الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق”: الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ (2)

من كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق”: الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 13-9-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4761

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى (1)

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق” (1)

الفصل الأول: معالم أساسية، وتاريخ:   أولاً: “إختيار البحث” (2) 

……………………..

ثانياً: تاريخ التجربة

أما بالنسبة لموضوع البحث وهو “العلاج الجمعى: دراسة اتجاه مصرى” فإن له قصة طويلة معى لا أعتقد أن هذا مجال ذكرها تفصيلاً – وقد أرجع إليها حين أكتب بنفسى – إذا قدر لى – عن العلاج الجمعى من واقع خبرتى (3)  ووجهة نظرى، ولكنى هنا لابد أن أسرد تاريخاً قصيراً ألمَح إليه الباحث فى بضع سطور حين عرج على العلاج الجمعى فى مصر.

ولعل فى هذا التاريخ الموجز ما يفسر أن هذا الاتجاه “مصرى”، كما أنه قد يوضح للقارئ كيفية ارتباط علمنا هذا بوجه خاص بذواتنا وتجربتنا وثقافتنا الشخصية.

ويمكن أن أرجع هذه الطريقة العلاجية قيد البحث إلى ثلاث مصادر أساسية:

1- خبرة “شخصية” موازية.

2- خبرة مهنية طويلة فى العلاج النفسى عامةً.

3- بعض القراءات فى الموضوع.

4- أرضية ثقافية خاصة بمجتمعنا بالذات.

لمحة من الخبرة الشخصية:

بدأت التجربة بداية شخصية تماماً حين أردت مع صديق عزيز علىّ جداً أن نرتقى بلقاءاتنا الخاصة من مرحلة “الاتئناس وقتل الوقت” (أو ما يسميه إريك بيرن “لعبة الثرثرة”) إلى مرحلة المساعدة الجادة لبعضنا البعض..، وكانت لدينا الشجاعة حينذاك أن نلتقط الخيط من بعض معاناتنا ..، وبديهى أنه فى مثل هذا الموقف تبدا المجموعة المسماة مجموعة المواجهة Encountor group “المجموعة بلا قائد” Leaderless Group، وكان ذلك فى عام 1971، وتصادف أن ذلك كل قد حدث عقب خبرة الحدْس العلمى الذى أشرت إليه فى كتابى “حيرة طبيب نفسى”، والذى فزعت فيه إلى صديق وزميل (ولم أجده، ثم إلى زوجتى كما ورد فى كتابى حيرة طبيب نفسى  (4)، بما صاحب ذلك من  لهفة ملحة إلى أن أجد من يقبلنى ويصبر على الفكرة الجديدة قبل أن يسارع بالحكم عليها أو علىّ!!

التعليق: (فبراير 2013)

توقفت فجأة، وحاولت أن أتذكر تلك الفكرة الباكرة وكيف ولدت، وهل يا ترى لها علاقة بالعلاج الجمعى، أو على الأقل بهذه الفقرة التى أسميتها “الخبرة الشخصية”، فلم أستطع أن أحدد أية فكرة كانت بالضبط، فقلت أرجع إلى كتابى التى ذكرت فيه “حيرة طبيب نفسى”، فوجدتها تشغل الفصل الأخير على قصره، وتصورت أن من حق القارئ وحقى أن أعرض هذه العينة الباكرة التى يرجع تاريخها إلى أكثر من أربعين سنة، مع أن علاقتها بالعلاج الجمعى تبدو ضعيفة، لكننى حين أعدت قراءتها ، وراجعت ما وصلنى من هذا العلاج، وجدت ارتباطا وثيقا، خاصة وأنها ظهرت سنة 1971، وهى نفس السنة التى بدأت أمارس فيها العلاج الجمعى بانتظام أسبوعى حتى هذه اللحظة (13/9/2020)، قررت الآن برغم مقاومة شديدة خوفا من الاستطرادات التى تنحرف بالمسار أن اثبتها كما جاءت فى هذا الكتاب بالنص دون تغيير حرف واحد، خاصة وأنها تحوى جانبا مهما من علاقتى بالزميل الصديق الكريم أ.د. محمد شعلان، وهو أحد أهم افراد المجموعة التى أشرت إليها حالا، وسأرجع إليها فى حينها.

 ثم قد  أعتذر على حشر هذا الاستطراد  إن لزم الاعتذار.

وها هى ذى :

…..

فى ‏يوم‏ ‏الإثنين‏ ‏الثانى ‏عشر‏ ‏من‏ ‏أبريل‏ ‏الماضى (1971)، ‏وكنت‏ ‏جالسا‏ ‏مع‏ ‏مريض‏ ‏صديق‏ ‏بعيادتى ‏الخاصة‏، ‏أستمع‏ ‏إليه‏ ‏ولا‏ ‏أستمع‏ ‏إليه‏، ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأمور‏ ‏المتناقضة‏ ‏جميعا‏ ‏قد‏ ‏ارتبطت‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏فجأة‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏الأضداد‏ (‏أو‏ ‏معظمها‏) ‏استدارت‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏المواجهة‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏التماسك‏ ‏والتآلف‏، ‏وارتبط‏ ‏الانسان‏ ‏الفرد‏ ‏بالإنسان‏ ‏النوع‏، ‏واستقر‏ ‏الأنا‏ ‏الهارب‏ ‏والأنا‏ ‏الناكص‏ ‏والأنا‏ ‏المنقسم‏ (‏التعابير‏ ‏من‏ ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏الجديد: العلاقة بالموضوع‏) ‏فى ‏قاع‏ ‏خلايا‏ ‏المخ‏، ‏وصعد‏ ‏فرويد‏ ‏إلى ‏أعلى ‏طبقات‏ ‏النفس‏ ‏وأكثزها‏ ‏سطحية‏، ‏وكأن‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏أشرق‏ ‏فجأة‏… ‏وتفاهمت‏ ‏الكيمياء‏ ‏مع‏ ‏الكهرباء‏ ‏مع‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏التطور‏.‏ وتعجبت‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏.. ‏فرحت‏ ‏به‏، ‏وخفت‏ ‏منه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، واتصلت‏ ‏تليفونيا‏ ‏بزميل‏ ‏صديق‏، ‏فلم‏ ‏أجده‏..‏، وانطلقت‏ ‏أشرح‏ ‏أفكارى ‏للصديق‏ ‏المريض‏ ‏أمامي‏- ‏بلغة‏ ‏قريبة‏ ‏منه‏ ‏ومن‏ ‏مشكلته‏- ‏وكان‏ ‏للجديد‏ ‏وقع‏ ‏عنيف‏ ‏علىّ… ‏ولكن ‏الصديق‏ ‏المريض‏ قال لى:  “‏ما‏ ‏أنا‏ ‏عارف‏”، ‏وعجبت‏، ‏وتذكرت‏ ‏حقيقة‏ ‏قديمة‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏الأصدقاء‏ ‏المرضى ‏يعرفون‏ ‏النفس‏ ‏أدق‏ ‏وأصدق‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏النظريات‏، ‏وذهبت‏ ‏آخر‏ ‏النهار‏ ‏لزميلى ‏الصديق‏ الطبيب المختص ‏ومعى ‏زوجتى… ‏ولم‏ ‏أجده‏ لا هو، ولا زوجته الصديقة المتخصصة فى علم النفس، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏الصمت‏، ‏وأخرجت‏ ‏ورقا‏ ‏من‏ ‏مكتبه‏ ‏وانطلقت‏ ‏طوال‏ ‏أكثر من ساعة‏‏ ‏أشرح‏ ‏لزوجتى ‏الفكرة‏ ‏وأرسمها‏ ‏على ‏الورق‏ ‏وأربط‏ ‏الأفكار‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏.. ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏أدركتْ‏ ‏التفاصيل‏ ‏أم‏ ‏لا‏.. ‏ولكنها ‏كانت‏ ‏تتابع‏ ‏أفكارى ‏غالبا‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏يشجعنى ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏مالا‏ ‏يعنيها‏ ‏دون‏ ‏حرج‏..‏، وحين‏ ‏حضر‏ ‏زميلى ‏وزوجته‏ ‏تواعدنا‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏..، وخلال‏ ‏أيام‏ ‏كنت‏ ‏أعيد‏ ‏القصة‏ ‏عليهما‏ ‏مع‏ ‏زوجتى ‏من‏ ‏أولها‏ ‏لآخرها‏… ‏وسألتهم‏ ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏جديد؟‏ ‏فقالوا‏: ‏”يبدو‏ ‏ذلك‏…‏”

وفى ‏ليلة‏ ‏تالية‏ ‏حلمت‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏خطابا‏ ‏لصديقى “‏بيير‏  برينتـّى”  ‏فى ‏باريس‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏تعليقه‏ ‏عن‏ ‏الشئ‏ ‏الـ‏ “‏ما‏” ‏الذى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏أهب‏ ‏حياتى ‏له‏، ‏واستيقظت‏ ‏فى ‏جوف‏ ‏الليل‏ ‏وأخذت‏ ‏أكتب‏ ‏له‏ ‏وأكتب‏ ‏حتى ‏أكملت‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عشر‏ ‏صفحات‏، ‏وأرسلتها‏ ‏فورا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أحتفظ‏ ‏بنسخة‏، ‏ولم‏ ‏يرد‏ (‏ولا‏ ‏أدرى ‏حتى ‏الآن‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏خطابى ‏قد‏ ‏وصل‏، ‏وخجل‏ ‏أن‏ ‏يسفه‏ ‏آرائى ‏فى ‏الرد‏، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏رجال‏ ‏البريد‏ ‏أحسوا‏ ‏بثقل‏ ‏وزنه‏ ‏فتخففوا‏ ‏من‏ ‏جهد‏ ‏توصيله‏).‏

واستمررت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أمارس‏ ‏المهنة‏، ‏ولكنى ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأسماء‏ ‏القديمة‏ ‏تعوق‏ ‏فهمى ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏، ‏وأن‏ ‏الفكرة‏ ‏الجديدة‏ ‏تلح‏ ‏علىّ ‏فى ‏أن‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏أسماء‏ ‏جديدة‏، ‏وفعلت‏…‏، ووجدت‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏أكثر‏ ‏تقبلا‏ ‏وفهما‏ ‏من‏ ‏التعقيدات‏ ‏الشديدة‏ ‏والألغاز‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏بها‏ ‏الانسان‏ ‏المريض‏، ووجدت‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏العلاج‏ ‏أخذ‏ ‏طابعا‏ ‏آخر‏ ‏ومراحل‏ ‏أخرى، ‏أصبح‏ ‏أوضح‏ ‏وأبسط‏ ‏وأسرع‏ ‏وأكثر‏ ‏ترابطا‏.‏

وطبعا‏ ‏شككت‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏ولم‏ ‏يشكّ‏ ‏فيه‏ ‏مرضاى ‏ولا زملائى (‏الصغارمنهم‏ ‏بوجه خاص‏) ‏وقلت‏ ‏أبدا‏: ‏هذه‏ ‏صحوة‏ ‏من‏ ‏صحوات‏ ‏الحيرة‏ ‏أردت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏أهدئ‏ ‏من‏ ‏حيرتى ‏فترة‏ ‏ما‏، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏موجودة‏ ‏من‏ ‏قديم‏ ‏وقد‏ ‏انجلت‏ ‏فجأة‏… ‏هذه‏ ‏هى ‏كل‏ ‏الحكاية‏… ‏لابد‏ ‏أنى ‏قرأتها‏ ‏يوما‏.. ‏أو‏ ‏أنى ‏سأقرؤها‏ ‏يوما‏…‏

وذهبت‏ ‏أبحث‏ ‏عنها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ما تصل‏ ‏إليه‏ ‏عينى ‏مما‏ ‏قرأت‏، ‏وذهبت‏ ‏أناقشها‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏أثق‏ ‏فى ‏سعة‏ ‏إطلاعهم‏، ‏ووجدت‏ ‏جزئياتها‏ ‏موجودة‏ ‏فعلا‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏موجودة‏ ‏إطلاقا‏ ‏ككل‏ ‏متكامل‏…، ‏قال‏ ‏بها‏ “‏فرويد‏” ‏عندما‏ ‏تحدث‏ ‏عن‏ ‏غريزة‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏، (وليس قبل ذلك!) ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏يونج‏ ‏وهو‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏الجمعى، ‏وفى ‏حديثه‏ ‏عن‏ ‏تاريخ‏ ‏الانسان‏ ‏النوع‏ ‏وضرورة‏ ‏تحقيق‏ ‏ذاته‏، وعن “تجربة الرب” ‏وقال‏ ‏بها‏ “‏إريك‏ ‏اريكسون‏” ‏وهو‏ ‏يضع‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الاجتماعى ‏وكأنه‏ ‏عدة‏ ‏أناس‏ ‏بعضهم‏ ‏فوق‏ ‏بعض‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏ساندور ‏رادو‏، ‏وإريك‏ ‏فروم‏، ‏وكارين‏ ‏هورنى ‏وفيربرن‏ ‏وجنترب‏ ‏وهنرى ‏إى ‏وزرادشت‏ ‏ونيتشه‏ ‏وبرجسون‏ ‏وبرناردشو‏ ‏وكل‏ ‏الناس.

ولم‏ ‏يقلها‏ ‏أحد‏.‏

وكنت‏ ‏حين‏ ‏أقرأ‏ ‏بالانجليزية‏ ‏ونادرا بالفرنسية‏ ‏ولا‏ ‏أجد‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏، ‏أقول‏ ‏لنفسى ‏لابد‏ ‏أنها‏ ‏كتبت‏ ‏بالألمانى، ‏فهناك‏ ‏الأصالة‏ ‏والتطور‏ ‏وأنا‏ ‏لاأعرف‏ ‏الألمانية‏، ‏إذن‏ ‏فلا‏ ‏جديد‏، ‏ولكنه‏ ‏بالرغم‏ ‏منى، ‏بدا‏ ‏لى ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏جديدا، وبعد‏ ‏شهور‏ ‏طويلة‏ ‏حين‏ ‏استقرت‏ ‏الأشياء‏ ‏وأخذت‏ ‏الأسماء‏ ‏الجديدة‏ ‏مواضعها‏ ‏التقريبية‏، ‏كتبت‏ ‏إلى ‏زميلى ‏وصديقى ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏شعلان‏ ‏فى الولايات المتحدة الأمريكية خطابا‏ ‏سيئا‏ ‏للغاية‏  ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏ببعض‏ ‏التفاصيل‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏شرحت‏ ‏فيه‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏فى ‏أن‏ ‏انتشار‏ ‏فرويد‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لأصالته‏، ‏وإنما‏ ‏لحاجة‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏تبرير‏ ‏توقفهم‏ ‏التطوري‏- ‏أو‏ ‏تدهورهم‏- ‏خلال‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر  (5)  قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏يا محمد‏: ‏إما‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏نموت‏، ‏والمسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حوار‏ ‏متصل‏، ‏ولكنها‏ ‏لاتحتاج‏- ‏فى ‏نظري‏- ‏إلى ‏تحليل‏ ‏منظم‏، ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏جارف‏، ‏وصدق‏، ‏وتقشف‏ ‏نفسى، ‏وتصوف‏، ‏وإيمان‏ ‏بالأصل‏، ‏وبالاستمرار‏، ‏ويقين‏ ‏بالغد‏، ‏وبكل‏ ‏ماهو‏ ‏أصيل‏… ‏وأين‏ ‏هذا‏ ‏كله؟ هو‏ ‏موجود‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يجعلنا‏ ‏نفخر‏ ‏بأن‏ ‏ننتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏المخلوقات‏…. ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏جديد‏ ‏بمعنى ‏الجديد‏، ‏وإنما‏ ‏الجديد‏ ‏هو‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏القديم‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏حوالى ‏ألف‏ ‏أو‏ ‏قل‏ ‏مائة‏- ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فقط‏- ‏يفكرون‏ ‏فيما‏ ‏أفكر‏ ‏فيه‏ ‏الآن‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أنى ‏إن‏ ‏لم‏ ‏أكتب‏ ‏مايدور‏ ‏فى ‏وجداني‏- ‏الشئ‏ ‏الذى ‏يلح‏ ‏على ‏فيه‏ ‏البعض‏ ‏الآن‏- ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏غيرى ‏سيكتبه‏، ‏وربما‏ ‏أفضل‏، ‏وحين‏ ‏أرسلت‏ ‏إليك‏ ‏مقالتى ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏قدمت‏ ‏لها‏ ‏أقترح‏ ‏أن‏ ‏تعتبرها‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الضلال‏ ‏المنظم‏ Systematized delusion، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏الضلال‏ ‏ماهو‏ ‏إلا‏ ‏دفاع‏ ‏ضد‏ ‏الجنون‏ ‏المطبق‏، ‏فقد‏ ‏أطبق‏، ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الجنون‏ ‏فى ‏خدمة‏ ‏الذات‏ ‏والتطور‏.. ‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏الخلق‏..‏

هل‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏أن‏ ‏أحدثك‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان؟‏. ‏فليكن‏..‏

الآن‏: ‏ماهو‏ ‏موقفنا‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وتقسيماته‏ ‏وعلاجه؟

‏راجع‏ ‏التقسيم‏ ‏الدولى ‏والأمريكى ‏وغيرهما‏ ‏وتعجب‏ ‏للمرحلة‏ ‏المتواضعة‏ ‏التى ‏تجمـَّـدنا‏ ‏عندها‏…‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏محاولة‏ ‏فهم‏ ‏المخ‏ ‏بالتفاعلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏وفقط‏، ‏وستجد‏ ‏تقلصات‏ ‏العلماء‏ ‏فى ‏المعامل‏ ‏تشبه‏ ‏تشنجات‏ ‏فئران التجارب‏، ‏وهم‏ ‏يحاولون‏ ‏تعميم‏ ‏ما‏ ‏على ‏الفأر‏ ‏على ‏الإنسان‏…‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏الموقف‏ ‏الأبله‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏الصدمات‏ ‏الكهربائية بالرغم من اعترافى بأنها‏…. ‏ذات‏ ‏مفعول رائع إذا أحسنـّـا استخدامها، ثم‏ ‏راجع‏ ‏النظريات‏ ‏السيكوباثولوجية‏ ‏وعدم‏ ‏ارتباطها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وبالوضع‏ ‏العضوى ‏للمخ‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ثم‏ ‏راجع‏ ‏أقصى ‏اليمين‏ ‏من‏ ‏المدعين‏ – ‏مثلا‏- ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ما هى ‏إلا‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الصرع‏…. ‏وهم‏ ‏لايفهمون‏ ‏الصرع‏ ‏ذاته‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الصراع‏ ‏الخائب ‏بين‏ ‏التحليليين‏ ‏والسلوكين‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏علاقة‏ ‏الأمراض‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏: ‏الصرع‏ ‏بالشيزوفرينيا‏ ‏والأخير‏ ‏بجنون‏ ‏والهوس‏ ‏والاكتئاب‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏التاريخ‏…. ‏أعنى ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ ‏وتناسبها‏: ‏لا‏ ‏مع‏ ‏المرحلة‏ ‏الفمية‏ ‏والمرحلة‏ ‏الشرجية‏…. ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏الموقف‏ ‏البارنوى ‏والموقف‏ ‏الاكتئابى… “‏الخ‏”‏

ومضيت‏ ‏فى ‏خطابى ‏ألح‏ ‏فى ‏حاجتنا‏ ‏إلى ‏جديد‏ ‏يربط‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ببعضه‏ ‏البعض:

‏..‏وأن‏ ‏الفارماكولوجيا‏ (‏علم‏ ‏العقاقير‏ ‏الطبية‏) ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وتداخل‏ ‏الأمراض‏ ‏الذهانية‏ ‏فى ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعمـّـق‏ ‏الفهم‏ ‏ويحل‏ ‏الإشكال‏… ، ثم‏ ‏عرضت‏ ‏فكرتى ‏عن‏ ‏أن‏ ‏مخ‏ ‏الإنسان‏ ‏ليس‏ ‏مخا‏ ‏واحدا‏ ‏بل‏ ‏عدة‏ ‏أمخاخ‏، ‏وأنى ‏أعنى ‏بالمخ‏ ‏”تركيبا‏ ‏متكاملا‏” ‏وليس‏ ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏، ‏وأ‏ن‏ ‏كل‏ ‏تركيب‏ ‏متكامل‏ ‏له‏ ‏نقطة‏ ‏انبعاث‏ ‏تنظم‏ ‏عمله‏، ‏وأنه‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏لا يقود‏ ‏إلا‏ ‏مخ‏ ‏واحد‏ ‏وتكون‏ ‏بقية‏ ‏الامخاخ‏ ‏كامنة‏ أو مساعدة ، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المخ‏ ‏الواحد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسيطر‏ ‏بالتنظيم على ‏كل‏ ‏أجزاء‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى في وقت السلامة، ‏وفى ‏الأحوال‏ ‏المرضية‏ (‏أمراض‏ ‏الكينونة‏) ‏يعمل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مخ معا كيفما اتفق‏، ‏وأحيانا‏ ‏يعمل‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏متفوقا‏، ‏وينتصر‏ ‏على ‏المخ الحديث فى الصراع بينهما، وأن العقاقير تعمل بشكل تطورى مرتب على بعض الأمخاخ دون الأخرى، وبذلك يمكن تهدئة المخ‏ ‏القديم‏ ‏اختياريا‏ ‏دون‏ ‏المساس‏ ‏بدرجة‏ ‏كبيرة‏ ‏بالمخ‏ ‏الحديث‏، ‏وأن‏ ‏الصدمة‏ ‏الكهربائية‏ ‏إنما‏ ‏تمسح‏ ‏النشاط‏ ‏الكهربائى ‏لكل‏ ‏الأمخاخ‏ ‏ثم‏ ‏تعطى ‏الفرصة‏ ‏للمخ‏ ‏الأقوى ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ليوجه‏ ‏الفرقة‏ ‏كلها‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يفسر‏ ‏اختلاف‏ ‏الاستجابة‏ ‏للعلاج‏ ‏الكهربائى ‏بعد‏ ‏تحضير‏ ‏كيميائى ‏وتهيئة‏ ‏نفسية‏ ‏مناسبة‏، ترجح كفة المخ الذى نسلمه القيادة، ‏وأن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏الحب‏ ‏الإنسانى الذى ‏يجذب‏ ‏طاقة‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏إلى ‏الناس‏ ‏ويغرى ‏المخ‏ ‏الحديث‏ ‏بأن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ولا يخاف‏ ‏من‏ ‏الوحدة‏ ‏أو‏ ‏القهر‏، ‏وأنه‏ ‏بذلك‏ ‏يتوافق‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏الكهربائى، ‏وقسمت‏ ‏له‏ ‏الأمخاخ‏ ‏وسميتها‏، ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏وأنا‏ ‏أعرض‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏من‏ ‏بضعة‏ ‏صفحات‏ ‏أن‏ ‏أزيد‏ ‏الأمر‏ ‏تعقيدا‏ ‏وليس‏ ‏توضيحا‏ ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏القارئ‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏متاهة‏ ‏وهو‏ ‏يتابع‏ ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اعتذار‏ ‏جديد‏- ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏ألا‏ ‏أتوقع‏ ‏ردا‏ ‏إيجابيا‏… ‏وهذا‏ ‏ماحدث‏- ‏ولكنى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏ ‏ختمت‏ ‏الخطاب‏ ‏قائلا‏:‏

‏”‏والآن‏: ‏هل‏ ‏نعلن‏ ‏الثورة؟‏ ‏هل‏ ‏نرفض‏ ‏الأسماء؟‏ ‏هل‏ ‏آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نصمم‏ ‏على ‏التطور‏ ‏بإرادتنا‏ ‏وعلى ‏رفض‏ ‏المقدسات‏ ‏الخادعة‏، ‏هل‏ ‏نأخذ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مخ‏ ‏أصالته‏ ‏وجوهره‏ ‏ونحاول‏ ‏أن‏ ‏نوفق‏ ‏بينها‏ ‏لنحوِّل‏ ‏الناس‏ ‏المنشقين‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏إلى ‏إنسان‏ ‏واحد‏ ‏متوافق‏ ‏مع‏ ‏تاريخه‏ ‏المجيد‏ ‏فى ‏الصراع‏ ‏للبقاء‏ ‏فالتطور‏.‏

هل‏ ‏تحضر؟‏ ‏هل‏ ‏تكتب؟‏ ‏هل‏ ‏نتفاهم؟ هل‏ ‏نستطيع‏ ‏الصمود‏ ‏حتى ‏نموت‏ ‏لا‏ ‏تسرقنا‏ ‏أيامنا‏ ‏ولا‏ ‏أطماعنا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يفتت‏ ‏عقولنا‏ ‏الكولسترول‏ ‏المترسب‏ ‏داخل‏ ‏شراييننا؟

هل‏ ‏نستمر؟ هل‏ ‏نيأس‏ ‏مثل‏ ‏الأنواع‏ ‏المنقرضة‏ ‏من‏ ‏الأحياء؟ هل‏ ‏أنت‏ ‏معى؟

ولك‏ ‏منى ‏الحب‏ ‏والسلام‏…‏ يحيى

……………..
ونكمل الأسبوع القادم

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] –   نشرة الإنسان والتطور بتاريخ 6-9-2020

[3] – ولعل الأوان قد آن حالا بهذه المحاولة الحالية الممتدة فى سلسلة آملُ أن تكتمل.

[4]-: يحيى الرخاوى “حيرة طبيب نفسى” (كتبت 1970) دار الغد للثقافة والنشر. الطبعة الأولى 1972،  “مستويات الصحة النفسية، من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة”  الطبعة الأولى 2017 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

[5] – مع قهر العصر الفكتورى

 

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *