الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى (1) “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق”: الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ

من كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى (1) “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق”: الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 6-9-2020

السنة الرابعة عشرة

العدد:  4754

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى (1)

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق (1)

الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ

أولاً: إختيار البحث

إن الطب النفسى الوصفى لم يزدهر إلا من خلال بعدين أساسيين:

                  أولا: تنمية الحدس الإكلينيكى، وثانيا: الوصف التسجيلى الأمين

… وبالتالى ينبغى أن يكون البحث العلمى فى فرعنا هذا ملتزماً أساساً بهذين البعدين، لا حكراً على تعداد الأرقام أو وفرة الأعداد (وإن كان لا غنى له عنهما).. وإنما يتحقق هذا الالتزام بالعمل على إعداد باحث أمين .. وتحديد فرض عامل .. وتسجيل ملاحظة يقظة. ثم بعد ذلك يأتى التفسير وإعادة التفسير وإعادة تفسير التفسير.. الخ، فمرحلة التفسير مفتوحة دائماً وإلى أبعد مدى.

وبديهى أن هذا الاتجاه الإكلينيكى الذى أحاول أن أؤكده بإلحاح، يكاد يصل إلى حد الإملال، ليس بديلا عن الأبحاث السلوكية المفصلة .. ولكنه الأصل دائما.

هذا البحث هو من نوع تسجيل الملاحظات أساساً ثم تفسيرها، وهو يعلن ضمناً أن إلزام إعادة التجربة مرفوض فى مجالنا هذا لأنه مستحيل، وأن العينة الضابطة مرفوضة أيضاً لأنها تكاد تكون خدعة، فالإنسان كائن فريد ليس كمثله آخر، وهو كائن متغير بالضرورة، متطور (أو متدهور بطبيعته)، هادفٌ واعٍ..، وقد أكدت هذه المقولات التى تعطى لعملنا وضعاً فريداً ضرورة البحث عن منهج للبحث العلمى خاص به، وقد تصاعد رفض فكرة “إعادة التجربة” و”العينة الضابطة” حتى أنى علمت مؤخراً أن آباء التداوى بالعقاقير النفسية فى معمل السيكوفارما كولوجى فى باريس (تحت رئاسة الأستاذ الدكتور “دينيكير” .. ومن قبله “ديلاى” مكتشفى عقار اللارجا كتيل) قد أعلنوا رفض إلحاح شركات الأدوية على الالتزام بهذه البدعة السخفية وهى بدعة “العينة الضابطة”..، فإذا كان ذلك فى مجال تقييم آثار العقاقير الفارماكولوجية، فهو أهم وأصدق فى مجال ملاحظة السلوك الإنسانى وتحديد قواه وتفسير جوانبه فى واقع الممارسة الإكلينيكية.. ومن ضمنها العلاج النفسى عامة، والعلاج الجمعى بشكل خاص.

 ولكن هذا البحث أيضا يحاول – كما أعلن من ضمن أهدافه – تقييم طريقة ما فى العلاج النفسى، ويبدو أنه اثار بطريقة غير مباشرة: أننا ونحن فى سبيلنا إلى البحث والتحرى والتقدير لابد وأن نعرف “ماذا” نقيس، قبل أن نتناقش فى “كم” نقيس، فكثير من الأبحاث والآراء والنقد والتقييم يدور حول كمّ شئ لم تتحدد معامله تماما ولا نهائيا، فهى دراسات تجرى عادة  لتجميع تلك الأبحاث المقارنة لتفضيل نوع معين من العلاج على نوع آخر(!!) إن أى ممارس للعلاج النفسى بأى درجة من الصدق أو العمق، يعرف ماذا تعنى كلمة “تقييم” لما يفعل، فإذا كان مصدر التقييم هو المريض: فدفاعاته قد تكون هى الحكم الأول وربما الأخير، ففى الوقت الذى قد يعتبر المريض نفسه قد “شفى والحمد لله” قد يضع المعالج يده على قلبه إذ هو يعرف تماماً أن المريض قد يكون بهذا هارباً إلى “مظهر الصحة” خوفاً من مخاطر التغيير، فهذا المريض الذى سنأخذ إجابته لصالح العلاج قد نجد طبيبه أحيانا – إن كان يقظا – يتحسب لاحتمال  نكسة صريحة (بعودة الأعراض) أو نكسة خفية (بانحدار مستوى تكيفه ونبضه العاطفى وإبداعه واختراقه للحياة).

أنتهـِى إلى القول أننا إذا قلنا أن هذا النوع من العلاج أفضل من ذاك النوع دون أن نحدد بالقوة المكبرة معنى “أفضل“، وما هو الهدف من المسيرة العلاجية (ومن الحياة) نكون قد وقعنا فى مزلق استعمال أساليب علمية (بل شبه علمية) لتبرير جمود لاحضارى دون وعى أو مسئولية، ولعل كل من يقيـّـم طريقة للعلاج من هذا النوع بهذا الأسلوب يندرج إما تحت لافتة “المريدين” أو لافتة “الخائفين” (راجع الحماس للتحليل النفسى من المريدين، والهجوم عليه من الخائفين)، ومن هنا بدأ اعتراضى الأول على القائم بهذا البحث حين عرض علىّ فكرة البحث وخاصة أنه كان بشأن اختياره كجزء لازم للتقدم للحصول على درجة الماجستير … ومعنى ذلك أنه سيـُـقدم إلى جهة رسمية، للحصول على إجازة رسمية، فى وقت محدد…

وقد حاولت – لذلك – أن أثنى الباحث عن عزمه مراراً – رغم رغبتى الحقيقية فى أن يصرّ على المغامرة – إلا أنه وحده دون جميع المجتمعين أصر على خوض التجربة، وكانت ذريعته حينئذاك “.. لابد أن أكون واضحاً مع نفسى، ومحدداً فى اختيارى، ومنذ البداية ..، وما دمت قد اخترت هذا المجال مهنة وطريق معرفة .. فليكن بحثى فى مجالى دون تلكؤ…” ولا أنكر أنى قد تخوفـت من هذه اللهجة الواضحة المتحمسة، ولكن ما أثنانى عن الحيلولة الفعلية دون قيامه بالبحث هو ما تذكرته من حماسى فى أول شبابى العلمى تحت إشراف أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر حين كان أول بحث قمت به هو “تبريد مرضى الفصام” حوالى عشر درجات مئوية بما يحمل ذلك من مخاطر عضوية جسيمة، ومرت التجربة بسلامة وفائدة وإنارة، وها هو تلميذ لى يكرر هذا الحماس بما يحمل من مخاطر المواجهة العنيفة.. ليس فى داخل المرضى فحسب، بل فى داخل المعالج والباحث نفسه، إذ أن الجرعة البصيرية اللازمة لإجراء مثل هذا البحث بأمانة كانت فى تقديرى أكبر من احتمال شاب فى مستهل حياته، لكل هذا تماديت فى محاولة إثنائه عن عزمه كما تمادى زملاؤه فى نفس الاتجاه.. إلا أنه مضى فى إصراره، وحين يصر شاب على أمر قابل للاختبار فإنى لابد أن أرضخ، ذلك لأن إصراره يزيد مسئوليته عن نتائج محاولته، ثم إنه يتيح لى – ولنا – من خلال ذلك فرصة التجربة رغم المحاذير المبدئية الموضوعية، .. إلا أن رضوخى كان مهزوزاً، فقد عدت فترددت مرة أخرى حين أمعنت النظر فى تفاصيل البحث الذى سيقوم به، حيث أنى “شخصياً” من ضمن مادة بحثه، فأنا المعالج الذى يجرى عليه البحث مثله مثل المرضى وهو المعالج المساعد، وفى نفس الوقت أنا المشرف على نفس البحث .. والأدهى من ذلك فأنا أستاذ الطالب، ليس فقط فى مجال البحث بل وفى غير ذلك من المجالات، فضلا عن بعد رابع أهم وأخطر وهو العلاقة الوجدانية التى تربطنى بالباحث وتربطه بى .. سلبا وإيجاباً، بوعى أو بغير ذلك، فكيف بالله أتصور لبحث أقوم فيه بكل هذه الأدوار مجتمعة أن يقترب بدرجة كافية من الموضوعية..؟!

وقد عرضت مخاوفى – ثانية بعد بداية البحث – على الباحث وزملائه، وأصر الباحث أن يكمل الطريق الذى اختاره ليعلن للناس، وأهل العلم، ومحبى المعرفة ما يرى ويتصور أنه لازم أن يقال : إذْ يوصّـل لهم رؤيته بكل مالها وما عليها، وتمادى فى ذلك متهماً إياى أنى لو استمررت على هذا التردد فقد تبدأ مثل هذه التجربة العلاجية معى، وتموت معى .. إما بموتى أو بيأسى وعجزى، وكنت أحس من خلال مناقشاتنا أنهم يرون – كما أرى – فيما يجرى شيئاً جديداً، وأنى أحمل أمانة ينبغى أن تؤدَّى إلى أهلها –الناس والعلم– باللغة المشتركة … وبإعلان الجارى بالقدر الموضوعى الممكن، .. وليس بالاستسهال الهروبى الجزئى، ولا أنكر أن كل هذا قد أدخل الطمأنينة إلى قلبى .. ليس بالنسبة لهذه التجربة فحسب، بل بالنسبة لبقية أفكارى التى اختلطت بلحمى ودمى ولم يُؤذن لها فى الخروج إلى الكافة بعد …، وإنما أختصُّ بها مـَـنْ حولى فى مجالات التدريب والإشراف والدراسات العليا والبحث فحسب، وتذكرت أمثلة فى التاريخ – تاريخ علمنا – مثل هارى ستاك سوليفان، وأدولف ماير … إذ  لم يكتـُبُ أىٌّ منهما أفكاره مباشرة فى الأغلب، وإنما نقل تلاميذ كل منهما أغلب نظرياته وفكره.. وقلت لنفسى فى خبث من يبالغ فى قدر نفسه: لعل فكرك الذى هو زاوية رؤيتك للحقيقة لن يموت بموتك .. أو حتى عجزك .. أو يأسك.

 هكذا، أصر الباحث على القيام بالبحث الذى اختاره، وقاومته بالقدر الذى استطعت به أن ألجم موافقتى الداخلية، وانتصر هو و”داخلى” على مخاوفى وحساباتى .. وبدأ البحث .. لأعتبره – كما سأخلـُص فى النهاية – أنه ليس تقييما موضوعياً لطريقة علاج بذاتها (الأمر الذى أوضحت استحالته لأى طريقة .. كما سأزيد ذلك تفصيلاً)، وإنما هو وصف لما يجرى فى محاولة علاجية جديدة .. ليشمل هذا الوصف ما يجرى خارجنا، وما يجرى داخل وعى الباحثين فى نفس الوقت، بدرجة مختلطة إذ لا يمكن فصلهما عن بعضهما .. (وسوف أرجع إلى هذه النقطة بالتفصيل حين أتناول طريقة البحث).

وقد تصورت – وأمِلت – أن يكون لهذا البحث بالإضافة إلى ما أعلن من أهداف محددة – فوائد علمية أخرى منها على حد تقديرى:

1- أننا قد نتشجع ونتغلب على مرحلة أخرى من الشعور بالنقص لنثبت لأنفسنا أولا، وللعالم من حولنا، ثم ربما للعالم أجمع،  أننا لسنا اقل من غيرنا، وأن الفكر المصرى والطب النفسى المصرى لهما أصالتهما ومكانهما فى مسيرة العلم والمعرفة، ثم ها نحن كمصريين ندلى بما عندنا فى العلاج النفسى فى أحدث صوره المعاصره – “العلاج الجمعى” – دون تردد.

2- أن يثق شباب الباحثين عندنا فى أن البحث العلمى بمعناه الأخلاقى والإبداعى معاً، ممكن ومتاح، وأن حكمة البحث العلمى ليست حكراً على الفكر المغترب، أو على الدفاع ضد إثارة الشكوك حول الباحث كأداة بحث، وأن نضرب لهم مثلاً حياً يشير إلى أن الأداة البشرية – على قصورها– قادرة على البحث والملاحظة والاستدلال وعلى الإسهام فى توضيح جانب من جوانب الحقيقة.

3- أن نحدد – بحثاً وتدويناً – بعض معالم ذواتنا بعيوبها ومزاياها، بحيث نستطيع أن نتبادلها – محددة – مع الآخرين، فى كل مجالات العلم فى الداخل والخارج، فيتعرفوا علينا من خلالها – لا من خلال تصوراتهم -، وينقدونا من واقعها فنتحول ونتطور ونسابق من خلال الاحتكاك والمناقشة، وبالتالى نكون قد تخطينا مرحلة النقل والتقليد إلى مرحلة الاحتكاك والحوار.

……………..
ونعرض الأسبوع القادم: “ثانياً: تاريخ التجربة”

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *