتجتهد بتجتهد، أنا شايفك بتجتهد معايا عالآخر، يعنى إنت جدع والله العظيم، إنما إن ماكـُـنـِـتـْـشْ تقوم من الكسرة دى هاتبقى النهاية سودا ولا مؤاخذة.
محمد: لأ
د. يحيى: لأ إيه؟
محمد: مش عايزها تبقى كده،
د. يحيى: يبقى ياللا سوا سوا،
محمد : سوا سوا مين؟
د.يحيى: انا والدكتور هشام وانت وكلنا
المريض: لأ، أنا حاسس إنى لوحدى
د. يحيى: عندك حق، بس الفرصة دى ربنا بعتها لك عشان ما تبقاش لوحدك
محمد: تهيؤات برضه؟ حاتقولوا تهيؤات!
د. يحيى: هوا انا سبق قلت لك إن اللى عندك ده تهيؤات، دَانـَا باقولك إنه موجود، بس جواك مش برّاك، آدى كل الحكاية، على فكرة الفرصة إللى ربنا إداها لك دى، ربنا حايحاسبنى ويحاسبك عليها، مش هايحاسبك لوحدك، ولو الدكتور هشام خد باله حايحاسبه برضه، وحتى لو ما خدشى باله.
* إن توصيل مثل هذه الرسائل بهذه اللغة ليس له أى بعد دينى تقليدى مباشر، إلا أنه مفيد جدا فى ثقافتنا خاصة، وهو يفيد الطبيب كما يفيد المريض، فهذا التجمع المشترك لحمل المسئولية معا، هو أساس الوعى البينشخصى، ثم الوعى الجمعى، ضمن الوعى الإيمانى الشعبى، ومشاركة المريض فيه على قدم المساواة مع المعالجين، هو أيضا أساس العلاج عامة والعلاج الجمعى وعلاج الوسط خاصة المستبصر بحفز مسيرة النمو (4) فى مجتمعنا هذا على الأقل.
محمد: أنا تعبت.
د. يحيى: من إيه؟
محمد: من الصوت ده
د. يحيى: يخرب بيتك إحنا بنتكلم فى إيه ولاّ فى إيه، طب نرجع واحدة واحدة، هوّا الصوت جوه ولا بره؟
محمد: بره
د. يحيى: طيب بره، إنما هيّا فين؟
محمد: مش فاهم السؤال.
د. يحيى: إنشاله مافهمت رُدّ وخلاص،
محمد: هيّا مين؟
د.يحيى : هيّا “هالة”
محمد: هالة مين
د. يحيى: مش انت اللى سميّتها هالة! إللى بتطلـّع الصوت.
محمد: مش عارف، ما هو الصوت…
د. يحيى (مقاطعا): يا سيدى مابنتكلمش على الصوت بنتكلم على الست دى، الست هالة، جوه ولا بره؟
محمد: أنا باسمع صوت، وخلاص،
د. يحيى: أنا عارف إنك بتسمع صوت واحدة ست، هوّا أى صوت واحدة ست هايطلع منين؟! من خرم صفارة!! ماهو طالع من واحدة ست وانت وصفتها، وقلت إن عندها 35 سنة وبيضة واسمها هالة، تبقى جوه ولا بره؟
محمد: مش فاهم
د. يحيى: ما تخلنيش أقولك إنشاله مافهمت تانى، جاوب وإنت مش فاهم، جوه ولاّ بره؟
* مرة أخرى: لاحظ الاستمرار مع عدم الفهم، بمعنى أن إعلان عدم الفهم ليس بالضرورة دليلا عى عدم الفهم، أو الأصح عدم الإدراك.
محمد: الصوت ده أنا باسمعه من بره.
د. يحيى: من بره فين؟
محمد: ما أنا مش فاهم السؤال.
د. يحيى: لأنك مركّز على الصوت مش على مصدره.
محمد: طبْ ما نسيبنا من مصدره ده
د. يحيى: نسيب إيه!، ماهى ست، وبتقول أصوات، نسيبها ونروح فين، علشان تستفرد بيك تانى فى الأودة وتقول لك موّت نفسك، إحنا حانلصّم، ، إنت مش نـَقـَّاشْ!
محمد: آه نَقـَّاشْ.
د. يحيى: لما بيكون فيه شق فى الحيطة تبيّض عليه كده وخلاص.
محمد: لأ بنأفـّله،.. بنقفـَّله معجون الأول
د. يحيى: إفرض إن هو فارق، مسافة يعنى مش يبقى عايزتحبّشة بحاجات كده.
محمد: الكلام ده لما يكون الفلق كبير، بنعملـّه جبس.
د. يحيى: وساعات ماينفعش لما تكون الأرض مريحّة.
محمد: فعلا.
د. يحيى: تحط جبس ماتحط جبس ترييح الأرض يرجع يشرخ تانى
* نلاحظ كيف يجرى الحديث بلغة المريض، وفى صلب حرفته ومصطلحات مهنته.
محمد: صحيح ممكن يشرخ تانى، ماهو بيبان، بس بندى وش بوية الأول عليه لوفتح تانى بنغمّضة معجون.
د. يحيى: يعنى إيه بنغمّضه؟
محمد: يعنى زى ما تكون بتغمض عينك، كنت فاكرحاجات كتير فى صنعتى، كانت الصنايعية يحبونى، كانوا مسمينى “محمد “طربقها”
د. يحيى: محمد إِيه؟
محمد: محمد “طْربَقْها”
د. يحيى: يعنى إيه ؟
…………….
(ثم نكمل غدًا)
[1] – يحيى الرخاوى “من حركية الجنون إلى رحاب الناس .. (مرور بالعلاج الجمعى)” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)
[2] – من العيانية Concretization
[3] – يمكن مراجعة لعبة “يا خبر دا انا لمّا مابهمشى يمكن…..(أكمل)، وأيضا لعبة: “دا انا لو أقول كلام من غير كلام ……”(أكمل) www.rakhawy.net
[4] – Growth Oriented Therapy
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف : ثم نواصل التواصل دون توقف حتى خطر لى أن أسمى هذا التكنيك “الحوار الموازى”.
التعليق : أكتب حاليا بحثا خاصا ،بعنوان ” التكنيك فى مدرسة الرخاوى ” ألتقط فيه كل ما يمكن صياغته كخطوات عملية تؤديها حضرتك فى العملية العلاجية ،وقد اعتبرت هذا المقتطف هدية لبحثى هذا ،وسوف أتتبعه فى مؤلفات حضرتك ،بالإضاقة إلى ما ألتقطه من حضورك المباشر لأصيغ الكل تحت عنوان :” تكنيك الحوار الموازى ” وذلك ضمن مبحث مستقل عن ” تعدد قنوات التواصل “
شكراً يا د. ماجدة
علماً – بعد إذنك- أنه ليس لى خطوات عملية خاصة، بقدر ما أننى أحاول تنمية قدراتى الطبيعية للتصالح مع “ربى كما خلقتنى” والكف عن تشويه: فطرة الله التي فطر الناس عليها، تشويها: بالخوف والطمع وما شابه!
شكراً، وحذار من : واحد – اتنين – ثلاثة
برغم ضروتهم!!
صباح الخير يا مولانا :
المقتطف : …فى حين انها تـُقَدَّمُ هنا على أنها “كيان” داخلى ضمن التركيب البشرى النيوروبيولوجى، كمستوى وعى قائم فى داخلنا، وبالتالى يمكن تحريكه بالعلاج إلى المشاركة فى جدل غائىّ ابداعى إلى وعى أشمل، عبر وعى بينشخص، إلى وعى جمعى …إلى ما بعده!
التعليق : هذه الجزئية من أصعب المسائل فى مدرسة الرخاوى ،لكنها تبدو لى هنا ، من أجداها وأنفعها ،إذا استطعنا استخدامها بمهارة وحرفية وبوعى يليق بها ،لكن للأسف لا أعرف كيف يكون ذلك ؟ هل يمكن أن تعيد حضرتك صياغتها بشكل جديد يمكننا من التعامل معها كتكنيك محدد وواضح ؟
عليك نور:
“المهارة، وحرفية وبوعى يليق بها …!!
لكن هذا يتنافى – من واقع ما أتصور – أن عندى “تكنيك محدد واضح”،
أحسب أن كل ما عندى هو موقف قوى، وتوجـّه داعم، وأحسب أن هذا يغنى بعون العزيز الحكيم.