نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4571
(رباعيات.. ورباعيات) (1) (13)
(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)
مـلاحـق الفصل الأول
ترددت كثيرا فى إلحاق هذه الملاحق بهذا العمل، لكننى تراجعت عن ترددى ربما لأعود بالقارئ إلى سلاسة الحكى، ورقة العلاقات بعد هذه الرحلة الغائرة والمغامرة، وأيضا احتراما للتاريخ، فقد كتبت هذه الملاحق مواكبة لأحداثها.
1- رثاء
2- عديد
ملحق الفصل الأول (1)
أولاً: الرثـــــاء (2)
نبضة حياة مكثفة.. فى طفرة إبداع سهلة
لا يستطيع أى منا، يعيش هذه الحياة بمقاييسها العاجزة، وبأدواتها المحدودة، أن يلم بهذه الظاهرة الفريدة (صلاح جاهين)، ومهما حاول أحدنا، فكتب، ووصف، ومدح، وغاص، وراجع، ورثى مهما حاول وحاولنا… فلن تسعفنا الكلمات ولو صدقت، كلمات مثل “الوطنية” و”المصرية” و”الفن” و”الإبداع” و”الحب” و”الطفولة”… لن تسعفنا كل هذه الكلمات ومشتقاتها، فى الإلمام بحقيقة إيقاع تلك النبضة الحيوية التى عبرت سماء حياتنا الغائمة، فى سرعة ثائرة لاهثة، فيما يشبه الطفرة المكثفة لكل حلاوة وصدق وعمق “ما هو إنسان” فينا.
كنت أعرفه من كلماته، أعرفه أستاذاً لى فى صلب تخصصى النفسى، وكنت أحبه من بعيد لبعيد، وكنت دائماً أحاوره فوق أوراقه، وأعابث كلماته، وأمشى محاذياً خطوط رسومه، وأردد همس أنغامه.. مثلى مثل أغلب مواطنـّى المصريين البسطاء، وغير البسطاء: كلَّ بطريقته.
ثم حدث أن قابلته مصادفة، حين كنا نشترك فى العناية بقريبة عزيزة على كلينا ولم أسمح (ولم يسمح) بأن تتخطى لقاءاتنا هذه الحدود، لكنها كانت فرصة أتسحب فى رحابها؛ لأتعرف عليه من حضوره العيانى، كشخص من لحم ودم، مثله مثل الناس، مثلنا.
وحين ذهبت لـلقائه أول مرة، كنت فرحا فرح التلميذ، وهو يتلمس مصافحة أستاذه برغم تقارب عمرينا وإذابه يفاجئنى جالساً داخل جسده (وكان فى نوبة بدانة مفرطة!!) وقد غاص وجدانه فى بؤرة نابضة، اجتهدتُ حتى لا تهرب منى فرصة التعرف عليه تحت ظاهر محاولاته لـلتعامل بسطح ظاهرِهِ؛ حيث كان يتكلم بحكمة هادئة، وصوت رتيب، جعلانى أفزع إلى درجة أن أقول فى نفسى: “لا ليس هو”، لكن الدقائق مضت، فبدا لى أنه ترك نفسه يطمئن، فجعلت أترقب منتظراً، فسمح لطفله – هو هو- أن يقفز فى عينيه، فاستطاب الحضور، فأطلقه يعلن “القفشة”، أو “يغمز الغمزة”، وراح يقفز من موضوع إلى موضوع، وكأنه يقلب الكراسى أثناء لعبة المحاورة؛ ففرحت حتى رحت أغترف أكثر فأكثر من هذا الوجود الحلو، لكنى ما إن اقتربت أكثر؛ حتى غاص منى إلى مخبئه فى طيات جسده، وقد مسح عن وجهه آثار اللعبة.. فأتراجع مقدرا، منتظراً، مكتفياً.
وهكذا تعرفت عليه شخصيا.
ياه!! لقد كنت أحبه، جدا، فعلا!!!.
أحببته إلى درجة أنى لم أكن أريد الاقتراب أكثر ـ أو لمدة أطول، كنت أريد دائما أن أحتفظ بصورته معى، فى جوف وعيى، فى بؤرة حسى. أحتفظ بها، لأستمد منها ما تعد به، وأكثر، حتى أنى قلتها له مباشرة ذات مرة: “… لستُ حريصاً على لقائك…، لأنى حريص على أن تظل تفصلنى عنك مساحة ما؛ ينمو فيها كل ما أريده منك”، وما أتصوّره عنك؛ فينظر إلىّ فى موافقة غامضة، ويبدو لى أنه تصنع أنه لم يفهم.
كان فيضا يثرى وعيى بما لا يتطلب منى شد الرحال إلى منبعه، وسط صخور الجنادل، وحين أتذكر ذلك تماما أتساءل:
فلم الجزع لفقد شخصه؟ فأجيب: لعله جزع لتوقف فيضه.
وذات مرة، لمحت ألمه يطل من وراء ظهره، وقد كان يعرف شخصيا أن تقلبات مزاجه قد تصل إلى ما أسماه “الحالة الفرحانقباضية” (بل المرض). لمحتُ مأزقه فلمحنى أراه، فأعـلننى أنه: كم هو وحيد، وسط كل هؤلاء الأحباب والأصدقاء والزوجة والأولاد، وكم هو متألم، علي الرغم من الضحكة والنكتة وتواصل الإبداع، وقلت كم أظلمه بإصرارى على رؤية صورته دونه، أليس من حقه كشخص عادى أن “يهمد” قليلا، ولو على حساب إبداعه أحياناً؟. فقلت فى نفسى: “ياحبذا لو أخذ فرصة علاجية من نوع آخر، أصْبَر وأدوَْم، بدلا من هذا التسكين، طول الوقت والتأجيل بالكيمياء، ومضادات الأمزجة المتقلبة (فى الأغلب)، لكنى سرعان ما رعبت من الفكرة؛ إذْ ماذا لو “شفى تماما”؟!!. فكفّ عن الإبداع، والعياذ بالله!!. ويبدو أنه ضبطنى متلبساً بهذه الأمنية العلاجية البديلة، قبل أن أتراجع عنها، فراح يؤكد لى أن المسألة كلها “كيمياء فى كيمياء”، وأن العلاج النفسى ما هو إلا تحصيل حاصل، وأنه يضبط جرعة الكيمياء اللازمة بإرشادات طبيب زميل طيب، ولم أملك إلا إعلان موافقة ما، لكنى ظللت شاعرا بالتقصير والعجز، واضعاً يدى على قلبى، منتظراً ما لا أحب له، أو لى، حتى حدث ما قدر الله، هكذا “فجأة”، وبقرار صاعق، من مجهول… أو معلوم.
ومرة أخرى: حدثنى هاتفياً يوصينى بصديقه وحبيبه “فؤاد حداد”، أستاذى الآخر الذى تمثل لى حين قابلته: “ألما خالصا صاغ نفسه فى قالب من الروعه الصابرة المتفجرة فى نبض دافق، فقلت فى نفسى: إذا كان “صلاح” يثق فى علمى وخبرتى حتى يعهد إلىّ بتخفيف ألم/آلام، الصديق الجميل هذا “فؤاد”، فلماذا تجنب أن يكلمنى بشأن نفسه؟ فاحترمت ذكاءه بعيد النظر، وحمدت له أن جنبنى الوقوع فى مأزق محاولة إطفاء نار هى وقود إبداعه، وضياء حياتنا فى آن
كان وما زال أستاذاً لى: فى صلب حرفتى، وصميم تخصصى، وحين كتبت عن رباعياته مرتين، مرة فيما يتعلق بحالته الفرحانقباضية، والأخرى فى مقارنة نقدية مع رباعيات الخيام، ونجيب سرور، حين فعلت ذلك، كنت أستلهم ما كتب لأتزود بمعارف جديدة، أكثر من محاولتى ترجمة ما كتب، إلى مصطلحات علمية أعرفها، وقد كنت وما زلت، وأنا أدرس لطلبتى الأطباء خاصة، أعلمهم أن يحترموا روعة الحزن وشرف الآلام؛ حتى لا نقع فيما حذرنا “صلاح” منه حين قال: “الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع، الحزن زى البرد، زى الصداع”.
وحين كان يصعب على طلبتى، تفهم كيف يتضفر الحزن مع المحبة، وكيف يتفجر السماح من جوف الألم (فى حالات تكثيف المزاج المختلطة)، كنت أستشهد بقول أستاذى صلاح: وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم، ماخرجش منه غير محبة وسماح.
وحين كنت أريد أن أنبه طلبتى إلى أن “المراهقة” تبدو فى نظر الأهل (فى مصر وما شابهها) كأنها مرض يصيب الأولاد والبنات، وبالتالى “ربنا يشفيهم منه”، كنت أستشهد بقوله:
البنت فارت والولد خنشر، ياميت ندامه، ألف بعد الشر،
يا ريتها كانت نزلة معوية، ولاّ وجع فى البطن يتدبر
كان سهلا..، كانت سهولته تخرج لى لسانها، وتلّعب لى حواجبها، حين أحاول أن أتقمصه فأعجز، وحين أحاول أن أتصور النقلة التالية فى “فزورة” منسابة.
كنت أتصور قبله أن هذه الكلمات العادية، لا يمكن أن تعبر إلا عن معان عادية؟ فإذا بالفكرة الجديدة التى تحمـلها كلماته العادية تجعلنى أفيق نشطا طازجا على الرغم من صياغتها بألفاظ ليس أسهل منها ولا أبسط؛ ذلك أنها إذ توضع فى سياقها الشعرى توقظ طبقات خامدة من وجود المتلقى (وجودى)، وكأن صبياً ظريفاً يسرق منى ما حرصتُ على إخفِائِه عنِّى؛ خوفاً أو تردداً أو استهانة، يسرقه لى ويعطينى إياه، باستعمال “طفاشة” بسيطة من سلك (عادى) مثنى فى ذكاء.
ولا يتركنا “صلاح” إلا وقد فرض علينا – بهذه السهولة – معجمه الجديد، فلا نذكر “الباشمهندس”، إلا ونخاف على بيت قديم أن ينهار يوم فرح “نيللى”، ولا نذكر “النجار” إلا ونحن نتصور أن “معزة شقية” يمكن أن تأكل البيت (يا حللى) ولا نتلقى برقية من وكالات الأنباء، إلا وتعبر خلفية وعينا مكتوبة بـ “خط منمنم لولى”.
معجم صلاح السهل الممتنع، كان يتحسب إلى عمق وجودنا ليثرينا، بنا، بلا استئذان.
كان شجاعاً. قالها، ومضى، كان يمد يده داخل وجودنا ووجداننا، ليأخذ عينة من نبضنا اليومى، فيرسمها، أو يكتبها، وفى ذلك لم يكن يعتنى أن يعمل “حسابا” لأحد يمكن أن يعوقه؛ فضرب فى كل اتجاه، مصيباً الهدف فى أغلب الأحيان، ولم ينج ظالم، أو متعصب، أو حاكم، أو ريجان، أو قذافى، أو خومينى، أو عقائدى، أو ديماجوجى، من صفعة على قفاه، أو مسلة فى ظهره، أو قرصة أذنه، وفى القليل: دغدغة فى باطن قدمه. وقد ظل مبارزاً شجاعاً (طيباً) فى كل اتجاه، مخترقاً مجاملة الأصدقاء، مخلخلاً أيديولوجية المتجمدين، غير هياب بتهديد بالاغتيال، أو بغضب السلطة / إلا قليلاً. وما زلت أذكر لوحة “انتباه”! وهى تصور انفجار جهاز الأمن المركزى، أبلغ من ألف مقال، وأكثر فائدة من كل قرار وتفسير لما كان.
ثم إنه قد استطاع – أخيرا – أن يبدع خرجته (في الأغلب!)
ولكنه لم يستطع أن يموت، فمازال يغنى داخلنا طول الوقت.
ومن أراد أن يعرف ما هو الإبداع صورةً مكثفةً، وما هوالإبداع تنظيماً متضفـّراً، وما هو الإبداع سهلاً ممتنعاً، وما هو الإبداع تنويعا على لحن قائم، فليعد إلى إبداع ما أبدع صلاح، وسيجد جديداً فى كل زاوية، جديدا متجددا، أبدا. فكيف تقولون مات؟
نوع واحد من محاولاته رفضته حتى العتاب (بينى وبين نفسى)؛ حين حاول أن “يمثل” أو أن يقدم شخصيا برامج وكأنه “يمثل”، فرحت أقول له (فى نفسى): ما هكذا يا رجل، فما جسدك وتعبير وجهك الماسح “هنا”، إلا محاولة طيبة من خالقك أن يحد من وهج إبداعك، حتى لا نعشى فيه إذا فاجأنا إبداعك من خلاله دون حجاب، لماذا تستعمل غطاءك الجسدى، وكأنه أنت؟؟ لماذا التمثيل بالله عليك؟
وبدا لى أنه سمع همستى، فلم يتمادَ فيما ليس هو.
(انتهى المقال)
وبعد
فهل مات صلاح جاهين؟.
لا أظن أن هذه الأحرف الثلاثة (الميم والألف والتاء) يمكن أن تعلن شيئاً نفهمه معاً الفهم ذاته.
فماذا؟
أحسب أن ما بلغنى من خلال غيابه، هو أنه “توقف”، ولم ينته.
توقّف عن غمس سنّه فى سواد القلم، ولكنّ لم ينته من تجديد حياتنا كل يوم، ونحن نتذكره،
ونحن نقرأه،
ونحن ندرسه،
ونحن نعاتبه،
ونحن نحن إلى سماع شدوه.
*****
ملحق (2)
ثانياً: عـديد
العديد فى بلدنا، خصوصا إذاكان الموت قد اختطف الوالد، يوجّه كثيرا إلى الميت، يعاتبه مثلا لأنه ترك ابنه يتسكع عند خاله، أو يعوله عمه، وهكذا.
وصلاح، على الرغم من جرعة طفولته الغالبة، كان قيمة حياتية والدية داعمة لمن يجرؤ أن ينبض بالحياة كما خلقها الله فيه.
وقد حمدتُ الـله أن هذا العديد لم يُنشر، على المستوى العام فى حينه، فلا هو شعر عامى، ولا هو زجل، هو عديد مصرى عاتب، فقط.
فانتهزت فرصة صدور هذا العمل الذى يبدأ به وينتهى به، لألحق به هذا العديد، حيث شعرت أنى مازلت ألومه على رحيله، كم أنا أنانىّ، هل كان يمكن أن يحتمل أكثر؟ لماذا؟
يا صلاح ْ: كانْ لسَّــــهْ (3)
ماقْدِرْتِشْ تشرب شفطَه كَمَان مِنْ أَلَم الوِحَده؟
طبْ واحـــْــنا؟
يا صــــــلاحْ:
ليه إنتَ؟! بالذاتْ؟! دلوقتِى؟!
مشْ بدرِى؟!
طبْ حِـــــتَّهْ
طبْ حَـــــبَّهْ
طبْ لأَّه
قال يعنى(!!)
الطفل، الحلوْ، النغمهْ، السَّـكتــهْ، الهمسهْ،
الراجل، الدّرش،ْ الدايرهْ، الهمزهْ، الحكمهْ،
“كِـــدَهُـــْه ؟؟؟!”
يا صلاحْ:
طبْ بُصْ
طبْ ثانيــِهْ
طـبْ دا انتَ:
يامَا شـــفتْ
يامــــَا قُلْتْ
….طبْ ليـــه؟.
“كِـــدَهُـــْه؟؟!”.
“آه يانــِــى“
طــبْ روحْ،
لأْ.. لأَّهْ
ما تْروحشِى.
إزاىْ؟؟؟؟.
ما اعرفْشِى.!!!.
يحيى الرخاوى
[1] – المقتطف من كتاب “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – لا أذكر أين نشرت هذا الرثاء وقد بحثت عنه فى أوراقى وحاسوبى، ورجحت إنها مجلة صباح الخير فى حدود ذاكرتى، ولم أستطع أن أحدد الموقع والتاريخ، فكان حافزا لنشره هنا ربما لم ينشر أصلا!!
[3] – نفس الموقف تكرر معى حين رحل عنا نجيب محفوظ وتذكرت الآن أننى وصفت رحيله فى رثاء عاتب بقصيدة تقول بدايتها: “لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى”!! وقد نشرت فى الأهرام، ثم فى عدة مناسبات أخرى ويمكن الرجوع إليها فى موقعى www.rakhawy.net ، واجتمع علىّ هذا الاحتجاج “لماذا” عندهما معا، فقد كان جاهين حرفوشا ـ أيضا – بعض الوقت.