الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى!” (12 من ؟)

من كتاب: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى!” (12 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 11-5-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4636

من كتاب:

الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)

الفصل الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى!”  (12 من ؟)

…………………..

…………………..

فى طريق عودتى أضحك من دهشتى وانبهارى بما لا أعرف متذكرا انبهار الشيخ عبد الرحيم الكفيف، مقرئ ليالى رمضان فى بيتنا فى بلدنا. حين كان يسهّينا قبل السحور فيقوم يتمسح فى الحائط المصيصى الأملس، ويهمس لنفسه مُهَمْهِمًا أنه ” يا سيدى فهد الرجال، دا مدهوك بسمن صافى”. ثم يكاد يترنم بما يعلن بهجته باكتشافه، كان الشيخ عبد الرحيم، عكس الشيخ اسماعيل البرعى زميله السهران، فنانا يحذق العزف بالسلامية، ويستدرجه والدى ذات مرة إلى الحمام وهو يعده بمفاجأة لا يستطيع مجرد تخيلها حين تهبط عليه مياه “الدش” من أعلى وكأنها معجزة المطر الصناعى، وكان الشيخ عبد الرحيم بعد أن تخلص من مخاوفه وحذره وقد خرج سالما المرة تلو المرة من تحت المطر دون أن يغرق، كان يعتبر أنه أصبح حقا مكتسبا أن يحظى بهذا الدش البارد الذى يخرج منه منتعشا فى ليالى الصيف، ويقسم أن قراءة “ربع” بعد هذا الدش يساوى ختم خاتمة بحالها.

وأرجح أنى، مثل الشيخ عبد الرحيم ، سوف أعتاد على ما يبهرنى من، مثل هذه الدعوة، لكنى أشك أنى يمكننى أن أحتفظ بالنشوة نفسها مثلما فعل الشيخ عبد الرحيم.

 ثبت لى صحة ذلك حين عدت إلى بلدى فدعانى أحد الزملاء من علية القوم (قومنا نحن هذه المرة) لأكون الضيف المتحدث فى غداء اللقاء الشهرى لأحد نوادى الليونز (الروتارى)، – وكان ذلك فى مطعم بفندق هيلتون النيل، وكان المجتمعون ذكوراً دون الإناث فعلمت أن هذامن أول تقاليد هذه النوادى، ثم بدأت الطقوس بعزف السلام الوطنى، ثم أخبار النشاط، ثم الحديث على الطعام، وعرضت بعض آرائى مما حسبت أنها مناسبة، فاذا بى أكتشف من أسئلتهم – وعلى الرغم من احترامهم الضمنى لموقفى الفكرى (وهو سبب دعوتى) أكتشفت أن أسئلتهم (فى الأغلب) ليست كذلك (ليست مناسبة)، وأقول فى نفسى: ها أنذا، نفس الشخص الذى خاف من الحائط المتحرك فى باريس، والذى حرص على تقليد جاره خوفا من السهو والخطأ، والذى تقمص الشيخ عبد الرحيم لاصقا خده بالجدار الأملس، هو أنا ضيف الشرف الذى يسألونى فأجيب، وعلى الرغم من حسن التقدير وسلاسة اللغة، ودفء الاستقبال، فقد شعرت أن الروتارى “هذا” ليس مكانى، وبدون الهجوم على ما يجرى فى هذه النوادى فإنى لم أفهم حقيقة جدواها، رغم أننى لم أشك فى طبيعة محركيها.

عدت إلى فندقنا وأنا محمل بالتساؤل: إذا لم يكن هذا، وذاك، هما مكانى، فأين مكانى؟، ألست أستاذا جامعيا، اجتماعيا!، طبيبا، كاتبا، عالما،… الخ، أليس هذا، وذاك، من مستلزمات ما هو ظاهر وجودى؟ فلماذا هذا الاستغراب، والحرج، والتجنب، والغرابة؟.. أفبعد كل هذه الممارسات الاجتماعية، وهذا النجاح المعلن، أجدنى فى نفس موقفى شديد العزوف عن كل ذلك، لم أحذقْه يوما، ولم أحبّه أبدا، ولا أعرف سبيلى إليه، ولم أفهم طبيعته، أو وظيفته، كل ذلك رغم اعترافى الأكيد أنه ضرورة اجتماعية فيها كثير من الخير والفرص، لكن أبدا، ويلح على تصورٌ أنه لابد أن ثمة مجتمعات أخرى، رقيقة أيضا، وعميقة أصلا، وبسيطة جدا، وأتصور أن ثم مجتمع اشتراكى،أو إيمانى، أو فطرى، أو تلقائى، يصلح لأمثالى دون أن يضغطوا على أنفسهم كل هذا الضغط.

 حاولت طوال خمس عشرة سنة مضت أن أحقق هذا “الفرض” تحقيقا عمليا على أرض الواقع، حتى  تصورت أنى نجحت، فاختلط مرضاى بتلاميذى بأسرتى بعمالى بشكل طيب ومباشر، ثم بدأت المضاعفات، لكننى أصررت على التحوير لا التراجع، وما زلت أمارس نشاطا “اجتماعيا” فى بعض هذه المجتمعات البديلة بعد تحويرها قليلا قليلا، لكنى أشعر أن هذا التحوير سوف ينتهى، خصوصا بعد رحيلى، حتى يعود الحوار إلى ما هو: “تجاذب أطراف الحديث” و”الأطعمة بغير اسم” و”الحوائط المتحركة” و “السائق السمهرى” ويصبح كل ما فعلت مجرد ذكرى محاولة فاشلة، وأزداد اقتناعا أن أى إصلاح أو إبداع ثورى شامل معرّض لأن يسرق من داخله أو أن ينتكس. إلى ميوعة طفلية، أو كذبة نقيضية، مالم ينتشر ويتدرج ويتأصل ويواكب الفطرة معظم الوقت.

رجعت  إلى فندقى النظيف الجميل المتواضع، شاعرا بالخلاص، فعادت إلىّ رغبتى فى أن أنتهز فرصة غياب الأولاد لأعاود محاولة أن “أكـنّ” حتى أستتر فى أُنس نفسى، وقد كانت هدأة طيبة حدث فيها فض اشتباك بين أكثر من موقع، ثم عادوا، ثم انفصلنا بعد أن انضمت زوجتى لى، فصحبتها واعدا بمفاجأة، وقد أضمرت أن أعوضها بعض حرمان تلك الأيام، واكتشفت أنى مازلت جائعا، فأنا لم أتناول شيئا فى حقيقة الأمر من غداء ذلك اليوم العصيب.

 فى الشانزلزييه، مطعم بدورين، كم وقفنا أمامه – قديما سنة 1969 – نشاهد قائمة الطعام دون أن نجرؤ على الدخول، وها نحن قادرون على أن نفعلها من حُرِّ مالنا بعد خمسة عشر عاما، ولا أجد فى نفسى وأنا فى المطعم الفخم أية فرحة خاصة بقدرتى المالية، ولا أتذكر توجعا خاصا من زعم حرمان كنت فيه، إذ يبدو أن المسألة تتعلق بضبط جرعة الرغبة مع جرعة القُدرة، (واللى مامعاهوش ما يلزموش) مع تواصل إعادة التناسب كلما أمكن ذلك.

السبت 8 سبتمبر 1984

مازلنا فى حالة من الاستقلال سمحتْ لزوجتى ولى، أن نقوم هذا الصباح بجولة خاصة، بدءا بالمرور بالمنزل الذى كنت أسكن فى إحدى حجراته فى الحى الثامن عشر، بالقرب من ميدان كليشى وحى البيجال، فى شارع كولانكور، وهو بداية جولتى القديمة إلى المونمارتر حيث أبدأ، بعد صعود مناسب، بالانحراف يمينا بعد ناصية بيتى بكثير (هكذا أعتبره حتى الآن . وعدت الأولاد أن نزوره غدا) ثم هات يا صعود، فيما هو أضيق وأضيق، سيرا على الأقدام، فرحا بالحجارة القديمة، وآثار الرطوبة، وبعض الخضرة، والأبواب الخشبية الصغيرة، وأشعر أن زمنا وادعا يغلف كل ذلك دون قفزات شائهة تحرم هذا الحى من تاريخه تحت أى عنوان. زوجتى تستسلم لجولتى هذه التى اعتادتها كلما زرنا باريس، حتى أنها بدت لها مثل طقوس المزارات الخاصة، نفس المسار، ونفس الانحناءات، بنفس الترتيب، حتى نصل من الطريق الخلفى إلى تجمع رسامى الشارع والمقهى من الفنانين وأدعياء الفن على حد سواء، هناك على حواف كنيسة الساكركير، فأكرر ما قمت به وعشتــه عشرات المرات وكأنى أفعله لأول مرة، وأشترى الكروت الصغيرة التى تصور ذلك الطفل الذى “يطرطر” فى غير حياء مخرجا لسانه، أو تلك الطفلة التى تتواعد مع صديقها الطفل وقد رفع الهواء “جونلتها”بشكل محسوب جميل، فأجلس جلستى المستعيدة لما كان، المستكشفة لما قد يكون قد استجد، فأتصور ـ ربما خطأ ـ أن ثمة إصابة أصابت المكان كما أصابت الزمان، حتى كاد يفقد أصالته، أو تلقائيته، أو وظيفته، لى على الأقل، وأشك فى تقديرى إذ أرجح أن تعلقى بالقديم يحرمنى من قبول التغيير ويشككنى فى الحركة إلى أعلى. أنا لا أشك فى الحركة إلى “أعلى” لكنى أبحث عن الحركة إلى “أعمق” فأكاد أجزم أن المكان قد أصابه “انفتاح ما”، ليس انفتاحا على مزيد من الفن والإبداع، لكنه انفتاح “بوتيكى” الطبع، لعله “تأمْـرَكَ” (صار أمريكيا) أو تهـوَّدَ (صار يهوديا) أو تَـهَـنـْدَسَ (نسبة الى مدينة المهندسين عندنا)، لأنه شتان بين مكان قديم، اعتاده فنان فقير، ترك نفسه تجرى مثل ماء نهر صغير بلا غاية مسبقة، فإذا بالخضرة تنمو حوله من فائض دفقه، فيرعاها مزارعٌ عجوز، ويبتاع بعض ثمارها عابر سبيل ـ فقير أيضا، شتان بين هذه الصورة التى هى عندى “المونمارتر”، وبين المكان الذى وجدته هذه المرة وكأن تاجرا قد اشتراه بالجدَكْ، فوظف فيه صبيان الفن ترسم لك صورة بعشرة فرنك، وتقرأ الفاتحة للشيخة “ساكركير”، ولست أدرى لماذا أعزو كل تغيير من هذا النوع إلى جريمة اللاحضارة الأمريكية. الدنيا تشقلبت: الأصيل يتأمرك، فى حين أن الأمريكان يتمسحون، ويقلدون الأصالة.

 ما زلت أذكر قرية جرينوتش فى نيويورك، وهى تحاول أن تكون نسخة زائفة من الحى اللاتينى أو المونمارتر أو البيجال أو منها جميعا، فاذا بها مستنقع للشذوذ الجنسى والبدع المزخرفة، وحين زرتها قبل ذلك بعام فرِحتُ بكل ما هو “موالدى” فيها من مأكولات فجة، وألعاب صارخة، وزفة بدائية، وطبل وزمر وتهريج وبدع، ولكن النظرة الثانية جعلتنى أهرش رأسى وأتساءل: هل هؤلاء الناس منطلقون من داخلهم أم أنهم هائصون من خارجهم لا أكثر، فى النظرة الثالثة هرشت جسدى حيث أدركت زيف التقليد.

أرجح ـ أن الامريكى حين يعجز عن إتقان التقليد يدفعه الغيظ الى إتلاف الأصل، فباريس الزجاجية وناطحات السحاب ليست هى باريس التى أعرفها، وحتى المونمارتر هنا ليس  هو ما ألفتُه قديما، هو يكاد يتنكر لى بقدرما أتنكر له، نفس الشعور يصيبنى وأنا أشاهد ناطحات سحاب القاهرة المُـتَـنَـوْرِكَـةْ. (نسبة الى نيويورك).

نفس الأسى أتذكره حين زرت مؤخرا قهوة الفيشاوى، فاذا بى أبحث عن فيشاوى الخمسينيات، فلا أجدها، إذ أفتقد الشيخ محمود الضرير القصير وهو ينادى “أنا بابيع الأدب” كما أفتقد شلل الشباب، وشباب الشيوخ وهم يتبارون فى الشعر والضحك والقافية والمؤانسة، دون عدوان أو بذاءة: تهتف ثلة على اليمين أنه “أبو شنب فضّهْ، تفِّـيتْ على شنَـبُهْ، قام الشنَبْ صدّى” فيرد الجانب الآخر، وثلته تردد وراءه “أنا البابور إسود غطيسْ، إللى يقابلنى يروح فطيسْ” ـ لكن الآن، ثمة شئ آخر، كأنه ظل باهت لذكرى مشوهة، ويبلغ قمة التشويه، حين تقلد الفنادق ذات الخمس نجوم الأحياء الشعبية، فيكون الناتج ذلك المسخ الكاريكاتيرى لحى السكرية “البلاستيك” فى فندق السلام هاييتى بمصر الجديدة مثلا وحى بين القصرين فى فندق رمادا الهرم، الجميع يسرقون القديم، فيُفرغون منه رائحته ونبضه وروحه. (الكلام عن سنة 1986 – أمور كثيرة تغيرت الآن حتى الأسماء تغيّرت، والتقليد المشوّه مستمر- يوليو 2000).

أنا لا أحب أن أتمادى فى تكرار هذه اللهجة التى تشعرنى أنى لست إلا عجوز خائب عاجز عن استيعاب الجديد، ليس عنده إلا أن يعيب ويعاند ويشوه ويحكم ويمتعض، ذلك أننى على يقين من أن القديم لا يعود ولا ينبغى أن يعود، لكنى على جهل عظيم بما يمكن أن يحل محله مما هو أفضل منه.

سيحدثْ.

 ونلف حول الساكركير دون دخولها، فكم دخلتها، وشاركت فى طقوسها، فى كل مرة أشعر وكأنى أزف السيدة العذراء إلى السماء، اعتدنا أن ندور حول الساكركير لنهبط متدرج سلالمها العريض الجميل نازلين متجهين لـ “وكالة البلح” الباريسية، أقابل عشرات السنغاليين الذين يبيعون الطبلة والرق ونموذج الأفيال الصغيرة من العاج، ويذكروننى بالفتى النحيل الأسمر الذى قابلناه فى “ثيو” شمال “كان”، وأعرف أنهم يمارسون هذه التجارة بشكل مخالف للقانون، ورجال الشرطة الفرنسيون على مرمى البصر، ولكن يبدو أن ثمة اتفاقا غير مكتوب “يسمح لهم” بذلك فى حدودٍ ما، وأقول لنفسى: ياسبحان الله: لو أننا حسبنا القوانين الحقيقية التى تتحكم فى معاملات وسلوك البشر لوجدناها أبعد ما يكون عما يجرى فى أقسام البوليس وساحات المحاكم، وربما أهم، وأنفع،

أواصل نزول الدرج مع زوجتى، وأعجب لعدم الازدحام رغم تدفق الآلاف، وأقارن بين نظافة المكان النسبية وبين فضلات البشر وبقايا كل شئ حول الهرم الأكبر، وأبتلع غصتى بصعوبة، ونجلس ـ كما اعتدنا ـ على “دكة” جانبية فى منتصف طريق الهبوط بعد أن تبينا أن أغلب محلات “الوكالة” قد أغلقت أبوابها، فاليوم هو السبت، والأجازة أصبحت يومين فى الأسبوع فى كثير من المواقع، على الرغم من أن المحلات العملاقة فى المدن العملاقة قد عمدت إلى بدعة العمل طول الاسبوع  والذى لا يشترى يتفرج!! فأوقن من تواصل التهام المحلات الأكبر للأصغر مثل سمك المحيطات، وآسف على احتمال اختفاء وكالة بلح باريس، فكم حفظتْ ماء وجهى إذ باركت فى فرنكاتى القليلة حتى استطاعت أن توفى بهدايا المنتظرين “كل حى باسمه”.

 نواصل النزول بعد الوكالة آسفين فى اتجاه البيجال مخترقين الشوارع الخلفية، لكننا نتوه قليلا أو كثيرا، أعرف أن المسافة لا تزيد عن عشر دقائق سيرا، لكننا نسير منذ نصف ساعة، فنجد أنفسنا ـ فجأة نسبيا ـ فى منطقة: شديدة الزحام، شديدة الغوغائية، شديدة التشويش، بادية “العروبة” وأتبين فيما بعد أنها منطقة “باربيـس روششو”، ونجدأنفسنا كأننا قد انتقلنا فجأة إلى زنقة الستات بالاسكندرية أو حوارى الموسكى، وأحكم زر جيوب سروالى، وأنظر إلى وجه زوجتى فأجد عليه الرضا بالمفاجأة، وتنفتح شهيتها للفرجة، والفصال، وتتذكر عشرات من أسماء الأقارب والمجاملين (السابقين بالفضل والدائنين) من المنتظرين والمنتظرات، من الكبار والأولاد والبنات،”… وهذا لهذه وذلك لتلك، أما هذه فهى لابنة فلانة، وتلك لا تليق إلا على ابن علانة، وأخيرا سأرّد جميل ترتانة، وكله سلف ودين…”، فأستسلم استسلام العالَم الثالث للبنك الدولى، وأفتح الاعتمادات لشراء ما لا أريد لمن لا أعرف، ولا أنكر أننى أحترم هذه العادات، ولا أطيقها، فى نفس الوقت، وتتأمل زوجتى المشتريات وأتأمل أنا الناس، وأتعجب للإغارة العربية التى احتلت هذا المكان بالجملة، وكأنها نوع من انتقام الذين اتَّبَعوا من الذين اتُّبعِوا، وأضع يدى على قلبى من احتمالات المواجهة بين اليمينية العنصرية الجديدة على فرنسا وبين هؤلاء المستعمرين العرب، ربك يستر ـ ثم تنتهى الأزمة الشرائية على خير يسمح بأن أطمئن إلى عدم تكرارها، ولكن من يدرى؟ فأمضى محملا بأكياس ورقية وغير ورقية مقتنعا ـ رغم أنفى ـ أنى وفرت بذلك الشئ الفلانى.

ما أن أصل إلى الطريق الممتد بطوله من ميدان كليشى (حيث كنت أسكن قريبا منه جدا) إلى البيجال وبعده حتى أدعو زوجتى الى “وليمة” قارعة الطريق ، التى اعتدناها أيام الحرمان، لكنّها اختيارية هذه المّرة، الجلسة على دكة الحديقة، والمفرش أوراق  إحدى الصحف، أذهب لـشراء ما تيسر من البقال والفرن، والشواية القريبة ـ وحين أعود إلى زوجتى المنتظرة فى الحديقة، أجدها ممتقعة الوجه غاضبة منى أو علىّ، وقد تعودت أن أكون “مسقط” غضبها حتى لو لم أكن “مصدره”، فأسأل، فتزوم صامتة، ثم أسأل وأنا أتلفت حولى فألمح بعض الجزائريين بالكاسكيت أو البيريه المميزين بالوجوه السمراء المعروقة، والجسم النحيل، فأسأل زوجتى:! هل هم؟ فتجيبنى، أن “نعم”،ثم تكمل دون كلام: ما دمتَ تعرف فلماذا تركتنى؟ كدت أصرخ فيهم لولا أن لمحت غيرهم مثلهم فى كل مكان”، وأحاول أن أفهمها أنه ليس فى الأمر خطر حقيقى، وأنها مجرد تماحيك معتادة، فتكاد تبكى وهى تذكر بعض الألفاظ التى رجحت أنها بذيئة نظرا لاختلاف اللهجة، لكنها استنتجت ذلك من حركات الوجه واليدين، وأبلع ريقى بصعوبة وأكف عن محاولة التخفيف عنها، وأتألم لها كما أتألم لهم.

فى هذا الحى بالذات يقوم الجزائريون بأعمال القوادين والفتوات لأن أغلب رواد هذه الأماكن هم من مواطنيهم الذين يعيشون فى باريس دون زوجاتهم،  فلابد لبائعات الهوى من حامٍ من جنس الزبون، حيث لا يفل الحديد الا الحديد، فلا يستطيع “زبون” جزائرى  أن يتملص من دفع أجرة الاستمتاع باللحم الفرنسى الأبيض، ولا من الإطالة بدون مقابل، ولا من الإيذاء إذا تمادى فى تشويه النشوة ـ وتنتهى الأزمة على خير.

فى المساء نجتمع مع أولادنا ثانية، لندخل فيلما سيئا، أذكر أن اسمه سلاما Slama، وهو اسم الفتاة المراهقة فى الفيلم، أو اسم قطعة الموسيقى التى يعزفونها، لا أذكر، لكنى قرفت حتى قرب القئ من امتهان كل ما هو قديم، وكل ما هو كهل، وكل ما هو تقاليد طيبة، وكل ما هو محترم، وكان الفيلم يدعو بكل وقاحة الى حرية “قلة الأدب” و “نذالة الأبناء” والأحفاد لا أكثر، وقد شعرت بأن مثل هذه الأفلام هى أخطر وأقسى وأدنى من كل الافلام العارية والجنسية، وأعترف أننا أخطأنا الاختيار، ولكنى أفرح باكتشاف “الغث” و “التافه” و “الضار” فى بلاد الحضارة السعيدة، ففى كل بضاعة ما هو طيب وما هو خبيث، وأقول إن الهبوط وارد على سلم الصعود، وبدونه على حد سواء.

…………..

…………..

ونستكمل الأسبوع القادم

 

[1] – المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *