الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب الفصام (3) “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم “فصامى” (1 من ؟)

من كتاب الفصام (3) “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم “فصامى” (1 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 13-11-2021

السنة الخامسة عشر

العدد: 5187

 من كتاب الفصام (3)

“فصامى يعلمنا الفصام، (1)

دون أن ينفصم “فصامى”  (1 من ؟)

استهلال:

“..إن المريض النفسى (فيما عدا الأمراض العضوية التشريحية) يهدف بمرضه إلى إبلاغ رسالة ما، لكنه يفشل فى توصيلها وتفعيلها، وبالتالى أنه يمكنه – وعليه – أن يسهم فى عملية شفائه بالمشاركة فى إعادة تشكيل ما اختلَّ فيه: مواكبةٌ مع نفس العملية التى يشارك فيها المعالج وهو ينمو ويزداد حذقا، وهى بعض مبادئ أساسيات ما أسميـتـــُـه “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”.

وبعد

هذه هي الحالة الثانية التي تؤكد جدوى هذا النشر المسلسل آملا في الاستيعاب البطىء الهادئ، والاستفادة، وشكرا.

****

المقدمة:

هذا هو الكتاب الأول عن حالات الفصام بعد تحديث الكتاب النظرى الأم الذى لست متأكدا إن كان سوف يكون فى المتناول قبل صدور هذا الكتاب الحالى أم لا.

أخيرا، آن الأوان أن أوفى بدينى وأكتب عن الفصام من واقع خبرتنا المحلية وثقافتنا الخاصة، وأذكر أننى وعدت مرارا بذلك، بل وهممت فعلا بأن أجعله فى مقدمة ما ينبغى أن أوفى من خلاله ببعض ديونى لأساتذتى المرضى و طلبتى وزميلاتى وزملائى الدارسين والمتدربين قبل وبعد ومع أساتذتى الكرام الذين أخذوا بيدى وأناروا وعيى من أول الطريق وحتى تاريخه.

رجعت إلى ما كتبته عن الفصام، وما قمت فيه بما يسمى أبحاثا عن الفصام سواء قمت بها شخصيا أم من خلال إشرافى على رسائل الماجستير والدكتوراه فوجدت أنها تعد بالعشرات، رجعت إلى الفصل الخاص بدراسة الفصام فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (2)فوجدتها قاربت المائة صفحة، ثم مؤخرا وجدت أننى نشرت كتبا بأكملها كل كتاب يحوى حالة فصام واحدة، ثم توقفت.

الأصعب من ذلك، وهو الذى ألزمنى بالمبادرة بالإقدام على الخطوة الحالية هو أننى طلبت من سكرتيريتى أن تجمع الحالات الكلينيكية التى قمت بالتدريس عليها فى الأربعين سنة الأخيرة فى قصر العينى ودار المقطم مكتفيا بالحالات التى تم تسجيلها بالصوت والصورة مع المناقشات التالية فإذا بها تربو على مئات، فتوفقت، واستغفرت، وأسفت، واعتذرت.

لا أريد أن اعترف بتقصيرى، فوقتى لم يشغله دراسة طول هذه السنين إلا حمل الأمانة لأصحابها، لكن يبدو أن الأمانة كانت – ومازالت – أكبر من قدرتى، وأثقل من وقتى، فيحضرنى قول الصوفى الذى كان يدعو الله أن يعينه أن “يملأ الوقت بما هو أحق بالوقت”، فأتساءل دون شعور بالذنب، ومن أين لى أن أميز مطمئنا أى أمانة أوْلى من غيرها بملء الوقت، وأنظر فى رقمى القومى الذى لا أحب النظر فيه. فيحضرنى قول عمنا أبو قراط وهو رمز موقعى الإلكترونى:

“الحياة قصيرة، والمعرفة ممتدة، والفن طويل، والفرصة هرابة، والتجربة تحتمل الصواب والخطأ والحكم على الأمور من أصعب الأشياء”

وبعد

كنت أنوى أن أبدا كتابتى عن الفصام “مرض الأمراض” كما اعتدت أن أطلق عليه، بتحديث ما أثبته فى كتابى الأم المشار إليه حالا، ثم بعد ذلك أجمع ما استطيع من حالات تحدد ما أعنيه بما وصلنى من إنارة خاصة بخبرتنا وثقافتنا الخاصة من حالات بالإشارة فى الكتاب النظرى إليها فى موقع نشرها أولا بأول، لكنى رجعت أنظر فى أوراق هويتى فوجدت أن عمرى لم يعد يسمح بمثل هذا الاختيار حتى أكمل ما أنوى واستغفرت ربى وحمدته.

هكذا بدأت بما عندى من حالات جاهزة، وقد سبق أن نشرت بضعا منها وهى متاحة مع ما نشرت مؤخرا (3) ثم بدأت فى تجهيز ما هو جاهز تقريبا للنشر فظهر هذا الكتاب كأول حالة فى هذا التعهد الجديد، وفى نفس الوقت فإنى أواصل إكمال الكتاب النظرى عن الفصام بنفس حسن النية والمثابرة، وإذا بهذه الحالة الواحدة الحالية تصل إلى مئتا صفحة وأنا أشعر كلما تمادريت لإكمالها أنها تستأهل فلا أتراجع، بل إن ما ورد بها أعاننى كثيرا فى الكتابة النظرية المواكبة فى نفس الوقت.

وهكذا خرج هذا العمل هكذا:

هى حالة لها معالمها الخاصة التى تكاد تبعدها عن كونها كذلك، ومع ذلك فهى كذلك، حين تأكدت وأنا أعيد كتابتها تمهيدا للنشر أنها تفيد مدخلى إلى هذه المهمة من حيث أننا لا نعرف ما هو الفصام: سمحت لرشاد أن يعلمنا فكان العنوان:

“فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم!”

قيل: وكيف كان ذلك؟

قلت: “هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ”!!

ملاحظة: بعد انتهائى من تقسيم الكتاب إلى فصول لكل فصل عنوانه المستقل، فضلت أن أحذف كل العناوين وأن أستبدل بها أرقاما مسلسلة مكتفيا ببعض العناوين الجانبية إذا لزم الأمر.

وبالتالى أنصح قارئى الفاضل ألا يعتبر التقسيم الذى ورد فصولا يمكن أن تستقل، ولم أعرف السبب الذى دعانى لذلك، لعله أمل أن يُقرأ هذا العمل فى “نفسٍ واحد”،

فأنا أعتقد أنه كتِبَ كذلك!

(1)

استهلال:

رشاد عاين رأى العين عملية الفصام (..الداخلية)، ومن البداية، ووصفها كما نعرفه وكما لم نعرفه، ثم  هو الذى حال دون تمادى التفسخ، أى دون أن ينفصم، حتى اختفت الأعراض تقريبا حين تراجعت نظرات الناس أن تخرق مخه (إلا أحيانا)، كما ذكر فى نهاية الحلقة الأخيرة.

فى الرد على سؤال إحدى الزميلات استرسلتُ فى الرد عليها لأقدم شرح كيف أنه لملم نفسه قبل أن يتفسخ بعدد من الميكانزمات المناسبة مثل العقلنة والكبت، ولكن بدرجة غير معيقة فقد قلت لها: إن ثمة عين داخلية (آلة “حس” داخلية لها علاقة بالحواس وما حولها)، هى نوع محوّر من الإدراك القديم، عبر تاريخ التطور، تستطيع أن ترصد الداخل بما هو، وهى التى  تنشط فى النوم أثناء النشاط الحالم أساسا (نوم حركة العين السريعة  REM”ريم”)، كما تنشط فى بداية الفصام خاصة، وفى أطواره النشطة، وليست بالضرورة أطواره الحادة، ونشاطها – من حيث المبدأ – غير قاصر على الفصام بل هى تنشط فى معظم الذهانات النشطة، وهى ترصد الداخل “بما هو”، إلا أن صعوبة التعبير عن حركية الإدراك كما تمارسها هذه العين يخلق مشاكل حين يقتصر فهمنا للألفاظ على ما اعتدنا عليه.

المآل الذى خرج به رشاد من نوبة ذهان سابقة يختلف من أقصى العمى، إلى الناحية الأخرى: أى احتمال شحذ البصيرة، سواء كان ذلك بمعنى البصيرة الوقائية، وهى التى تتفهم الخبرة المرضية من حيث غايتها ولغتها، فتحول دون تكرارها أم البصيرة المعقلنة التى تتقن رصد ما كان على مستوى معقلن مغترب، قد يكون جزءًا مما نسميه اندمالا نسبيا بوقف تمادى التفسخ فحسب، وقد تتوقف عند هذه المرحلة توقفا كاملا، وقد تتدهور ببطء بعد ذلك.

وهنا يبدأ التأكيد على أن هذا الرصد يبدأ بنشاط ما يمكن أن نسميه الآن “الإدراك الحسى الداخلى”، الذى يلحقه عادة غموض على مستوى التفكير التفسيرى المفاهيمى (وهو ما حدث لرشاد معظم الوقت)، إن هذه النقلة من الإدراك المباشر للواقع الداخلى، إلى العجز عن تفسيره (الغموض الذى اشتكى منه رشاد مرارا) إلى المسارعة بتحويره، فى صورة هلاوس مسقطة أو ضلالات مبـَـرَّرَة: هو مواز للنقلة التى أشرت إليها سابقا فى تشكيل الحلم المحكى مما تبقى من مفردات (معلومات من الصور أساسا) تحركت أثناء نشاط الحلم  البيولوجى (إن صح التعبير) (4)

من خلال حالة رشاد لاحظنا أن ما نسميه “الواقع الداخلى”، هو واقع فعلا من حيث أنه كيانات ومعلومات وخبرات موجودة ومتحركة بنظام نوابىّ دورىّ (الإيقاع الحيوى)، لكن لا يمكن مواجهة واستقبال  هذا الواقع بشكل مباشر إلا أثناء عملية الإبداع أو عملية الجنون.

لم تتح لنا فى حالة رشاد أن نرصد ما نسميه إبداعا، اللهم إلا فى النظر إلى محاولات إعادة التشكيل “معا” لما تفكك من وحدات ثم رصدها، ثم محاولات منعها من التمادى إلى التفسخ. إنّ ما حدث بهذه الطريقة قد سمح لنا أن نواصل افتراض أن هذا الاستقبال للعالم الداخلى هو إضافة معرفية بالمواجهة بصفة مبدئية.

تم التعامل مع رشاد – مثلما ننصح أن يحدث مع معظم المرضى خاصة في مثل هذه المرحلة – على أن المسألة لم تعد أن ما يقوله هو “حقيقته” بمعنى خصوصية تخيله، وإنما هو الحقيقة الماثلة بداخله، أى الواقع الداخلى، الذى يشارك فى الاعتراف به المعالج بأكبر قدر من الصدق الممكن وهنا يظهر دور المعالج “كناقد للنص البشرى” على الناحيتين: حالة كونه مشاركا للمريض كناقد أصلى لنصه ونص المعالج معاً، وتختلف نسب الأدوار مع التقدم فى العلاج.

حين تنشَّطَ المخ القديم – عند رشاد –  ونتج عن ذلك انسحابه من الواقع الخارجى، وأيضا كان ذلك من أسباب تذبذب القرار لدرجة إشلال الإرادة الفاعلة من الناحية العملية، لم يقم المخ القديم بإزاحة نشاط  المخ الحديث تماما،  بل إن الأخير (المخ الحديث) تنَشطَ فى نفس الوقت، غير منافِسٍ للنشاط المرضى، وإنما اكتفى بأن يزاح وراح يتفرغ لرصد هذا الفصم الجارى، ربما بين المخين، كما ذكر رشاد وهو يحكى عن كيف أن مخه انشق إلى نصفين، بل راح يرصد ويحكى عن ما جرى لكل الأمخاخ (الأدمغة.. تنظيمات الوعى …الخ)

احْتَدَّ نشاط المخ الحديث وقام بدور الرصد والوصف بدقة متناهية، مع تخليه (تخلى المخ الأحدث) عن القيام بنشاط يخدم الواقع الذى يترتب عليه القرار المناسب، وإنما توجه نشاطه إلى رصد الجارى، عقلنةً سواء مرضيا (تكوين الهلاوس والضلالات الثانوية)، أو عاديا (فعلنة المعلومات)، لكن حين التقى المعالج المصدِّق المواكب، بدأ نشاط المخ الأحدث يقود من ناحية ويسهم فى تنفيذ خطة العلاج من ناحية أخرى.

إن الاستعانة بعقاقير مضادة للذهان هو أمر مهم بشكل خاص، ويـُـتبع فى ذلك وصف الأدوية حسب هيراركية دقيقة، تتغير مع تغير حركية العلاج مـُـقاسة بمحكات نمائية شاملة، وواقعية يومية محددة، وليس فقط باختفاء الأعراض

إن التفرقة بين استعمال العقل (الموضوعى)، والعقلنة (الدفاعية) أمر صعب، وهو لا يقاس إلا من خلال تقييم أبعاد التفعيل الذى يبدو سليما إذا نجح فى دفع عملية النمو على أرض الواقع.

يمكن مقارنة هذه العملية، خصوصا فى بدايتها، بما يحدث فى نشاط الحلم، إلا أنه فى الحلم تنتهى العملية التفكيكة بإعادة الترتيب Repatterning ، وبالتالى هى عملية بنائية تعليمية بغض النظر عن محتوى الحلم المحكى. (بل لعلها هى هى مع اختلاف المآل).

بنفس القياس والمقارنة فإننا نتبنى فرضا يقول: إن بداية هذه العملية (التحريك بالتفكيك) هى تـُـقابل وتـُـماثل بداية الإبداع الذى يتم فى الإبداع بدرجة من الوعى المشتمل، فيكون نتاجه تشكيلا جديدا، ليس مجرد تنظيم مفيد (الحلم)، ولا مآل متفسخ (الفصام)، وهذا ما لم تتح الفرصة لرشاد أن يكمله، اللهم إلا بمرحلة التصوير الداخلى إن صح التعبير.

ربما أفاد – مؤقتا –  انسحاب رشاد من العمل (والناس) فى منع أو تأجيل التفسخ، وذلك باستعمال الميكانزمات المناسبة، وبالذات ميكانزمّىْ التفكيك والعقلنة، ثم الإسقاط، وقد قامت العقلنة والإسقاط بتوقيف الحالة عند مرحلة الوصف، وكذلك بتبرير وتسويغ متطلبات الواقع، ثم قامت “العقلنة” (فالعقل لاحقا) برصد عملية التفكك كما سيظهر طوال عرض الحالة.

حالت هذه الميكانزمات الثلاثة  (التفكيك فالعقلنة والاسقاط) – حتى رصد المسار – دون التمادى فى التفسخ الفعلى.

تبينا بعد ذلك كيف ورث رشاد برنامجا يعلن جاهزية تنشيط التاريخ العائلى المرضى عنده، كما أنه يشير أيضا إلى أن كلَّ مَنْ مَرِضَ فى هذه العائلة قد تحسن أو شفى، والأرجح أن الشفاء فى معظم الحالات أو كلها قد تَمّ باختفاء الأعراض أكثر من اضطراد النمو: الخال مرض فى سن 18 سنة ودخل مسشفى العباسية، وشفى، والعم أصيب بنوبة اكتئاب شفيت أيضا بعلاج جلسات تنظيم الإيقاع ولم يعاوده المرض بعد ذلك.

هكذا يمكن استنتاج – كما ذكرنا حالا –  أن رشاد يحمل برنامج زخم التفكيك، بقدر ما يحمل برنامج القدرة على ضبطه واستعادة توازنه، بعلاج أو بدون علاج أحيانا).

من خلال تتبع الحالة طوليا تبين لنا كيف نرصد، أو نتوقع، أن أية وقفة فى مرحلة معينة من مراحل التفكيك نحو التفسخ، أو اللم بالدفاعات القديمة أو الجديدة التى تدعمت بعد الخبرة المرضية، يمكن أن ينتج عنها وقفة تستأهل تشخيصا آخر، وهذا هو ما يسمى “نقلة الزّملة” Syndrome Shift بمعنى أن رشاد يمكن أن يتوقف عند (أو يمر بـ) مرحلة وسواسية صريحة، أو اكتئابية جسيمة، أو حتى هوسية مؤقته، وهذا يتوقف على الظروف المحيطة الجديدة ، وطريقة تكيفه الإمراضى لها.

كذلك يجدر بنا أن ننتبه إلى بعض دلالات وآليات الحوار على مدىٍ عرض الحالة، ولنأخذ على سبيل المثال قيمة ما يسمى “احترام تجربة المرض”، بدأً بأخذ شكوى رشاد مأخذ الجد تماما، باعتبار أنها واقع آخر. إن هذه القيمة ليس لها أدنى علاقة بالشفقة عليه، أو “أخذه على قدر عقله: كما يشاع.

تأكدت أيضا ضرورة التوليف بين الاستعمال الانتقائى للعقاقير، ونمو العلاقة العلاجية ، بديلا عن الاستقطاب (إما…أو)، مع تطويع الجرعة من كلٍّ (العقاقير والعلاقة) أثناء خطة التأهيل والعلاج باستمرار.

(2)

كلمة أساسية عن الإدراك” لفهم الحالة:

 الإدراك‏ هو ‏الخطوة‏ ‏الأساسية‏ ‏فى ‏العمليات ‏المعرفية‏ برمتها، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الدراية‏ (5): فهو بمثابة ‏البوابة‏ ‏المعرفية‏ ‏الأولية Cognitive Gate‏ ‏التى ‏توصل‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏ فى الداخل والخارج ‏بعضها‏ ‏ببعض‏ ‏بدرجات‏ ‏متفاوتة‏ ‏من‏ ‏الدراية‏.

وفى حين ‏أن‏ ‏الإدراك‏ ‏يتضمن‏ ‏بصورة‏ ‏شبه‏ ‏دائمة‏ ‏قدرا‏ ‏وافرا‏ ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بواقع‏ ‏ماثل‏ (‏سواء‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏البيئة‏ ‏الداخلية‏ ‏أو‏ ‏الخارجية‏) ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏التخيل‏ ‏كما يشاع عنه يتجاوزالواقع‏ المعروف ‏عادة‏، فهو تشكيل مصنوع بآلية أقرب إلى التفكير منها إلى الإدراك، وبالتالى فهو يتجاوز الواقع الآنى داخلا وخارجا دون أن ينفصل تماما عنه،.

 التخيل هو فعلا بعيد عن الإدراك ، فهو تشغيل آليات التفكير (وليس الإدراك) فى صنع واقع جديد، مستمد من كل أبجديات المعرفة الظاهرة والباطنة

ثم ننتقل إلى ما ينبغى توضيحه عن “العين الداخلية” و”البوابة المعرفية”: يبدو أن ثمة علاقة وثيقة بين “العين الداخلية”، و”البوابة المعرفية”.

البوابة المعرفية هى أقرب إلى نشاط الإدراك باعتباره الخطوة الأولى الأساسية ‏‏فى ‏السلوك‏ ‏المرتبط‏ ‏بعمليات‏ ‏اعتمال المعلومات (6)   Information Processing بصفة عامة (على كل المستويات: التفكير والعواطف والجسد)، أما تحديد الاسم هكذا “البوابة المعرفية”، فلا أعرف من أين جاءنى، ربما من مريض.

تنبيه مبدئى:

لا أتردد فى أن أكرر أن ما يسمى ‏الاستبطان‏ ‏أو‏ ‏التأمل‏ ‏الداخلى‏، ‏ليس مرادفا لنشاط ما يسمى العين الداخلية، ذلك لأن ما يسمى التأمل الذاتى‏ ‏يغلب‏ ‏عليه ‏النشاط‏ ‏المعقلن‏ ‏المترجـم‏ ‏إلى ‏رموز‏ ‏كلامية فى العادة فى محاولة وصف ما بالداخل، أما‏ ‏إدراك‏ ‏البيئة‏ ‏الداخلية‏، فهو يعتبر‏ ‏أول‏ ‏خطوة‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏العمليات‏ ‏النفسية‏ (‏المعرفية‏ ‏والوجدانية‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏)، وفى ظروف خاصة قد يستطيع بعض الأفراد أن يرصدوا نشاطه وخطواته، بل وأن يصفوها مثلما يحدث فى بداية الذهان وفى أطوار نشاطه قبل إزمانه وتشويهه أو ترميزه، وأيضا فى حالات الإبداع والحدس مما سنعود إليه لاحقا.

بلغ اليقين ببعض الإكلينيكيين فيما يتعلق بإمكانية  إدراك الداخل مباشرة أنه نشاط جوهرى عند المبدعين والتشكيليين والمرضى فصكوا لذلك مصطلح “العين الداخلية“، ليس على سبيل المجاز، كما سنرى بعد. وقد استعمل هذا المصطلح بشكل مباشر ودقيق فى وصف نوع من الهلوسة ممارس إكلينيكى نابه هو سمز Sims (7)  حيث تحدث تحديدا عن “العين الداخلية” مما سنعود إليه مع مناقشة الهلوسة، وجدير بالذكر أن اسم المصطلح هو الجديد فحسب أما الظاهرة فقد وصفت أيضا بواسطة كل من كارل يونج وياسبرز وبنز فاجنر وكاتب هذه السطور.

هذا، ويمكن اعتبار جهاز تشغيل العين الداخلية شديد الارتباط بجهاز تشغيل ما يسمى بالمعرفة المتجاوزة للحواس الخمس وهو ما يربط الفرضين ببعضهما البعض بشكل ما.

(3)

ملاحظات مبدئية:

أود أن أنبه إلى التأكيد على ضرورة ملاحظة عدة نقاط تساعد على التواصل، من أهمها:

(1) طبيعة المقابلة الإكلينكية والتأكيد على أخذ كل كلمة وخبرة يذكرها رشاد مأخذ الجد باعتبارها ليست فقط حقيقته، وإنما الحقيقة التى رآها فحكاها (ما لم يثبت العكس)

(2) عدم الإسراع بالربط بين خبرة رشاد الأولى فى علاقته بالحاسوب، بما يحكى من أعراض بمعنى ألا نستسهل أن نفسر عمق ودقة ما يحكيه من أعراض وشكاوى بأنها نتيجة لإيحاءات ذاتية مرتبطة من مهاراته فى هذا المجال، علما بأنه لم يتعدّ مرحلة التدريب، ومن ثم النصح بعدم استسهال تفسير لغته وأعراضه بالاستسلام لما يسمى الإيحاء الذاتى ..إلخ.

(3) عدم الاكتفاء بما نقتطف هنا فيما يتعلق بالعين الداخلية فحسب.

أما أن “رشاد” (8) فصامى، فهو كذلك فقد اكتملت فيه كل محكات تشخيص الفصام فى الدليل الأمريكى الرابع DSM IV، وإلى درجة أقل، فى التصنيف العالمى العاشر ICD 10، وبشكل أو بآخر: فى التقسيم المصرى (العربى) الأول DMP I.

أما أنه رَصَد حركية الانفصام فقد وصفها بكل ما عُرفت به (وما لم تعرف به!) نفسمراضية (9) الفصام: وهذا ما سوف نراه سويا من واقع شكواه، وفحصه والحوار معه

أما أنه لم ينفصم، فهذا ما حدث إذ ظل محتفظا بتماسكه، واحدا صحيحا، لم يتفسخ، ولم يتبلد، ولم ينسحب تماما، ولم يفقد إرادته الخاصة التى فَرَضَ بها قرار سفره للخارج (لأكل العيش) أثناء العلاج، فرضه بمخاطرة متحدية محسوبة، ثم قرار عودته، ثم ما لا نعلم بعد.

أظن أن الأمر ازداد غموضا برغم هذه المقدمة المتسحبة.

المهم: سواء صح أم لم يصح : أنه فصامى، سواء صحّ أم لم يصح أنه رأى حركية الانفصام (وهى تحاول تفكيكه) ووصفها، بداخله و أيضا مٌسقطة خارجه، سواء صح أم لم يصح أنه – برغم ذلك – لم ينفصم، بما حاور وقرر وفعل، سواء صح أى من ذلك أم لم يصح، أتصور أنه يصعب جدا أن تصل – عزيزى القارئ – إلى ما أريدُ توصيله:

(1) إلا إذا:  نسيتَ تماما هذا العنوان: “فصامى” يعلمنا: “كيف” الفصام، “دون أن ينفصم”!!

(2) إلا إذا: نحـَّـيـْـتَ جانبا كل ما سمعته عن الفصام خاصة من العامة والهواة (وأغلب الأطباء النفسيين أيضا)

(3) إلا إذا:  تذكرت أن التقسيمات الأحدث (حتى الامريكى الخامس، والعالمى العاشر) تُوفر الاتفاق reliability (ثبات استعمال نفس اللفظ لوصف مجموعة من السلوك المرضى: الأعراض أو تسمية مرٍض بذاته) فى حين أنها تفتقر تماما إلى المصداقية validity (إذْ لا يتضمن اللفظ المستعمل للتشخيص نفس المضمون أو نفس المحتوى أو نفس المعنى عند من يستعملونه (10)

(4) إلا إذا:  صدَّقـْتَ كل (أو أغلب) ما يقوله رشاد، دون الإسراع بتكذيبه، أو اتهامه بالغموض على الأقل لمجرد أنك لم تفهمه بالقدر الكافى.

(5) إلا إذا:  صبرتَ علينا حتى  تقرأ الفروض واحتمالات التطبيق وتتبع الحالة

(6) إلا إذا:  تذكرتَ أننا لا نبحث عن اسم آخر (تشخيص آخر) أكثر تلاؤما مع الحالة أو أوفق صلاحية لفهمها، وإنما نبحث: أولا: فى التعرف على ما هو ماثل أمامنا، كما هو، ثانيا:  أنفع الطرق للقيام بما نحن مكلفون به (العلاج هنا)،

 ثالثا: إلا إذا تذكرت أننا نحاول أن نفهم الإدراك من خلال فشل عملياته وتماسكها وتناسقها   وبالذات من التعمق فى طبيعة عملية اعتمال (معالجة) المعلومات Information Processing  (11)

………..

 ……….

 (ثم نكمل غدًا) (4) “ملخص الحالة”

 

[1] – يحيى الرخاوى ” الفصام (3) “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم”منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2020)

[2] – يحيى الرخاوى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”  سنة 1979

[3] –  مثلا: يحيى الرخاوى:“دروس من قعـر الحياة!! الفهد الأعرج  والكهلٌ النـَّمـِرْ” (حالة عبد الغفار “الكهل”)، (حالة ياسر”الفهد”) الطبعة الأولى 2018 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

– يحيى الرخاوى: من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (مروراً بالعلاج الجمعى) (حالة محمد طربقها) الطبعة الأولى 2019 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى

 [4] –  يحيى الرخاوى: فصل”الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” فى كتابى:“حركية الوجود وتجليات الإبداع” (جدلية الحلم والشعر والجنون)  المجلس الأعلى للثقافة 2007

[5] ‏- ‏سوف‏ ‏نستعمل‏ ‏كلمة‏ “الدراية‏” ‏ترجمة‏ ‏للفظ‏ awareness ‏حتى ‏نقصر‏ ‏استعمال‏ ‏كلمة‏ ‏الوعى ‏لتخص‏ ‏لفظ ‏consciousness ‏وتظل‏ ‏كلمة‏ ‏الإدراك‏ ‏لما‏ ‏هو‏ perception، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏لايحل‏ ‏الإشكال‏ ‏تماما‏ ‏إذ‏ ‏تظل‏ ‏ألفاظ‏ ‏مثل‏ ‏الشعور‏ ‏واللاشعور تشير‏ ‏إلى ‏الوعى ‏وما‏ ‏تحت‏ ‏الوعى‏، ‏ونأمل‏ ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏أن‏ ‏يختص‏ ‏كل‏ ‏لفظ بمعنى جامع مانع باستمرار‏.‏

[6]  اعتمال المعلومات هو الترجمة التى انتهيت إلى اختيارها لمصطلح Information Processing   بعد أن كنت أستعمل تعبير فعلنة المعلمات، وكان آخرون يستعملون نتعبير “طبخ” المعلومات، أما الأكثر تداولا فهو “معالجة المعلومات”.

[7] – Sims, A. (2002) Symptoms in the Mind: An Introduction to Descriptive Psychopathology (3rd ed).. Elsevier. ISBN 0-7020-2627-1

[8]  – (ليس هو الأسم الحقيقى)

[9]- Psychopathology

[10] – يحيى الرخاوى: “تشخيص الفصام دون تحديد ماهيته!” نشرة الإنسان التطور اليومية  بتاريخ (2/12/2007) بموقعى www.rakhawy.net

[11] – يلاحظ الصديق القارئ أننى خلال أكثر من خمس سنوات أحاول تجنب أن أحشر الكلمة الانجليزية فى النص العربى، تعلمت ذلك من المرحوم د. أحمد مستجير افتخارا بلغتى، لكننى مضطر فى هذا المقام رشوة للزملاء الأطباء حتى أشجعهم أن يتابعونى.

admin-ajaxadmin-ajax (1)