نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-6-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5033
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (15)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
مقدمة:
سبق أن بدأنا بنشر حلقات من الكتاب بداية من الحلقة رقم (1) بتاريخ 19-1-2020 حتى توقفنا عند الحلقة رقم (14) بتاريخ 19-4-2020، وسوف نبدأ اليوم باستكمال نشر بقية حلقات الكتاب.
الإيقاع الحيوى بين الحركة والسكون (2)
“لا دائم إلا الحركة. هى الألم والسرور. عندما تخضر من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء”
هذا ما قاله نجيب محفوظ وهو يكشف لنا عن دورات الإيقاع الحيوى لنبض الحياة فى “ملحمة الحرافيش”.
إن دوام الحركة لا يعنى استمرارها بقدر ما يشير إلى حتمية دورانها الذى يشمل طورا من الكمون يبدو وكأنه السكون، لكنه فى الحقيقة يتبادل مع طور الحركة فى جدل يتمادى نحو التكامل المفتوح النهاية.
لا الحركة مطلوبة لذاتها، ولا السكون دائم الارتباط بالهمود والجمود والموات.
إن طرح بعد الحركة والسكون للنظر، هو دعوة للتساؤل حول الوجود والعدم، هذه الدعوة، فى ذاتها، هى من المصائب التى ابتلى بها الجنس البشرى دون من نعرف من الأحياء حالا، وتاريخا، إن إشكالة الحركة والسكون قد حلتها قوانين الوجود عبر التاريخ الرائع لتطور الأحياء، ولم تكن هناك حاجة إلى خدمات هذا الوعى البشرى الذى قد يجانبه الصواب وهو يتخبط مع لهاث الآلات التى اخترعها، وسط فيضان المعلومات التى غمر نفسه بها حتى تكاد تعجزه عن العوم، أو حتى عن مجرد الإمساك بالدفة لتحديد التوجه.
-
كثير من مظاهر البحث العلمى حركة فى المحل إذا رضى الباحث أن يسجن فى منهج قديم مصمت
-
السعار الاستهلاكى على ما به من تنافس وأصوات ودعاية ليس إلا حركة زائفة.
إن مجرد الحديث عن الحركة وعقلنة الوعى بها- (مثله مثل الحديث عن الجدل)، هو ضد الحركة (وضد الجدل). هذه بديهية ينبهنا إليها صلاح جاهين بحدسه الفائق حين يقول: “… تشوف رشاقة خطوتك تعبدك، بس انت لو بصيت لرجليك، تقع”. هذا الوعى المعقلن بديلا عن تلقائية التطور قد أصبح إشكالا فى ذاته، صحيح أنه لم يعد من الممكن الاطمئنان لتلقائية التطور بعد أن تدخل الإنسان مع سبق الإصرار والتعقل فى تنظيم نوع وجوده، لكن صحيح أيضا أنه ليس فى الإمكان التسليم لغلبة الجزء الطافى من وعينا العاقل دون تاريخه وأعماقه. يزداد هذا الإشكال إذا تذكرنا احتمال ما يمكن أن تحدثه الإنجازات التكنولوجية الأحدث، إذ هى تضاعف من الخطأ كما تضاعف من الصواب بسرعة قد نعجز عن اللحاق بها. هذا الوعى الإنسانى يصبح مسئولية خطيرة إذا كانت قضيته هى “الحركة والسكون”.
لهذا، وبالرغم من هذا، فإن التنظير الفلسفى والرياضى و العلمى لم يكف عن تناول بعد “الحركة/السكون: ظاهرا وباطنا، جوهرا ومظهرا، بالقوة وبالفعل. ويزداد الأمر تعقيدا حين نتبين كيف أنه لا يمكن تناول هذا الإشكال بعيدا عن إشكالة الزمن.
الحركة تشكـل الزمن، والزمن يحتويها. ولا حول ولا قوة إلا بالأول والآخر، الظاهر والباطن،
البدء بالموت/حركة
حين واجه الوعى البشرى هذا الإشكال المعقد عن الحركة والجمود- الحياة والموت، لجأ إلى لغة الفن والأسطورة التى تستوعب أقدر وأرحب مما يمكن أن تستوعبه لغة العلم والعقلنة . وهكذا راح محفوظ يعلمنا فى الحرافيش أن الوعى بالموت هو الدافع للحياة، وأن وهم الخلود (ليس بالمعنى الدينى المعروف) هو الموت الجمود (=الموت بالغطرسة، والعزلة على القمة، والرتابة، والظلم، واللانهاية، والثبات).
من هذا المدخل قدم لنا محفوظ الموت ليس باعتباره “ضد الحياة” بل كجزء لا يتجزأ من إيقاع الحياة النابض، هكذا قرأت رسالته فى الحرافيش:
“..إن الحياة، مجرد الحياة، ليست هى المرادف الحقيقى لما هو: ضد الموت.. الموت،…، هو حركة ، بعكس الشائع عنه أنه عدم وسكون.
(“الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه” – ملحمة الحرافيش) (3).
من هذا المنطلق راح محفوظ يظهر كيف أن الوعى بالموت هو المبرر والدافع لاستمرار الحركة المسئولة عن إعادة التخلق وتفجر الوعي.
هكذا نجد أنفسنا أمام تساؤل يقول: إذا كان الاحتمال الأكبر هو أن يتضمن السكون حركة كامنة، وأن يدفع الوعى بالموت إلى حياة زاخرة، فما هو الذى ضد الحركة إذن؟ وما هو الذى ضد الحياة؟
قدم نجيب محفوظ (مازلنا فى الحرافيش) عدة احتمالات لما هو “ضد الحياة”، منها على سبيل المثال: رمز”التكية ، ومنها الخلاء ، وأحيانا الظلام، والظلمة ، وأقل من ذلك الفراغ. ثم أكثر من ذلك وأخطر: التوقف عن التغير الحقيقى بفرض سلطة غاشمة جاثمة لا تتنازل عن موقعها إلا بمعركة (بين الفتوات) إما أن تصيب ، وإما أن تخيب. لكنه ظل يؤكد فى كل نبض دوراته، أن حسن نية الفتوة المنتصر، ليست ضمانا لتحيزه للحركة ضدالجمود، أو للعدل ضد الظلم.
ثم إنه حدد موقفه تماما فى فصل “جلال صاحب الجلالة” (الحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش) حين قدم نموذجا للجمود اللاغى للحركة فى صورة “وهم الخلود” باعتبار أنه الرتابة المفرغة من الأمل والغد ومن المفاجأة. هذا الخلود الذى يمثل العدم المفرغ اللزج ، تلك الصورة المرعبة التى شاعت عند الغالبية مرتبطة بالموت كما يتصوره الكافة، وليس بالخلود كما صوره محفوظ. . وكأن الملحمة تريد أن تقول: أن الأولى بنا … أن نخاف هذا الخلود لا أن نخاف الموت ،” (حفز الحياة). مرة أخرى: ليس الخلود بالمعنى الدينى، ولكن بمعنى العزلة والاستغناء القاسى باضطراد رتيب.
استحالة السكون حتى لو بدا كذلك
من هذا المنطلق: أبدأ بافتراض أن السكون (مثله مثل الإلحاد) هو استحالة بيولوجية، بمعنى أنه زعم عقلانى لا يتفق مع استمرار الخلايا الحية التى لا بقاء لها إلا بالحركة فى تناسق الهارمونى المتصاعد مفتوح النهاية إلى ما لا نعرف (الغيب) حتى نتوحد فى المطلق ، بل إن العدم نفسه هو مقولة نظرية لا يمكن التحقق منها (فهو استنتاج تجريدى أكثر منه عيانا ماثلا).
إذا كان الأمركذلك، فعلينا أن نبحث بحدس أكثر يقظة فيما يملأ الصمت، ويغمر بياض الصفحات، وينبض فى عباءة السكوت. يعلمنا صلاح عبد الصبور كيف أنه “فليتكلم عنى صمتى المفعم” (ليلى والمجنون) ، كما يعلمنا نجيب سرور كيف يكون السكوت مشروع كلام (- “الكلام ممنوع يا ست”، (= ….) – والسكات ممنوع يا ست (= السكات ممنوع كمان ؟) – السكات مشروع كلام. (نجيب سرور . آه يا ليل يا قمر) .
من هذا المنطلق الجديد يمكن أن نستوعب كيف أنه لكل طور حركته وسكونه اللذان يميزانه، كما أن البراعم المغلقة هى التى تنضج فى الشتاء لتتفتح الزهور فى الربيع: (الدنيا من غير الربيع ميته، ورقة شجر ضعفانة ومفتفتة، لا يا جدع غلطان تأمل وشوف: زهر الشتا طالع فى عز الشتا) صلاح جاهين.
إذا كان الأمر كذلك، فإن الفرض الحالى يكتمل بالتنبيه إلى كيف أن الإنسان (المعاصر أكثر) يبذل جهدا منظما، وملاحقا، لإعاقة الحركة الطبيعية التلقائية التى هى سر الحياة وأساس التطور. فربما ننتبه أولا بأننا لسنا فى حاجة إلى أن نشغل أكثر بمحاولة إطلاق حركة الحياة والتطور والإبداع، فهى منطلقة بطبيعتها، لكننا فى حاجة أن نوقف القهرالمنظم الذى يعوق هذه الحركة الطبيعية خصوصا بعد أن امتلك هذا القهر أدوات تكنولوجية تكاد تكتسب استقلالها عنه.
تعرية ومواجهة
من هذا المنطلق، دعونا نقرأ بعض مظاهر ما يحيط بنا فى محاولة إعادة تحديد ما هو حركة زائفة، وما هو سكون ظاهرأو كامن وراء كل مظهرخادع.
صورة مجسدة لزخم حركة زائفة
سوف أغامر بأن أسترجع صورة زاهية من الألومبياد الأخيرة، أقرأها لكم كما وصلتنى شخصيا ، بعد الانبهار، ومع فائق الاحترام:
التنافس الأولمبى قديم قدم محاولة الإنسان الاحتفاء باختبار قدراته البدنية متنافسا مع أخيه الإنسان، وأيضا منذ تصور إمكانية أن تقوم الرياضة بوظيفة التسامى بالعدوان إلى صورة متحضرة. لا يوجد واحد يمكن أن يمنع نفسه من الإعجاب بهذا الإنجاز البشرى المتفوق وهو يشارك أكثر من مليار من البشر يتابعون بعض بنى جنسهم وهم يسبحون راقصين فى الهواء، وهم يطوون الأرض طيا كنفاثات بشرية، وهم يرفعون الأثقال وكأنهم يرفعون هموم الإنسان المعاصر بلا طائل، وهم يصوبون كرة اليد داخل المرمى وكأنهم يرجمون الشر المتربص بالأبرياء، إلى آخر هذا الإنجاز والإعجاز وأنا – مثلى مثل الناس- أشاهد كل هذا وأعجب به أشد الإعجاب وأبلغه، هل توجد حركة أكثر سرعة وإثارة من كل ذلك؟ “ثم ماذا؟”
كنت أشاهد أحد أبطال الجرى الذين حققوا إعجازا حتى على أنفسهم، لا أذكر جنسيته (أو قل لا أريد أن أتذكرها، ربما حقدا، وربما خجلا)، كان قد تفوق على الرقم القياسى العالمى السابق، وهو الذى سبق أن حققه هو أيضا سنة 1994، تفوق عليه بمقدار ثلاثة من مائة من الثانية (0.03). رحت أطالع هذا الفتى العظيم وقد ارتسم على وجهه شعور ليس له اسم، شعور أكبر من الفرحة، وأعمق من الفخر، تذكرت وصف باتريك زوسكيند فى روايته الرائعة “العطر” (4)، وهو يصف شعور بطلها”القاتل” جان باتيست غرنوي” بعد أن خلق عالمه من الروائح السرية المبتكرة، كان قد انفصل عن العالم والبشر بروائحهم الخاصة والمثيرة والمقززة، فخلق لنفسه عالما ملأه بالقتل الذى حقق له شهوة لا مثيل لها واصفا فعله هذا بأنه “.. هذا الفعل الماحق للقضاء على الروائح القذرة كلها، فعلا مريحا جدا ..لأنه يوفر الشعور بالإرهاق الناتج عن الإنـجاز”، لم أفهم آنذاك كيف يكون الإرهاق الناتج عن الإنجاز مريحا بكل هذا السحر إلا وأنا أشاهد وجه هذا الفتى الأولمبى بعد أن تفوق على نفسه بعد ست سنوات، فحطم رقمه القياسى بفارق ثلاثة من المائة من الثانية !!
انتبهت إلى أننا (نحن البشر) نمارس طقسا منذ آلاف السنين نقدس من خلاله هذا الإنجاز التنافسى الكمى المهاراتي؟ وكأنه غاية المراد من رب العباد؟
هذه حركة ليس كمثلها حركة -العدو بسرعة نفاثة – لمجرد الوصول إلى “خط النهاية”، يفعلها البطل - أدام الله عليه الصحة – فنتبعه منبهرين متقمصين إنجازه حتى نصل معه إلى هدفه!!.
إن مجرد مراجعتنا لكيفية استعمال تعبير “خط النهاية” قد يصلح لتنبيهنا إلى ما تسوقنا إليه مثل هذه الحركة اللاهثة. نحن -عبر العالم – لم نتبين زيف كل ما هو نهاية مغلقة مثلما تبيناه من شطح وغرور فوكوياما وهو يعلن “نهاية التاريخ” ،قبل أن ينتبه إلى ما هو نهاية أخطر (نهاية الإنسان).
إن أظهر ما تظهر فيه الحركة الزائفة هى حلبة التنافس الفردى المحموم. إن أى واحد خليق أن يكتشف مدى اللاجدوى فى كثير مما يقوم به ويجرى حوله من تنافس يتسارع فيه معظم الناس (إن لم يكن كلهم) . هذه طبيعة بشرية مفيدة فى الأغلب، لكن أن تقتصر حركية حياتنا على ذلك، فهذا ما أردت التنبيه إليه مطولا فى هذا المثال الصارخ من الأولمبياد!!
على غرار إعادة قراءة هذا المثال المطول يمكن أن نراجع كثيرا من أنواع التنافس التى نمارسها بكل إخلاص، لنحقق منها قدرا من القتل “الجميل” بالإنجاز المرهق:!!! يبدو أن ذلك الإرهاق الناتج عن الإنجاز. هو شعور مريح جدا بحيث يمكن أن يفسر لنا كثيرا من نشاطاتنا وحركتنا، فى كثير من المجالات.
وفيما يلى سوف أحاول أن أقدم بعض أمثلة أكثر لما هو: الحركة الجمود، ثم التسكين بالحركة.
الحركة الجمود
1- إن السعار الاستهلاكى، على ما به من تنافس وأصوات ، ودعاية، وإغراءات ملاحقة تكاد تجرى وراءك وأمامك وحولك طول الوقت، ليس إلا حركة زائفة لأنه لا يؤدى إلا إلى “تراكم الامتلاك” إلا مزيد من المزيد المزدحم.
2- إن تعملق السلطة لتثبيت وضعها واستمراره، يحتاج حركة هائلة تصل إلى حد إشعال الحروب، وهو ليس إلا حيلولة منظمة ضد حركية الجدل وتفاعل وحدات الحياة.
3- إن كثيرا من مظاهر ما يسمى البحث العلمى، ليست سوى حركة فى المحل إذا ما رضى الباحث أن يسجن فى منهج قديم مصمت، ناهيك عن النشاط المحموم الذى يكون هدف البحث منه مجرد النشر، أو تحقيق متطلبات الترقى، لا حفز الكشف وإرواء الدهشة. إن بحثا بلا فرض ينشأ من حيرة فى مواجهة الواقع والقديم، أو بحثا بلا مراجعة للمنهج جنبا إلى جنب مع قراءة النتائج، هو حركة زائفة لا أكثر. فهو الجمود والضياع.
4- حتى الحركات الثورية التى تهدف بكل وضوح إلى التغيير الجذرى الذى عجزت قوانين الواقع السائد عن تحقيقه، يمكن أن تنتهى إلى حركات مجهضة هامدة، لا تحمل مقومات جدل النمو الحيوى.
التجميد المنظم
أعرج بعد ذلك لعرض بعض أنواع ما أسميته التجميد المنظم ونحن نمارسه طول الوقت باسم آخر.
(1) تجميد استلهام النصوص المقدسة الحاملة للوحى الإيمانى بالاقتصار على التفسيرات الثابتة.
(2) قتل تطور اللغة بتقديس المعاجم التى ليست إلا مرحلة تاريخية محدودة من تطور اللغة (ولا يخفى كيف أثر هذا القتل التسكينى على ما جاء فى (1).
(3) التسكين الأيديولوجى المعلن والخفى من خلال جمود مذهب، أو عقيدة، (حتى لو تسمى بأرق الأسماء وأشرفها: مثل التنوير أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان… إلخ)
(4) الانغمار بالمعلومات دون تدريب كاف على الانتقائية، حتى تسـد مسام التلقى بالتشبع فالشلل.
(5) العرقلة بالتخمة الاستهلاكية.
(6) الاستسلام النشط لرفاهية اليأس حتى التوقف.
(7) النفخ فى نفير المستقبل طول الوقت تأجيلا لحمل مسئولية اللحظة الراهنة.
إفاقة ومحاذير ومحكات
بعد كل ذلك، تجدر الإشارة إلى بعض ما يعيننا أفرادا وجماعات على التمييز بين الشحم والورم، بين الزيف والحقيقة، بين الناس وأشباههم، بين حكومات الظل الظاهرة كأنها تحكم، وحكومات الفعل الخفية التى تفرض كل شروطها فى دهاليز المال. أى بين الحركة الحقيقية والدوران فى المحل فالتدهور والتناثر.
أولا: إن فرط الوعى بظاهر الحركة، أو تحديد مسارها ابتداء، هو ضد كل تاريخ التطور، المطلوب إذا شئنا أن نتجنب خداع الجلبة الخاوية والسير فى المحل، هو أن نعرف كيف نميز زيف الحركات المخاتلة والمعطلة من حقيقة الحركة النابضة الجدلية المبدعة.
ثانيا: إن خوض تجربة الحياة – أفرادا وجماعات وشعوبا- يتطلب استيعاب حركية الوجود فعلا ماثلا على أرض الواقع. علينا ألا نقصر حماسنا على تدارس وتكرار تجارب بضعة آلاف من السنين نعرف بعض ما جرى فيها عن البشر ومنهم، علينا أن نطلق لخيالنا، وحدسنا، وإبداعنا وعلومنا العنان لاحتواء كل تاريخ الإنسان من إيمان وأساطير وإنجازات ومبادئ، دون السماح باحتكار فئة من الناس كتابة “جدول ضرب الحياة التنويرية الديمقراطية الحربية المعاصرة”، إن الاقتصار على استلهام دروس حياتنا من خلال الرجوع إلى بضع آلاف من السنين المكتوبة على الورق قد يحرمنا من استلهام تاريخنا الحقيقى المثبت فى الدنا DNA بطول تاريخ الأحياء كلها.
ثالثا: علينا أن نتذكر دور الإيقاع الحيوى Bio-rhythm فى تنظيم الكون طولا (تاريخا) وعرضا (من أول إيقاع التفاعل البيوكيميائى حتى دورات الأفلاك، مرورا بأوضح صوره العضلية مثل: نبضات القلب المنتظمة، وأيضا بأكمل وأجمل صوره المرتبطة بالوعى أى: دورات اليقظة/ النوم/ الحلم/ الإبداع)، إن هذا البعد فى أصل جدله إنما يؤكد لنا أننا بقدر ما نحتاج إلى الحركة (دفع القلب للدم مثلا فى طور الانقباض أو البسط (Systole) نحن نحتاج للاسترخاء المتلقى الذى يبدو سكونا (ما يقابل دور الانبساط أو الامتلاء فى دورة القلب (Diastole) إن هذا القانون هو الذى يصالح الحركة الدافقة مع السكون الممتلئ، هو الذى يصالح الثورة مع فترات استيعاب آثارها، ومع التمهيد للثورة التالية ، وقديما كان نفس قانون الإيقاع الحيوى يمكن أن يستوعب دورات الحرب والسلام (لولا أن أسلحة وميزان القوى أصبحت أخطر من أى طبيعة تطورية).
إن الحركة الحقيقية، والسكون الضرورى، لا يمكن استيعابهما إلا من خلال حركية هذا الإيقاع الحيوى الذى يعلمنا أن “السكون/الامتلاء” هو الذى يعطى للحركة إيجابياتها، وأن “الحركة/البسط” هى التى تستوعب ما امتلأ به الوعى تاريخا وحاضرا.
رابعا: إن الحركة لا تكون إيجابية بدوام التقدم الخطى إلى أمام، إن الحركة الطبيعية فى النمو والتطور هى تحقيق لما يسمى برنامج (رحلات) الدخول والخروج (أو الذهاب والعودة(In-and-out program ، إن تأكيد هذا المفهوم هو جدير أن يسمح لنا بالعمل الإيجابى الاستيعابى حتى ونحن على ضلع التراجع، كما أنه هو هو الذى يحدد إيجابية الحركة ليس باستمرار اضطرادها، إلى الأمام دائما ولكن بأن يكون ضلع التقدم أطول من ضلع التراجع فى كل دورة.
خامسا: إن تقييم إيجابية الحركة من سلبيتها أو ثبوتها لا ينبغى أن يكون تقييما كميا فحسب، بمعنى أن التقدم لا يقاس بقدر ما نحققه كميا مما نتصوره إيجابيا (الرفاهية أو السعادة أو الاستهلاك أو القوة..إلخ)، ولكن تكتمل إيجابية الحركة بمدى التغير النوعى الذى يتحقق فى كل دورة نبض حيوى (دورة نمو). ليس معنى هذا أن يكون التغير النوعى وحده هو المقياس، ذلك لأن التغير النوعى يأتى نتيجة لتراكمات كمية متفاعلة تمهد له حتى يظهر.
سادسا: أن نتذكر أن للسكون والتجمد دورا دفاعيا هاما حين يكونا للحفاظ المؤقت على الحياة. هذا ما تفعله الحرباء حين تسكن بجوار صخرة لها نفس ألوانها، حتى يحسبها المهاجم صخرة أخرى بلا حراك، فيرجح أنه لا فائدة من مهاجمتها، وهو نفس الجمود الدفاعى الذى وصف فى الحرب العالمية الأولى حين كان الجنود يتجمدون كالأصنام من هول القذف بما سمى “صدمة التقوقع” Shell Shock وهو هو ما يفسر التصلب الكاتاتونى Catatonia الذى قد يلجأ إليه المريض الفصامى أساسا كنوع من الدفاع ضد التفسخ والتحلل والعدم.
بعد إفاقته، وصف لى أحد أصدقائى من المرضى ما كان يغمره من هول الخوف أثناء نوبة تجمده بالكاتاتونيا، وكيف أنه كان يشعر بالموت ماثلا كأن “الآخر” غول سوف يلتهمه إذا هو هم بتحريك عقلة إصبعه، أو حتى إذا هو زاد فى تعميق شهيقه، لم أملك إلا أن أتقمصه حتى عشت كيف يكون الجمود مناورة تأجيل ناجحة تحفظ الحياة وتمنع التناثر حتى يلملم الكائن الإنسان نفسه ما أمكن ذلك.
بلغ من تقمصى صديقى الكاتاتونى هذا أن كتبت قصيدة على لسانه بعنوان “أخاف همس الصمت” أدافع فى النهاية عن حق الإنسان فى التجمد مؤقتا حتى يستعيد نفسه. هذا أفضل من أن يلف فى مدار غيره الذى رسمه هذا الغير بكل غباء التدهور لضياع الكل، وكذلك أفضل من وهم الحركة ونحن ثابتون فى النقطة غير الحصينة، أو ونحن ننسحب إلى الخلف ذاهلين.
وقد جاء كامل هذا النص فى مقال لاحق “أخافُ همس الصمت” (عدد أبريل 2005) ونشر كاملا مع هذه المجموعة).
****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد ديسمبر 2002)
[3] – نجيب محفوظ:”ملحمة الحرافيش”، مكتبة مصر، سنة 1985.
[4] – باتريك زوسكيند: “العطر” ترجمة: د. نبيل الحفار، دار المدى للثقافة والنشر، سنة 1997.