الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (4 من ؟)

من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (4 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 16-3-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4580

من كتاب:

الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)

الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (4 من ؟)

……………

……………

وكان لى صاحب آنذاك (طبيب نفسى أيضا) ينبهر لما أقول عن لا جدوى مِنْ حياة مَنْ لا يضيف إلى حياتنا معنى، رغم أنه يرفض هذا الرأى فى البداية، كان يناقشنى فىه بحماس شديد، لكنّه اذا اختلى إلى نفسه صدَّقنى، فراحت أفكارى تتردد فى وعيه بلا إستئذان، فيذهب يتساءل بدوره: لماذا يعيش هذا؟ ولماذا لا يموت ذاك؟ وتزداد المصيبة حين يطلق السؤال عشوائيا فيصيب صدفة أحد أقربائه من الوادعين فى الحياة ممن يبدو عليهم أنهم أقـفـلـوا حساباتهم مبكرين، فأخذوا يدورون فى محلهم فى رتابة مستسلمة، واذا بصاحبى “المقتنع” هذا يراهم بمنظار أفكارى فيكتشف أنهم “مستمرون بلا داع”، وكان يعود إلىّ ثــائـرا علىّ، لاعنا يوم عرفنى ويوم سمع منى، ويوم صدّقنى، فأعتذر له مؤكدا أن تسأولاتى هذه لا تعنى الرغبة فى التخلص من هؤلاء الذين حسبَهم “زيادة عدد”، ولكنها مجرد تساؤلات خائبة، تعلن عجزى عن فهم قوانين الحياة الأعمق، بدليل ـ مثلا ـ أنى لا أدرك فائدة دولة النمل المهـولة، ولا أعرف أسرار عالم القنافذ، وإن كنت كثيرا ما أشعر بالزهو أنى أنتمى إلى نفس الوجود الحيوى الذى ينتمى إليه الفيل والدرفيل وحمام الزاجل والنوارس، لماذا؟ لست أدرى، إذن فهى تساؤلات عجز تطلع منى بصوت مسموع، لكنها أبدا ليست مواقف رفض أو تبريرات قتل.

حدث أن ضبطت نفسى متلبسا وقد انطلق منى هذا السؤال يدور حول مغزى حياة “من لا يتطور”!!، كان السؤال يحوم حول خالتى، هى أمى الثانية، أو الأولى، حملتنى ـ على كتفها ـ وهْنا على وهن، وقد عاشت وحيدة بلا ولد ولا زوج بعد أن طُلقت وأنا فى الرابعة عشر، ولم تقبل أن تواصل حياتها معنا فى بيت أمى على الرغم من أن أمى هى شقيقتها الوحيدة، فكانت لا تكف عن ترديد أنه “يادارى ياستر عارى يا منيّمانى للضحى العالى”، وقد تعلمتُ منها فى مسألة الحياة والموت ـ فى كِبَرى ـ أضعاف ما تعلمت أى شئ من أى أحد فى صغرى. كانت علاقتها بأشيائها ـ مع عدم وجود هدف مقنع ـ غاية فى الدلالة:

كان من بين أشيائها التى انتقلت إلى بيتنا مؤقتا بعد طلاقها “بوريه” (أو “بوفيه”، والفرق ليس واضحا عندى)، وكان موضوعا فى “طرقة” ضيقة أثناء إقامتها  لبضعة شهور عندنا فى مصر الجديدة بعد طلاقها، وكان وجهها يتغير غاضبا إذا لمسنا هذا البوريه أثناء مرونا، وكأننا بلمسه سننتقص منه شيئا، وكانت تغطيه بملاءة قديمة نظيفة وهى تتصور أنها تحمى البوريه من تأثير مستطيل الشمس الصغير الذى يصله مترددا قادما من شباك مواجه، ثم تظل تحرك الملاءة مع حركة مستطيل الشمس طول النهار، وكأنها تخشى عليه أن تصيبه ضربة شمس. كنت أحيانا أرجّح أنها ربما تستعد لبداية جديدة مع زوج جديد، وأن هذا هو رأس مالها، ولكن السنين مرت بعد ذلك بالعشرات، ولم يتحقق شئ من هذا، ولا أنا لاحظته حتى فى خيالها، وهى لم تتغير إلى غير هذا، بل ازدادت تعلقا “بالأشياء” حتى نهاية النهاية، وكنت أتساءل فى كل مرة أزورها: لماذا؟ وحتى متى؟ وحين شغـلتنى الدنيا عنها بعد أن غادرتنا إلى قريتها وتباعدت زياراتى لها إلى كل عدة شهور، وظلت هى مستمرة كما هى، وحيدة عنيدة، تعيش صلبة فى دائرة واضحة المعالم بالنسبة لها، أما بالنسبة لى، فكانت دائرة غامضة مثيرة للتساؤل القبيح، كانت حياة مشكوك فى جدواها ومعناها، أحيانا أسمح بإعلان هذا القبح لنفسى، وأحيانا أضبطه متلبسا وراء باب وعيى الظاهر، بدت لى حياة بلا مبرر:، فلا صاحب، ولا ولد، ولا هدف من الأهداف التى حسبتُ أنها مبررات الحياة (فلا تطور!!) . كانت لا تحب أكثر من أغنيه أحلام “ياعطارين”، كما كانت تعلق فى حجرة الاستقبال التى تعتنى بها وكأنها فى انتظار رئيس الديوان، كانت تعلق فرخا كبير من الورق لست أدرى من الذى كتب لها  عليه البيتين الشهيرين “سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبرى، وأصبر حتى يأذن الله فى أمرى، وأصبرحتى يعلم الصبر أننى، صبرت على شئ أمر من الصبر” مع أنها لم تكن تقرأ أو تكتب. كانت أحيانا تطلب منى أن أقرأ لها المكتوب، وكأنها لم تسمعه من قبل، فأفعل، فتهز رأسها ولا تبكى، أنا لم أرها تبكى أبدا، كنت أسترق السمع لما يشبه العديد تردده وهى تعطى وابور الجاز نفسا قائلة:

“أهمّ ما اقدْر اهم أكنى جمل تقل علىّ الحمل”،

ثم تواصل فيما يشبه الغناء

“وانْ حمّلونى حمْل الجمال الحمْر، الحمل أشيله بس الكلام المُرْ

وانْ حمّلونى حمْل الجْمال البيض، الحمل أشيله، بس الكلام يكيدْ”.

 لم أستطع أن استوعب لـِمَ كل هذا الصبر والاصرار والتحدى، لمِنْ، لماذا؟ إلى متى. ما أغبانى، ما كان أغبانى. ما أغبانى! أنا مالى؟

وحين كنت أزورها بعد غيبة، كانت تستقبلنى بنفس البشاشة والسماح، وكل ما تقوله من لوم ٍمحب أنه “إخص عليك” فأتصور أنها تعاتبنى على تقصيرى، لكنها تسارع وتكمل:  “ما جبتهُمش ليه؟” فأعلم أن هذا “الإخص” يعود على عدم إصطحابى لأولادى وليس على تأخرى عنها، فأخجل خجلا لا ينفع، وأتبيّن الفرق بين كرم سماحها، وبين نذالة نسيانى، وأتساءل لماذا لا يتآكل إلا الوقت المخصص لصلة الرحم، وهى لا تنفك تدعو لى بالسلامة حتى مع الهجر اذ تهمس لنفسها بصوت أسمعه “قساوتهم ولا خلو بيوتهم”، على الرغم من ذلك كنت أضبط نفسى وأنا أجلس معها، أو  وأنا أتابعها وهى تتحرك بصعوبة مستندة الى عصا معوجة قديمة قد أثبتت فى أسفلها قطعة من الكاوتشوك البالى، تتحرك وثدياها المتضخمان جدا (طول عمرها) قد تدليا يخبطان فى بعضهما البعض حتى يخيل إلىّ أنهما قد يثنيان جذعها للأمام حتى يعوقا السير أكثر، كنت أتساءل بالرغم منى (ويا لخسة التساؤل): “لماذا تعيش خالتى هذه بحسابات “التطور؟” ولماذا تبدو وكأنها تحمل رسالة عظيمة معقدة هادفة وأنا لا أعرف عن رسالتها تلك شيئا، لكنى كنت أرجّح فى النهاية أنها رسالة كأعظم ماتكون رسائل الوجود، رسالة تضمّنها كل بريزة تخبئها فى طيات ثوبها، وكل وعاء طبيخ متناهى الصغر تطبخ فيه ما يكفى حاجة شخص واحد، حتى أنى حين كنت آكل منه كنت أتصور أنى عدت طفلا ألعب لعبة البيوت مثل زمان، وكلما ازدادت علاقة خالتى بالحياة توثقا، زاد تساؤلى الخسيس هذا إلحاحا، وأحيانا أجد لتساؤلى إجابات رائعة: مثل أنها “ربما تعيش لتدعو لى أنا وأولادى”، فأضبط نفسى صاحب مصلحة ذاتية فى كل شىء، حتى فى استمرار حياتها.

يا ذا العيب. أنتبه بقوّة إلى خطورة مثل هذا التفكير البدائى الذى يبدو أنه متغلغل فى تركيبنا الحيوى منذ كانت الحياة تتخلص بمنطق عشوائى من كل ضعيف أوعاجز أوعالة. ترى ماذا فعلنا بهذا التركيب القديم، هل يكفى أن ننكره ونتمادى فى التظاهر بعكسه؟ أم أن ثم سبيل آخر لتحمّل مسئولية تطورنا بشرا بالاعتراف به  ثم احتوائه. وأخفف من غلوائى فى محاولة البحث عن غاية ـ أعرفها ـ من كل حركة وسكنة وشخص.

 كم كنت أدور حول نفسى معاقا بهذا المستوى من النفكيـر، قال ماذا؟ “التطورى!!” كنت فى غرور الفتوة لا أستطيع كبح جماح هذا الفكر ناسيا عجزى أمام معرفة غاية أبسط الحيوات، فماذا عن غاية طائر البومة، أو حية الكوبرا، أو دودة البلهارسيا، أو فيروس الإيدز؟ وكم حمدت الله أن حب خالتى لى، ودعائها لنا لا يتأثر بهذه البلاهة الفكرية التى تدور حول معنى حياتها “التطورى”، والأهم من كل هذا أننى كنت ـ ومازلت أحب خالتى هذه ربما أكثر من أى شخص آخر.

أذكر أن والدى نفسه كان أحيانا ـ حتى فى شيخوخته ـ يتساءل مثلى، حول هذه المسائل وإن كان تساؤله كان ينعكس على نفسه أكثر مما يصيب غيره، فكان أحيانا يجاذبنى الحديث حتى نصل إلى أن يسألنى:  “وأنا.. لماذا أعيش بعد الآن؟ ـ وحين أدعو له بطول العمر يعاكسنى مداعبا أنه “يحق لك، إذ أن كله مكسب، ألستُ “خوليا” زراعيا لأملاككم بدون أجر؟” ـ ولكن ما أن يقترب الموت من أبى حقيقة وفعلا حتى يتشبث بالحياة كما لم أر مثل ذلك من قبل.

حين حَجَبَتْ مضاعفات مرض السكر مناظر الدنيا عن عينيه، ثم حجب التهاب الأذن الوسطى المزدوج أصواتها عن أذنيه، رحت ألازمه فى محنة عجزٍ تغلغلت آثارها فى كيانى حتى النخاع، ثم تصورتُ أنها تضاءلت مع مرور السنين، لكنى ضبطت نفس المشاعر تعود بحجمها وأنا بجوار صديقى الراحل، فى رحلتنا هذه،

جعلت أواكب صديقى نفس مواكبتى لوالدى معايشا العجز والخيبة أمام قهر المرض فى الحالين، لكن والدى كان قد حبسه عجز الحواس عن التواصل مع العالم، مع تمام صحته البدنية فيما عدا ذلك، أما صاحبى فهو تحت وطأة غول ورمٍ زاحف ملتهم، ويكثف المحنة فى الحالين أن كلا منهما ظل ذهنه متوقدا متسائلا، حاضرا، عابدا، شاكرا، على الرغم من العجز الطبى والألم الزاحف، والسجن الحسى جميعا.

أذكر بعد انقطاع المواصلات مع العالم عند والدى بفقد سمعه وبصره أنه حبس صوته عن الكلام ظنا منه أنه ما دام لايرانا ولايسمعنا، فنحن كذلك، لكن ذهنه يعمل بنفس الدقة والحدة، فراح يتفاهم معى بالكتابة بسبابته، وأحيانا بمؤخرة قلم، على بطن يدى، فأشفقُ أن أذكـّـره أنه ما زال يستطيع أن يتكلم، فأرد عليه، بدورى، كتابة على بطن يده، حتى كدنا نتفاهم رويدا رويدا باللمس.

ثم أُجريت له عملية تزيح الصديد المتجمد فى أذنه الوسطى، فعادت إليه حدة سمعه فجأة بعد العملية، فراح يتكلم  وهو يكاد يطير فرحا حتى أنه لم ينم طول الليل، وظل يحكى لنا، أنا وأخى أحمد (أكبرنا)  الحكاية تلو الحكاية، ويتندر على رجل كان بمثابة عمٍّ له،  كان يبيت ذات ليلة  بجوار “الحلـزونة” ليحرس البهائم بالتناوب مع عامل أصغر، وحين سمعا صوت “شخشخة” بين عيدان الأذرة، راح العامل الأصغر يسأل “سامع ياحاجّعْـلى” (حاج على)، فينكر عم والدى فى إصرار، ويؤكد أنه لم يسمع شيئا من أصله، لكن “الخشخشة” تعود، فيكرر العامل السؤال، ويكرر الحاجّعْـلى الإنكار، حتى يفيض بالسائل الغيظ فيصيح “.. ما تقوم تشوف فيه إيه ياحاجّعْـلى، ولامش راجل” ـ ويبدو أنه فى جوف الليل يمكن لـلواحد أن يتحلى بشجاعة من نوع خاص، شجاعة إعلان الخوف مثلا، إذ ثار الحاجّعْلى مدافعا عن حقه فى الخوف والدفء معا، فراح يعلنها بصراحة، أنه: “مرة ابن مرة، ولا إنى إتحرك من تحت الدفية، واللى فْ قرنك انفضه يابن بهانة”. ولا أتبين ما مناسبة أن يحكى لنا والدى هذه الحكاية بالذات فى تلك الليلة بالذات، ولكنى أضحك معه، ويضحك أخى الأكبر الذى كان يشاركنى صحبة والدى تلك الليلة، نضحك، كما لم نضحك أبدا. كانت هذه الحكاية آخر ما حكى والدى ، ما دلالة ذلك يا ترى؟ أرجح الآن أنه لما سمع أصواتنا بعد طول حبسها عنه وراء حاجز الصديد المتجمّد قفزت الى ذاكرته حكايات الأصوات، بدءا بالخشخشة بين أعواد الأذرة، أو لعله بحكايته تلك كان يبرر شجاعة الاعتراف بالعجز، ولا ننام ثلاثتنا من الفرحة منتظرين الغيار الأول بعد العملية كما وعد الجراح.

 كنت قد علمتُ بوصفى طبيبا  أن ثم تمزقا قد حدث أثناء العملية، تمزقا فى غشاء الأم الجافية المحيطة بالمخ، وأن ثمة كمّادة قد حُـشرت فيه حتى لايتسرب السائل النخاعى المحيط بالمخ، وأنّ قرار رفع هذه الكمادة متروك للجراح الكبير الأستاذ الدكتورعلى المفتى الحاذق المشهور، بعد أن يطمئن إلى التئام التمزق، أو حسب ما يرى، وقد رأى الجراح فى الصباح ابتهاج والدى لاستعادة سمعه، وتعجب حين انبرى والدى يناقشه فى السياسة. والدى كان يعلم علاقه د. على المفتى الطيبة بعبد الناصر، وعلاقة المرحوم أخيه أنور المفتى من قبله، ويواصل د. على الحوار فرحا بنجاح العملية معجبا ببداهة والدى وحجّتـه، مستبشرا خيرا بالحوار السياسى مع والدى رغم اختلافهما (!!)، ثم يجرى الغيار فى حجرة العمليات وما أن تـُزال الكمّادة حتى ينسكب السائل النخاعى فجأة بما لم يتوقع أحد، فيغفو والدى، فينام، فيغيب، ولا يصحوا أبدا.

…………

…………..

ونكمل الأسبوع القادم

[1] –  المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *