الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (8 من ؟)

من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (8 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 13-4-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4607

من كتاب:

الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)

الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (8 من ؟)

……………

(مازلنا) الخميس 6 سبتمبر 1984

التقينا حول الظهر فى ميدان الأوبرا بعد الاطمئنان على حجز العودة بالطائرة من جنيف للأولاد (هكذا قرروا)، جلسنا على رصيف قهوة السلام “Le Pais” التاريخية بروادها من الساسة المصريين خاصة، والشمس قد تسلطت على صلعتى فحركت ذكريات المشى من المونمارتر حيث كنت أسكن، إلى جنوب باريس حيث أعمل، أو أدرس، مارا بميدان الأوبرا (أين أوبرانا القديمة فى مصر؟) وثمة محل على الناصية المقابلة يبيع المجوهرات المزيفة التى تحتاج إلى خبير ومجهر لكشف تزييفها (فلماذا الأصلية؟) وكنت قد حضرت إليهم متأخرا قليلا بعد أن استغرقتنى قهوة جوبلان حيث هاج بى الشعر دون إستئذان، فأجد مصطفى ممسكا بنسختين من صورة لهم فى جلستهم وقد اكفهر تماما حيث خدعه أحدهم، أو هو قد خـُدع له، حين فهم منه أن ثمن الصورة فرنكان وثمانين سنتيما deux quatre vint (وفى الفرنسية لا ينطقون حرف العطف”و”) فوافق ابنى فرحا باعتبار أنها أرخص حتى من التصوير العادى  (فرنكان وثمانون سنتميا)، وبعد التصوير يكتشف أن الصورة الواحدة بأربعين فرنكا، وأن البائع كان يقصد أن “الاثنين بثمانين” أى أنه توجد سكتة بين لفظى اثنين، وثمانيين!! ويدفع ابنى النقود وهو يغلى ويلعن حروف الجر والعطف وعدم ظهور “الفاصلة” فى الكلام، وكان هذا بداية يوم المقالب والنصب الخوجاتى:

ذلك أنى حين تركتهم لساعة وبضع ساعة حسب ميعاد سابق مع د. حلمى شاهين وهو ينزل فى فندق قريب (سان جيمس) بشارع ريفولى، ذهبت وأنا مشغول بمهمة ثقيلة تتعلق بمستقبل مصطفى، مهمة لا أحبها، ولا أتحمس لها، وان كنت مضطرا للقيام بها بكل التزام التكيف وضد كل المقاومة الداخلية، فجعلت أكلّم نفسى وأنا أشوح بيدى كالعادة حين يحتد ما يشغلنى “ضدى”، ويبدو أن منظرى هذا قد جذب انتباه أحدهم من ركاب العربات الفخمة (كانتB.M.W على ما أذكر – تحمل أرقاما أجنبية)، وحين توقفتُ فى الاشارة اقترب منى راكب العربة  – وهو بالداخل لم ينزل – وقال لى بلهجة ليست باريسية ولا فرنسية أنه: يا مسيو، ولم أتصور أنه ينادى علىّ، ثم حسبت أنه يسألنى عن عنوان ما، لكنه جعل يحكى “.. أنا رجل من إيطاليا وقد نفذت نقودى وأريد أن أرجع بلدى، وقد كنت قد أحضرت بعض الأغراض لصديق لى ها هنا، لكنى لم أجده، ويبدو أنك غريب، وطيب، فقد تنفعك هذه الصناعات الإيطالية، المتواضعة الثمن، فقد أدخلتها بدون جمارك…الخ،  لم ألتقط كل ما قاله لكنى فهمت مجمل المُراد، وأنا بى ما بى، وقبل أن أرد معتذرا فتحت الإشارة فحمدت الله إذ اضطرت صاحب السيارة أن يمضى، ونسيت لتوى كل ما كان، لكن ما أن عبرت التقاطع ومضيت بضع خطوات حتى وجدته فى سيارته الفخمة ينتظرنى، وقد أوقف العربة وخذ عندك “يا مسيو… يا مسيو”، وقبل أن يعيد ما قال قررت ـ لست أدرى كيف ـ أن أسهل طريقة للتخلص منه هو أن أستجيب له تماما، وحالا، مع أنى لم أستبعد احتمال النصب، فأعطانى سترتين من الشمواه فى كيس أو ما شابه، فأعطيته ما أراد من فرنكات، فانصرف وجعلت أنظر للكيس المجهول المحتوى الذى أحمله فى يدى وأنا فى طريقى لمقابلة د. حلمى شاهين وتمنيت أن ألقى به بعيدا، وقبل أن أفعل، لاحظت أن العربة قد توقفت من جديد، يا نهاراً لـن يمر، و “يا مسيو يا مسيو..” وقبل أن ألقى فى وجهه كل شىء، أو أشتمه بالعربى كما ينبغى، بادرنى: أنت رجل طيب من مصر، وأنا أحب مصر، خذ هذه أيضا هدية بدون مقابل، وناولنى سترة ثالثة من نفس النوع!! فتأكدت أولا أنه نصاب، ثم رجحت أن النصبة طلعت واسعة حبتين حين استجبتُ فدفعت كل الثمن الذى طلبه فورا دون مساومة، ثم تعجبت أنه أشفق علىّ لدرجة أنه عاد يصلح بعض ما اقترف، فأهدانى السترة الثالثة، حتى يبارك الله له فى سرقته، وحين وصلت إلى هذا الاستنتاج ابتسمت بالرغم منى، هذا نصّاب طيب فعلا.

وتذكرت ما سمعته عن قريب لى كان “يقتل” بالأجر، وحين جاءته امرأة فقيرة، ليس لها رجال، لتستأجره فى مهمة اضطرارية، ترفق بحالها وأقسم بالطلاق أن يقوم لها بالمهمة “جدعنه” وأن يقتل خصمها لوجه الله (!!).

أديتُ مهمتى الثقيلة فى الفندق الفخم مع الأستاذ الدكتور حلمى شاهين واعتذرت عن زوجتى بحجة اختلقتها، اعتذرت عن دعوة من زوجته الفاضلة لزوجتى الكامنة، على غداء أو عشاء، فزوجتى لا تحب هذا المجتمع، ولم تُحضر الملابس التى…، وهى لا تتقن لغة أخرى، فلماذا؟ ولم أستطع أن أعتذر عن نفسى أنا أيضا لأن الوليمة كان سيحضرها شخص قد يساعدنى فى مهمتى الثقيلة الخاصة بابنى، ثم إنها دعوة لغداء عمل يتعلق بالتعاون الطبى المصرى فيما يسمى بـ “السِّديم” وانتهى اللقاء بالموافقة.

قفلت راجعا الى زملاء الرحلة الجالسين على مقهى السلام فى ميدان الأوبرا، وأنا أحاول أن أدارى خجلى، لكنهم يتبينون ما أحمل، فأحكى لهم بإيجاز شديد وأريهم محتوى الكيس: ثلاث سترات من نفس النوع، بنفس المقاس، وبعد فترة كتمان ينفجرون ضاحكين، فتأكدتُ مما جرى، والألعن – أو الأرحم – أن المقاس لم يكن مقاسى أصلا، وشربتُها بأكملها..، بسيطة؟ ويحكى لى مصطفى ما غرم فى حكاية التصوير، فأضحك بدورى، واحدة بواحدة.

انصرفنا معا حتى أبواب مبانى محلات اللافييت المتعددة المتجاورة على الجانب الآخر من ميدان الأوبرا، وتفرقنا على أن نلتقى، فاتجهت الى قسم ملابس الرياضة، حيث أنى طالع فى المقدر جديدا، لكنى أكتشف أنها أغلى بكثير من الملابس العادية، إذ يبدو ان “بدعة الجرى” الحديثة، والنشاط البدنى الهوائى  Aerobics،

  قد أصبحت من مميزات الطبقة القادرة (كادوا يحتكرون كل شئ يا عالم!! حتى الرياضة والصحة الجسمية!!) ولم أشتر شيئا طبعا، ثم تجمعنا على الناصية،  وبدأ فصل النصْب الثالث:

يتقدم شاب أنيق رشيق له رأس متناسق مستدير، ووجه أحمر فى صحة “خواجاتية” يكاد الدم يطفح منه، وله شعر أصفر ذهبى جدا!! خواجه ابن خواجه وأمه  خوجايه 100%، كلّمنا بلهجة إنجليزية سليمة، ليس بها أية لكنة فرنسية، وعرض علينا بعد أن عرّفنا أنه انجليزى ـ أن نصرف منه الدولارات بسعر أكبر (أظن ثلاثين أو أربعين فرنكا أعلى من السعر الرسمى، لكل مائة دولار)، شككنا فيه من باب الحيطة، قالت منى يحيى ابنتى: فلنحاول، ولنكتف بمائة دولار واحدة لا غير حتى اذا نصب علينا تكون الخسارة محتملة، ولم أفهم لمَ نقدم على المحاولة ما دمنا على هذه الحالة من الشك فى الرجل، علما بأن فرق السعر ليس كبيرا، ولكن ماذا تفعل فى النصاحة المصرية؟ قلنا نجرب ونفتح أعيننا جميعا:

ذهب صاحبنا وأحضر المبلغ ممسكا به فى يده يحاول أن يخفيه (قال يعنى) و قبل أن أناوله الورقة أم مائة دولار (لاحِظ درجة الحرص منى) ناوَلنى المبلغ وطلب منى بإلحاح أن أعده حتى أطمئن (منتهى الأمانة) فعددت واكتشفت (ويا للحذق!) أنه ناقص ثلاثين فرنكا، فتأسّف (جدا) وانطلق بخطى سريعة يُحضر بقية المبلغ، وأنا مازلت ممسكا بالمائة دولار، ثم عاد وأخذ يتلفت حولنا منبـّها أن نحذر أن يرانا البوليس، (يا ولد!!) هل فعلنا كل ذلك من أجل ثلاثين فرنكا فرقاً؟ لكنها المغامرة والشطارة. أخذ منى الأوراق ذات الفئات الكبيرة ليعد الأوراق جميعها معا، وراح يعد: واحد اثنين ثلاثة…ثمانية، وقال: تمام؟ قلت: تمام، فركنها واتجه الى الفكة (وهى التى كانت ناقصة) وعدها فلم تعد ناقصة بعد أن أحضر الثلاثين فرنكا (يا سلام على الدقة!!) وهنا اطمأن قلبى أننا أخيرا نجحنا ألا ينصب علينا أحد (اللهم إلا اذا كانت الأوراق مزورة) ـ فناولتُـه المائة دولار، فانصرف بخطى سريعة وأنا ممسك بالأوراق الصغيرة (العشرات) الأخيرة فرحا بدقتى وحرصى، ألم أكتشف نقص الثلاثين فرنكا وأُصر على إعادة العد؟ وكانت “منى يحيى” تراقب الجارى زيادة فى الحيطة والحذر، وإذا بها فى نفس ثانية انصرافه تسألنى بغته: أين الأوراق ذات الفئة الكبيرة (فئة المائة فرنك)؟ فدهشت للسؤال.. فهى معى بداهة، وجعلت أبحث فى جيوبى فلم أجد شيئا، وهنا – فقط – فقست اللعبة الذكية، فتلفتنا جميعا وكان صاحبنا ـ الخواجة الإنجليزى إبن الخوجاية ـ فص ملح وذاب، ونتبين أنه بعد أن عد الأوراق الكبيرة احتفظ بها فى يده، وأنا أظن أنها معى ثم أخفاها بمهارة خاصة موهِما إياى أنها معى جاذبا انتباهى أولا: إلى التأكد من إكمال الأوراق الصغيرة التى كانت ناقصة، وثانيا: ألهانى بالتركيز على تجنب احتمال مداهمة البوليس.

 ألا يستأهل هذا المحتال الرائع الإعجاب بالذمة؟،

لكن ابنتى لم تكن قد نسيت ضياع الألف دولار ” فى “نيس”، ولم أكن بدورى قد نسيت نصب  الإيطالى الطيب بائع السترات الثلاث منذ ساعة.و ها هو النصاب الانجليزى الحاذق يكملها، أهى عصبة أمم للنصب والاحتيال يا بلاد الحضارة السعيدة؟ وهكذا استبدلنا بمائة دولار مائة فرنك كاملة العدد (يا حلاوة!!)، ماذا جرى لأهل الحضارة يا خلق هوه؟ أهذا هو الانجليزى الذى كنا نضرب به المثل “معاملة انجليزى”،.. “مواعيد إنجليزى”.. فإذا به “نصب إنجليزى”.. “خطف إنجليزى”.

 وتكررت حكاية رفض ابنتى منى يحيى أخذ العَوَض (المائة دولار كانت من رصيدها هى) مع أنى المسئول، فتوصلنا الى حل وسط، ورجعنا مكسورى الخاطر من آثار تلاحق المقالب، نضحك مرة، ونخجل مرة، على أرضية من الغيظ فى كل حال.

بدا لنا أننا نستحق تعويضا ما، وقد كان، وعزمتهم على وجبة متواضعة فى المطعم الصينى الرخيص أسفل الفندق، نفترق بعدها لنلتقى فى المساء الى السينما.

(مازلنا) الخميس 6 سبتمبر 1984

للذهاب إلى السينما فى بلاد بره طعم خاص بالنسبة لمواطن عادى مثلى ليس سينمائّى الطبع، ولا هو مثقف التكوين. لم أنجح أبدا أن أكون مثقفا عاما، أو مثقفاً سينمائيا، حتى بعد أن استدرجنى بعض طلبتى وأصدقائى الأصغر إلى الاشتراك فى “نادى السينما” فى مصر فى منتصف السبعينات، فتمتعت مثلهم ببعض الأفلام الحرة، لكنى وجدت نفسى أتفرج على مجتمع “نادى السينما” أكثر من فرجتى على السينما، ورويدا رويدا أحسست أنى فى غير مكانى، ذلك أنى شعرت أن هذا المجتمع المثقف جدا، اليسارى كلاما، المتيقن استقرارا، الساخر دائما، هو مجتمع بديل بشكل أو بأخر، بديل عن حزب سياسى، أو بديل عن إنتاج مغامر، أو بديل عن خبرة مبدعة، وشعرت أن فيلما واحدا تبلغنى رسالته مثل “إبنة ريان” أو الفيلم الايرانى “الغريب والضباب” (وقد كتبت عنهما نقدافى السبعبنات نشرا فى الأهرام و”نشرة نادى السينما” على التوالى) هو ما أحتاجه بدلا من ملاحقة وعيى هكذا بما يحب مجتمع نادى السنما أن يتباهى بتكرار الحديث فيه أسبوعا بعد أسبوع ليثبت أنه يفهم أكثر من الناس الأى كلام مثلى.

أحيانا بعد فيلم جيّد، أعنى مخترِق، أو بعد آية من القرآن الكريم مشرقة، أحتاج أن أقفل مسام وعيى حتى أعيش هذا أو ذاك كلّى بحق مثلى، وأتعجّب لمن يفتح المصحف المرتل طول الليل والنهار مع أن كل آية هى قول ثقيل .

يا عبء من تُحمّله أمانتها، ويا خيبة من يحرم نفسه منها بتهميشها بغيرها.

فى السفر الوضع يختلف، وفى باريس أعتبِر أن السينما تكمل تعريتى.

ما زال فيلمَىْ “آخر تانجو فى باريس”، “وكل هذه الموسيقى الجاز” اللذان شاهدتهما منذ بضعة سنوات فى باريس يدوران معى.

 أذكر أن آخر تانجو فى باريس أزعجنى تماما، لا أعرف لماذا، أظن أن صيحة البطلة (لا أعرف اسمها) فى مارلون براندو بعد كل ما حدث، صيحتها فى آخر لقطة فى الفيلم وهى تقول له “ما اسمك (كان الفيلم مدبلجا بالفرنسية) هى التى ظلت تتردد أصداؤها حولى، لم يكن فيلما جنسيا بالمعنى الفج لكنه كان مزعجا، وأحسب أن هذا يعنى أنه جيّد، فى هذا الفيلم يظهر الجنس كجزء لا يتجزأ من واقع يصعب التربيط بين أجزائه إذا ما انفصمتَ عن مجراه العام،  ولو لحظة انتباه إلى تفصيلة واحدة، وصلتنى الرسالة كما لو كان الفيلم يريد أن يعـرّى مثل هذه العلاقة بشكل أو بآخر فى هذا النظام الغربى المغترب، وتصورت أنه يستحيل أن تتعرى مثل هذه العلاقة بهذه المباشرة بغير هذا الفن “هكذا: وإن كنت لم أستطع أن أخفى على نفسى امتعاضى حتى الغثيان أحياناً، لكنّه فن حقيقى. أثّر الفيلم فىّ ، حرّك عندى إشكالة الذاتوية ، وأوهام الحرية بشكل صارخ، حتى صحت:

بعتم للأطفال العزَّل وهم الحرية

وهمو سمكٌ قد ترك الماء بحسن النية

وتقلب فوق الرمل الساخن.

فاحت رائحة شواء

عبثت إصبع زانٍ فى أوتار العانة

وانغمس السيف الخشبى، داخل كهف الكلمة

فانطلقت حشرجة الأغنية الثكلى

“ليس بجوف الناس عصارةْ ،

أغلقت الخمارة.. “

لست أرى إلى أى المستويات أنا  – شخصيا – أقرب إلى، هجوم شعرى وقسوته (رغم تواضع قيمته)، أم  إلى ادعائى السماح والتعلم من الاختلاف ؟  ماذا أفعل؟

 الإبداع يقول، ويثير ويراجع، وكلما كان أكثر صراحةً وإزعاجا، كان أكثر اختراقا.

أتذكر فزِعا تلك البدعة الخطيرة الذى دخلت حياتنا الثقافية تحت عنوان “تجنب ما يخدش الحياء” لدرجة سمحنا معها بقص كل لفظ صريح أو موقف محدد فيه جنس إنسانى دال، تحت عنوان “ما يخدش الحياء”، وقد تجسد هذا التشويه مؤخرا فى قضية ألف ليلة التى انتهت والحمد لله لصالح الثقافة والحقيقة والفن والتراث، لكن القص والجبن ما زالا عاريان يلطخان وجه دواوين شعرية أصيلة مثل ديوان أبى نواس أو بشار بن برد أو عبد الحميد الديب، فاذا أضفنا إلى ذلك ألعاب الرقابة الأحدث، عرفنا أين نحن، وان كنا قد لا نعرف ـ بهذه الصورة ـ “إلى أين”، فالأرجح أننا نسير بظهورنا.

إن هذا النوع من: الأخلاق بالإغماض، والأخلاق بالحذف، والأخلاق بالادعاء، والأخلاق التى تستعمل من الظاهر، كلها تدل على ضعف المواجهة، وعتمة الوعى، والجبن أمام الحقيقة. أنا لست من أنصار الحرية المطلقة، كما أنى لست من مشجعى الإثارة العنيفة للتجارة بالغرائز، وإذا كنت قد أفهم ـ بصعوبة وفى حدود ـ دور الرقابة على الأفلام والتليفزيون مثلا، لأنها مادة مفروضة لجمهور مستسلم، فإنى لا أفهم معنى التدخل فى التراث الأصيل المنشور فى كتب بالحذف الجبان، فهل نحن أكثر أدبا وتدينا وحياء من المسلمين فى القرن الثالث الهجرى مثلا؟

 لابد أن أعترف أنه اذا كانت مواكبة ومشاهدة الجنس عند سائر مخلوقات الله قد سمحت لنموى الجنسى أن يتحرك فى رحاب الطبيعة، فإن قراءة التراث الجنسى كان يغذى خيالى بما ينبغى.

مازلت أذكر كيف حصلت على نسخة من كتاب “رجوع الشيخ إلى صباه” وأنا فى مرحلة الثقافة العامة (الرابعة الثانوى/ 15سنة) فرحت أنقله نسْخا باليد، وأفرض شروطى حتى على إخوتى الأكبر مقابل أن يستعيروه منى، ثم اختفى الكتاب المنسوخ بفعل فاعل،، لعله أبى، (دون أن يذكر حرفا لى، أو لإخوتى، إن كان هو) ورغم أنه كتاب موضوع أصلا للإثارة الجنسية، الا أن طريقة كتابته وصور المبالغة فيه أدت وظيفتها فى استكمال ما لم تتحه لى الطبيعة الحيوانية.

…………..

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] –  المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax

admin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *