نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 12-4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4606
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (13)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
تاريخ التطور الحيوى فى مواجهة مناهج الاغتراب والتفتيت والتدهور (2)
“إن الدنيا بالخارج تمطر حامض “دنا” DNA على شفة قناة أوكسفود، أسفل حديقتى ثمة شجرة صفصاف كبيرة، وهى تضخ فى الهواء بذورا ذات زغب. ويتحرك الهواء بلا نظام، فتنجرف البذور إلى الخارج من الشجرة فى كل اتجاه …….، …
هذه مقتطفات من فقرة طويلة نسبيا، لم أقتفطها من قصيدة حديثة، ولم أرتبها من شطح خيال مريض فصامى يسمح له أن يرى حامض دنا وهو ينزل رذاذا كالمطر الطل، ليمطر الطبيعة بالمعلومات الجينية المبرمجة. إنها نص ما جاء فى مقدمة الفصل الخامس من كتاب علمى عن “الجديد فى الانتخاب الطبيعي” (3)
ما الحكاية بالضبط؟
ما هو الفرق بين الفطرة والبدائية والعشوائية؟
وما الفرق بين البرنامج والمنهج ؟
وهل لا بد أن يكون المنهج معلنا حتى نعترف به، ونستطيع تقييمه ؟
وهل لا بد أن نعى بالفكر الظاهر: أى منهج نتبع؟
وهل يمكن أن نعرف المنهج “الذى كان” من خلال النتائج حتى لو لم نعرف المقدمات؟
إن تعليل تخلفنا المتمادى المهدد لوجودنا، والمعوق لمسارنا بغياب المنهج وتمادى ما يسمى العشوائية هو أمر يحتاج إلى نظر طويل.
روعة التطور وقوانينه
إن تاريخ التطور الحيوى، فيه حل لألغاز كثيرة، إن الإنسان بكل ما يميزه، (وما يعيبه) هو هذا الناتج الرائع لمسيرة التطور عبر ملايين السنين، ومع ذلك فهو الذى راح يسخر معظم جهوده بأذكى أنواع الغباء لإنكار تاريخه صراحة أو ضمنا، إنه لم يتخلق هكذا إلا بناء على قوانين محكمة جعلته يظهر حالا بهذا التركيب الذى لا يمكن أن يتحقق إلا بأدق القوانين وأسلمها عبر التاريخ.
إن مراجعة بسيطة لتاريخ التطور من أى نوع إلى نوع أرقى، سواء بالتشريج المقارن، أم بعلم الأجنة المقارن، أم بالنظر فى ترتيب مستويات الدماغ هيراركيا وتراجع الأحدث أمام الأقدم فى خبرة الجنون، أم بالتفهم اللائق لخيال دارون وولاس اللذان اجتهدا في حل لغز بزوغ هذا التصميم البديع المركب من تلك البساطة البدائية الرائعة، إن كل ذلك لا بد أن ينبهنا أن ما نسميه فطرة أو تلقائية أو حتى عشوائية ليست إلا إعلان عن جهل مركب بالقوانين الأعمق والبرامج الأذكى البعيدة عن إدراكنا المباشر حالا.
إن التدهور الذى قد يلحق بجماعة من البشر، أو بكل البشر، حسب المخاطر المتزايدة حديثا، لا يكفى أن يفسر ببساطة بأن القوانين التى أوصلتنا لما نحن فيه قد بطل مفعولها بانتهاء عمرها الافتراضى، إن ثم تدخلا لاحقا يجرى حاليا يتدخل فى هذه القوانين ليفسدها ويعطلها.
إن البداية الحقيقية للبحث عن أسباب التدهور المحتمل، تستلزم محاولة الاستفادة الجادة من فهم هذا السبق الرائع لانتصار الحياة التى صنعت هذا الإنسان الذى يحاول- مؤخرا بغباء منقطع النظير- أن ينكر تاريخه بسيطرة ظاهر وعيه.
محنة الوعى البشرى
حين امتحن الإنسان بمحنة الوعى، أصبح التخطيط بمنهج ما، والالتزام بتنفيذه من ضمن امتحانات البقاء التى طرحت سؤالا لم يسبق لما نعرف من الأحياء أن واجهوه، يمكن صياغة هذا السؤال على الوجه التالى:
هل نجح الوعى البشرى الظاهر، بفضل اتساقه مع الفهم والتخطيط والتدبير وتصميمات الأناقة البيولوجية التطورية المركبة، هل نجح أن يستوعب تاريخه وهو يضع برامجه، ويحدد المناهج التى يوجه بها فكره ليحدد مساره؟ أم أنه ضل الطريق حين أصبح وصيا على قوانين البقاء الطبيعية ؟
هذه هى الإشكالة التى تواجه البشر هذه الأيام بحدة غير مسبوقة. إن تلقائية التطور قد نجحت عبر ملايين السنين بمنهج تلقائى محكم، قضى على من قضى، وأبقى على من أبقى. لكن الذى يحدث الآن – بعد أن تدخل الإنسان بروعة خطيرة فى منهج التطور- أن حسابات أخرى أصبحت تتدخل فى كل من صياغات المنهج وتنفيذه. هذه نقلة تطورية بلا أدنى شك، لكن من قال إن كل نقلة تحمل ضمان نجاحها؟ إن من الطفرات ما يمكن أن يقضى على جنس بأكمله.
القضية الآن، ولعلها ترجع إلى عشرات القرون، أن الإنسان يتصور أنه امتلك أدوات التخطيط لمساره ومصيره، (تحت مسميات متعددة حسب المجال واللغة، مثل: علوم المستقبل، ودراسات الجدوى، والتخطيط، والهندسة الوراثية، وعلم تحسين النوع…إلخ) مع انتباه أقل إلى وحدة الزمن التى يلزم أن نتعامل بها فى هذا الصدد، والتى لا يمكن أن يتحقق تطور إلا من خلالها، وأيضا: بأقل قدر من الاستفادة من تاريخ التطور الرائع.
لم يقتصر غرور الإنسان الحديث وهو يخطط مساره ليحدد مصيره على توفير ما يحافظ على استمرار الحياة للبشر، أو لبعض طبقاته، وإنما امتد إلى التخطيط لنوعية التواجد على هذه الأرض، بل وتمادى مؤخرا للتخطيط بالتدخل فى نوعية البشر أنفسهم (بالهندسة الوراثية الرائعة المخيفة)، ثم لتحديد موعد وشكل”نهاية التاريخ”
طفرة خطيرة
نحن لا نعرف فى تاريخ الحياة، بما فى ذلك مملكة النحل، أن طبقة خاصة من نوع من الأحياء قد اختصت بالتخطيط لسائر نوعها حفاظا على استمراره، إن كل فرد من أفراد جنس ما كان دائما وأبدا مسئولا – دون وعي- عن سائر أفراد جنسه. وقد ظل الجنس البشرى طول تاريخه ينقسم على نفسه إلى طبقات وعناصر تتصارع أكثر منها تتآلف حتى كادت تودى بالجميع فى بعض فترات تطوره، لكن الثابت حتى الآن أن الأمور سارت إلى ما حافظ على استمرار الإنسان ضمن من استمر من أحياء وهو يؤكد تفوقه.
لكن حسابات أحدث راحت تلوّح بقفزة تطورية غير مسبوقة، وفى نفس الوقت بخطر الانقراض نتيجة لخطإ متسارع بشكل غير مقصود، ذلك أن الإنجازات الأحدث التى أتاحت فرص تضاعف قفزات التطور لصالح الأرقى، هى هى التى قد تسمح بخطورة تمادى الأخطاء بسرعة لا يمكن اللحاق بها قبل تمام الدمار الشامل.
البشر الآن يتصلون ببعضهم البعض دون إذن، وهم فى نفس الوقت يرضخون لتشويه مبرمج دون اختيار.، ومع تمادى محاولات السيطرة على ناحية، وتزايد المقاومة رغم ضعف إمكانياتها على الناحية الأخرى : يكاد العالم ينقسم إلى قسمين رئيسيين بطريقة غير مسبوقة، فـ”الذى يستطيع” “يفعل”، وما يفعله قد لا يكون هو الصواب، مهما بدت حبكة منهجه، وهو قد يضر نفسه بل وقد يعجل بنهاية نوعه، و”الذى لا يستطيع” يصيح أو يرسم أو يغنى أو يقوم بمظاهرة هنا أو ينظم مؤتمرا هناك، وقد ينتحر احتجاجا أو يأسا أو إنذارا، فيبدو لأول وهله أنها معركة خاسرة للطرفين، فالأقوى هو الأغبى والأسرع، والمتخلف، وبرغم قربه للطبيعة، هو عاجز تماما.
“الذى يستطيع” يزعم أنه صاحب منهج محكم، ورؤية مبرمجة، وخطة كاملة ترسم التاريخ حتى نهايته، لصالح فئته ورؤيته ومثـله التى اصطنعها لنفسه، ولم يستلهمها من تاريخ الحياة، فى حين أن”الذى لا يستطيع” يُتهم بالفوضوية والتخلف والعشوائية، وهو لم يعد قادرا على الاحتماء بقوانين الطبيعة التى أوصلته إلى هذا المركز المتفوق على الأحياء المعروفة، لأنه تنكر لها خفية
إن الطبيعة لا تقاوم من ينكر قوانيها لكنها تلفظه فينقرض، كما أنها لا تدعم من يكسل عن اتباع قوانينها حتى العجز، وهى تلفظه أيضا بنفس الحسم.
النتيجة أن “الذى يستطيع” يتخلى عن الطبيعة أو هى تتخلى عنه، لتتركه مسجونا فى منهج شديد الإحكام والنجاح، لكنه يفتقر الاتصال بالأصل الذى أوصله إلى قدراته تلك، فهو يتنازل عن تاريخه الممتد ليتسلح بغروره المهلك، ثم هو يقود العاجز إلى حيث لا يدرى.
وبرغم كل ذلك، فمهما بلغ الشك فى المنهج المحكم المغلق الجاهز القامع، فإنه لا يمكن أن يكون مبررا لأن يقف أى واحد ليدافع عن غياب المنهج، أو ليقف بجانب العشوائية (كيفما اتفق). إن منهجا زائفا صلبا وقاهرا مهما بلغ طغيانه وغباؤه هو أفضل – مرحليا – من اللامنهج، فالمنهج الزائف يحمل مقومات هدمه من واقع زيفه، كما أنه قد يستثير ضده ليحل محله. أما (تصور) اللامنهج – مع الانفصال عن الطبيعة- فهو يتيح عمل مناهج خفية مدمرة، بلا أمل فى رصدها لتجاوزها.
قياس حذر
يمثل المرض النفسى من منظور تطورى فرصة نادرة للتعرف على تاريخ التطور الحيوى، وتكبيره والنظر فيه حالا، بعد أن يتعرى الغطاء الأحدث، كما يمثل تاريخ تطور الطب النفسى نموذجا مصغرا يمكن القياس عليه بحذر شديد.
لقد مر الطب النفسى الحديث أثناء تطوره بمرحلة خطيرة، حين ظهرت وتمادت الحركة المناهضة للطب النفسى المسماة “ضد الطب النفسى”،Anti-Psychiatry بدأ ذلك فى أعقاب الحرب العالمية الثانية فى أكثر من بقعة فى العالم معا (مثلا: فى إنجلترا: هـ .لانج، د.كوبر، وفى أمريكا: ت. زاس، وفى إيطاليا: بازاجليا….إلخ) ثم بالغت هذه الحركة فى البحث عن “معنى للجنون” باعتباره موقفا احتجاجيا ضد الاغتراب المعاصر واعتبرت أن هذا الاغتراب هو الذى أدى ضمن مضاعفاته إلى الحرب العالمية الثانية. وأن العجز عن مواجهته هو التفسير المناسب لغلبة هذا الاحتجاج المبرر (الجنون). لكن هذه الحركات التى حاولت البحث عن الغاية والمعنى وراء ”تناثر العقل وتفكك الذات” حتى الجنون (فالقتل الجماعى) تمادت فى موقفها العدمى”ضد” المنهج و”ضد” السلطة و”ضد” العقاقير، حتى كاد المتابع لسرعة انتشارها يعلن – ولو فى تردد – أن “الجنون هو الحل”. ومثل كل حركات الأضعف، التى يغلب فيها الحماس على التخطيط، والنفى على الإبداع، انتهت إلى فشل ذريع، ليس لأنها خطأ مطلق، ولكن لاعتمادها على الهجوم على منهج جامد زائف دون (أو قبل) وضع منهج بديل، إن ثورة المجنون فى بداية الرفض هى ثورة ما فى ذلك شك، لكنها فى النهاية تحطيم على مبدأ “علىَّ وعلى أعدائي”، وفى كثير من الأحيان تكون النتيجة هى “علىّ دون أعدائى”.
لا يمكن إنكار أن للمجنون منهجه الخاص فى الاحتجاج. فهو مهما بدا متناثرا مفككا على السطح، إلا أن الممارس للعلاج العميق مع هذه الفئة التى نتصور أنها تمثل قمة عشوائية تناثر العقل، لا بد أن يتعرف وهو يغوص مع مريضه إلى أعماقه على مدى صلابة عناده، وقوة أسلوبه المتمادى فى تحطيم ذاته وهو يتصور أنه يحطم عدوه المتسبب فيما صار إليه. إن تمسك المجنون بالحل الفاشل لا يعادله إلا تمسك المغترب بالحل الزائف.
الذى يحدث عبر العالم الآن هو نموذج أشبه بهذا الحل بالجنون مقابل الضياع بالاغتراب، الحل بالتفكك فى مقابل التشويه بالزيف، وكلاهما يحمل منهجا خاصا به، وكلا الطريقين يشتركان فى تهديد الجنس البشرى بالانقراض.
يكاد التخلف المهترئ الذى يعيشه العالم الأفقر (الذى لم يعد محدودا بجغرافيا أو بتاريخ بذاته) أن يكون أقرب إلى الالتزام بمنهج الاحتجاج السلبى بهدف تحطيم العالم الذى يسحقه، ولا مانع عنده أن يتحطم معه.
كما أن التقدم الزائف الذى يتطاول كل يوم فى البنيان بعيدا عن الأوطان والحكومات بل وحتى الأفراد، يبدو وكأنه قد نسى هدفه تماما، فراح يتمادى “فيما يفعل فقط”. يتمثل ذلك فى المسار الذى تمثله ما يسمى الآن “الشركات العابرة للأوطان، ثم للقارات، ثم لأصحابها”. أصبحت القوى المتحكمة فى العالم تسخر كل الأدوات والمناهج، بما فى ذلك المناهج العلمية، والتجريبية والمعلوماتية وحتى الدينية (الأصولية والمستحدثة جميعا) لصالح “ما لا تعرف”.
وللأسف، مثلما هو الحال فى الجنون، تواجه قوى الاحتجاج الأضعف كل ذلك بإحياء العصبية البدائية، والتسليم لمنهج التفكيك دون أية قدرة على إعادة البناء. وقد ترفع أثناء ذلك شعارات لافتة صحيحة لا فائدة منها، رغم حكمتها (مثل “حكمة المجانين”) شعارات مثل: الرجوع للأصل والتمسك بالفطرة، والفخر بالقديم، وضرورة العدل… إلخ..(راجع بيانات قمة الأرض مؤخرا) .
إن هذا الموقف الصعب ينبهنا أن علينا ألا نرجع باللائمة على أحد الطرفين دون الآخر، نحن نحتاج إلى نظر أعمق من مجرد التراشق بالاتهامات. إن فروضا قديمة ينبغى أن تتجدد، كما أننا نحتاج إلى فروض حديثة تسهم فى جلاء الموقف أكثر فأكثر، ومن ذلك:
الفروض
أولا: إن معظم الأحياء التى حافظت على بقائها تؤكد من خلال ذلك أنها اتبعت منهجا ممتازا ناجحا سمح لها بالبقاء حتى الآن.
ثانيا: إن المنهج لا يحتاج دائما أن يكون معلنا، إنه قد يوجد سواء عرفناه قبل البدء فى الفعل أم استنتجناه بعد تحقق فاعليته. إن المنهج يمكن أن يُستـَنـْتَجُ بنتائجه، بقدر ما يمكن أن يُختبر بمقدماته.
ثالثا: إن الوعى الذى ابتلى به الإنسان قد ميزه وشرفه، وفى نفس الوقت قد وضعه فى مأزق خطير، فهو يلزمه أن يتبع منهجا يتفق مع ما يمتلك من فكر وخيال وإبداع، ويمده بأدوات تقنية ومعلوماتية تضاعف قدراته على التحكم فى التطور، لكنه يحمله مسئولية الوقوع فى خطأ قد يكون كافيا لانقراضه.
رابعا: إن التدهور الذى نعانيه نحن وأمثالنا لا يمكن أن يعزى -ببساطة- لغياب المنهج، بل إن الأصوب أن نبحث عن منهج خفى نمارسه فى إصرار (بعناد مجنون) ونحن نتمادى فى التحطيم والتدهور، فى حين نتصور أننا نحتج ونختلف. إن المسئول ليس مجرد غياب المنهج، بل اتباع منهج مدمر، حتى لو لم نتبين معالمه بوضوح كاف.
خامسا: إن المدخل الصحيح هو إعادة النظر فى علاقتنا بالطبيعة الآنية وأيضا، وربما أهم، هو حسن مراجعة التاريخ الطبيعى للأحياء، لعلنا نتدارك الأمر باستكشاف ماذا حفظ، و يحفظ، البقاء الحقيقى للأحياء بما فى ذلك الإنسان بما حقق من تميز وقيادة وريادة ووعى وإبداع.
الإنسان والطبيعة
إن الممارسة الحياتية الآنية بكل أخطائها إذا ما نظر إليها من خلال دروس التاريخ الحيوى، وصولا إلى التاريخ البشرى، لا بد أن تؤكد لنا أن الفرصة ما زالت سانحة للتجمع والتواصل لتدارك الخطأ قبل فوات الأوان.
المطلوب هو البحث عن المنهج الذى يصالح الإنسان على تاريخه، وفى نفس الوقت يحافظ على استمرار تنمية كل ما أسهم فى نجاح رحلته التطورية حتى صقل أحدث مناهجه وأدواته من خلال قدراته ووعيه الفائق الحديث.
ليس معنى اكتسابنا للوعى أن ننفصل عن الطبيعة ثم نكتفى بالاهتمام بتنظيفها بعد تسميتها “البيئة” لحساب استمرار ما نتصوره، إن التعامل الأسلم مع الطبيعة هو التعمق لاستخراج منهجها الذى أفرزنا بفضل الله. إن الطبيعة هى المنبع، والطبيعة هى المصب، ونحن جزء لا يتجزأ من هذا وذاك.
إن الطبيعة ليست محيطا منفصلا عنا مثل بيت نسكنه ونحن نحرص على ترتيبه على مزاجنا. إنها ليست مجالا خارجا عنا يتلوث أو يـنظف حسب حرصنا على ما نلقى فيه أو ننفث عبره، الطبيعة هى نحن شخصيا.
لا يمكن أن نمنع تلوث الطبيعة بالتعاقد مع شركات مثل شركات النظافة فى الإسكندرية أو القاهرة، المطلوب هو التصالح مع الطبيعة والحوار المتصل وإياها لتواصل مسيرتها لصالح ما تعد به كما علمنا التطور.
المواجهة والأمل
كما جاء فى المقدمة، فإن ما يمر به الإنسان من تهديد بالانقراض ليس جديدا، وحتى لو كانت الأدوات المتاحة تنذر باحتمال التسارع بالنهاية قبل المراجعة، فإن نفس هذه الأدوات هى القادرة على رأب الصدع وتعديل المسار.
الأمل هو أن نرفض التفسيرات المتعجلة مثل تبرير تخلفنا بافتقارنا إلى المنهج والتمادى فى العشوائية، أتصور – للأسف - أننا نمارس منهجا لا تجارى كفاءته لتحطيم أنفسنا، إن ما يجرى فى “داخلنا” ليبرر الكسل والتقاعس وإلقاء اللوم على غيرنا (التفسير التآمرى) كما يبرر التأجيل والبيانات والاكتفاء بالتصريح والتلويح بالفعل دون الفعل، وغير ذلك، هو من معالم هذا المنهج السلبى الخفى القادر على تدميرنا، دون أى جهد منهم.
إن الزعم بأن ما آل إليه حالنا إليه هو نتيجة للافتقار للمنهج وليس نتيجة لممارسة منهج خفى مدمر، يبدو وكأنه دعوة ضمنية لاتباع منهج مستورد حسب احيتاجاتهم لاستعمالنا، لتحقيق ما يتصورونه نموذجا لغاية ما يمكن للإنسان أن يحققه (نهاية التاريخ).
لا مانع أن نكون خدما إذا كنا غير قادرين على غير ذلك، ولا ما نع أن نتبع منهجهم إذا كنا لا نملك إلا منهج تدمير أنفسنا بأنفسنا، لكن ليكن هذا معلنا بدلا من استسهال التفسير بغياب المنهج، مع التلويح بوعود لتحقيق أهداف لم نـشترك فى صياغتها، ولا هى تنفعهم، ولا هى تحقق ما هو نحن أو ما خلقنا الله له.
إذن ماذا؟
ليس عندى أية رغبة فى المغامرة بعرض منهج بديل، لعجزى عن ذلك من جهة، ولأن أى منهج لا يمكن البدء فى تطبيقه الآن، يصبح – على أحسن الفروض – يوتوبيا معطـلة. كل ما أستطيع تقديمه هو أن أعرض خطوطا عريضة مستلهمة من تاريخ التطور الحيوى الرائع.
إن أى منهج يهتم بجزء دون الكل، أو ينمى مستوى من الوعى على حساب آخر، حتى لو كان هذا المستوى هو الأحدث قد ينجح فى تحقيق مهمته المحدودة، لكنه أبدا لا يحقق إنسانية الإنسان كما خـلق.
إن ما يبدو من افتقارنا – نحن المتخلفين- إلى منهج واضح ينبغى ألا يلهينا عن حقيقة أننا نسهم فى إتباع منهج مدمر يسرع باستبعادنا وهلاكنا أولا، ثم يحرمهم من جدل محتمل قد ينقذنا معهم من تدهور حتمى إذا اقتصر الأمر على زيفهم الأوحد.
ومع ذلك فإنه ربما يكون من الأفضل لنا أن نتقن منهجا زائفا من أن نخدع أنفسنا باحتجاح عدمى ونحن نتصور أننا لا نمارس منهجا أصلا، فى حين أن جهدنا كله موجه -فى الخفاء – للاستمرار فى ممارسة مناهج سلبية تقوم بالواجب فى تسهيل تحطيمنا وتهميشنا، وتوفر عليهم جهد محاولة الخلاص منا إذا ما يئسوا من استعمالنا.
(ملحوظة: هم، ترجع إلى أهل الزيف العابر للقارات والبشر والتاريخ، و”نحن” ترجع إلى المستضعفين فى الأرض، ظالمى أنفسهم، من كل جنس ولون ودين)
إن المنهج الذى نحتاجه، بل ويحتاجه كل البشر، يبدأ من إعادة النظر للتعمق فى فهم كيف نجحت مسيرة التطور حتى الآن. إن وضوح علاقتنا بالطبيعة، وتحديد طريقة ممارسة هذه العلاقة بالفن والإيمان المبدع وشحذ العبادة، واحتمال تنمية هذه العلاقة بالممارسة الحقيقية عبر تربية متكاملة، هى التى تجعل للمناهج المحكمة الأحدث معنى وقيمة فى إثراء الحياة واستكمال مسار التطور الحقيقى الذى يعد به تاريخ هذا الجنس البشرى الرائع.
الأمل الآن هو أن يحقق الانقسام الذى حدث فى العالم ما بين القوى المسيطرة على ما لا تعرف، وبين القوى المقاومة لذلك، هو أن تسهل وسائل التواصل والتوصيل فى تحديد أهداف جديدة للجنس البشرى تليق بتاريخه، أهداف يمكن أن تقاس بمحكات جديدة غير المحكات الكمية الاستهلاكية، وبالتالى يمكن أن نحققها بمناهج جديدة.
كان الإنسان قديما يحتاج بين الحين والحين إلى وحى من السماء يصحح مساره كلما انحرف، وكانت رحمة الله ترسل له الرسول تلو الرسول يحقق ذلك فى بقعة جغرافية بذاتها، ثم تنتشر أو لا تنشر رسالته بقدر ما لم تتشوه ولم تستول عليها حركات مضادة باسمها، ثم ختم الله النبوات بمحمد عليه الصلاة والسلام ليحمل الإنسان مسئولية تعديل مساره دون انتظار نبى جديد أو دين جديد، وحين وصلتنى هذه الرسالة من فيلسوف الإسلام الشاعر محمد إقبال قلت فى كتابى “حكمة المجانين” “لسنا فى حاجة إلى دين جديد ولكننا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء”.
الفرصة الآن أرحب بعد أن أصبح الناس من كل حدب وصوب، على كل دين ولون، قادرين على التواصل لرفض وصاية المناهج المغلقة، ورفض الاقتصار على غلبة وعى كمى، ورفض التسليم لنوعية حياة رخوة أو لذية بحتة، ورفض الانخداع بتصور غياب المنهج.
وفى نفس الوقت أصبح الناس قادرين على التعاون فيما بينهم لابتداع مناهج جديدة، حتى لا يقعوا فى مأزق يشبه مأزق الجنون الذى يقتصر على الرفض دون البديل.
****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد أكتوبر 2002)، كان العنوان الأصلى: “ثورة المجنون واحتمالات مآلها الإيجابى!” لكننى فضلت العنوان الحالى.
[3] – تأليف ريتشارد وكنز، وهو كتاب كتب بحب شديد للحياة واحترام بالغ للتطور، ترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، بنفس الحب والجمال، وقد حذفت بقية المقتطف لصعوبته البالغة. الهيئة المصرية العامة للكتاب- سنة 2005.