الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب:الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (3 من ؟)

من كتاب:الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (3 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 9-3-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4573

من كتاب:

الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)

الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (3 من ؟)

استهلال واعتذار

اكتشفت أن حلقة اليوم تحوى ذكريات ليلة قضيتها مع صديقى الذى كان يودع الحياة بإيمان الواثق من رحمته، وبطولة المصارع لقدره ووجدت أنه لزاما أن أذكر، وأتذكر، أن هذه الحلقة بالذات كانت بعد رجوعه معاندا إلى عيادته برغم كل شىء، وأننا رحنا نتذكر ليلة قضيناها معا فى نيوارك (وليس نيويورك) بعد أن فشلت مهمتنا العلاجية، فقررت أن أبدأ بتكررا ذكرياتنا فى تلك الليلة بإعادة هذه الفقرة الأخيرة (عذرا)

“…قبل هذا الأسبوع الأخير كان صديقى قد تماسك بعناد محبى الحياة ممن يواصلون العطاء والتجلد فى كل حال، فاستطاع أن يذهب إلى عيادته: يشخص الداء، ويصف الدواء، ويتقبل الود والدعاء من مرضاه المعترفين بفضله، وحين مررت عليه فى العيادة أدعم خطوته تلك بلقاء وحديث بعيدا عن تمديد السرير وعجز القربة الساخنة: جعل يتعجب ـ حامدا ـ من موقفه الطبى المعالِج، وهو لا يجد سبيلا إلى علاج نفسه، وأحاول أن أنتقل بالحديث بعيدا عن مواجهة العجز:

رحنا نتذكر تلك الليلة التى قضيناها فى بيت صديق لنا فى “نيوارك” (وهى بلدة بجوار نيويورك، لكنها ليست هى رغم تقارب الاسم كما يبدو)، حيث كان صديقنا هذا يعيش وحده بعد أن هجرته زوجته الإيطالية الأصل مصطحِـبة ولديه، ذلك أنه حين تكون فى أمريكا، إفعل كما الأمريكان، فما بالك وقد أصبح مضيفنا أمريكيا بالتجنس والتعود، إذن فقد فعلها بالأمريكانى وأكثر، فراح صديقنا المتأمرك د. عاطف غندر، يدفع ثمن مزاعم الحرية والغربة والرفاهية: انفصالا أسريا، فطلاقا موقوفا حتى يتفقا على قسمة شقاء العمر وعرق الغربة بينه وبين هذه المرأة (زوجته) التى يبغضها كما لم أره يبغض مخلوقا من قبل، كنت أعتبره لا يستطيع أن يبغض أصلا، يبغضها هكذا على الرغم من أنها أم ولديه الذين يقيمان معها ـ كل هذا وضحكتُه لا زالت تجلجل ـ كما اعتدناها من ثلاثين عاما فى منزل نواب المنيل فى قصر العينى، مازالت تجلجل فى منزله الخالى حتى من الأمل.

كان زميلنا هذا د. عاطف غندر قد أبلغ اثنين من زملائنا المصريين (المتأمركين أيضا) بوجودنا وبسبب وجودنا كذلك. اتفقنا أن نلتقى جميعا عنده ذلك اليوم، فحضرا من أطراف القارة لنعيش ليلة من ليالى منزل النواب (58/1959). نعيشها سرقة من وراء الموت الزاحف، ونحن محاطون بأجواء الألم المروَّض مؤقتا بالمسكنات والذكريات”.

…………..

…………..

السبت 3/8/1985

كنا خمسة، صديقى المريض السعيد الرازقى والمضيف د. عاطف غندر، وزميلنا القادم من شيكاغو حاملا معه كل ريح “ساقية أبو شعرة”(موطنه الأصلى!) د. أحمد رشيد، ثم د. محمود شعلان أخصائى الباثولوجيا الإكلينيكية. على ما أذكر،وزميل رابع (لم يكن من زملاء بيت النواب)، كان قد حيل بينه وبين مواصلة الدراسة معنا عاما بعام. حين مُنح أجازة إجبارية (إخوانية) فى معتقل ناصرى لمدة عشر سنوات خرج بعدها يعدو إلى أى مكان فى العالم إلا مصر، حتى صار أمريكيا رغم أنفه، لكنه أمريكى معمم دون عمامة، وهو ما زال إخوانيا (ربما رغم أنفه كذلك)، وكان مازال لا ينادى أيَّا مِنّا الا بـ “يا مولانا”.

رحت أطيل الحديث عن تلك الليلة عّلنىّ أنسيه فراغ عيادته بعد أن كانت تعج بالمرضى، فهم لم يعلموا بعودته بعد، ويقول لى هل لاحظتَ أن أحدا من زملائنا هؤلاء ـ فى أمريكا ـ لم يتغير على الرغم من عشرات السنين، وأقول له إنهم لابد يقولون عنا مثل ذلك.

ويذكـّرنى حين كنّا فى نيوارك كيف راح احمد رشيد، صديقنا “الجلدى الجراح (جراحة الجلد أصبحت تخصصا حديثا!!) يحكى لنا ذكرياته فى قريته التى تعيش معه فى أمريكا، وكيف أن هذه الذكريات ظهرت نابضة، وكأنها جاءت معنا من مصر ليعيشها صاحبنا من جديد، ذكريات أثار بعضها أننا جلسنا معا فى تلك الليلة، فى بيت مضيفنا عاطف غندر، نأكل على الأرض، نغمس من طبق واحد، فجعل يحكى لنا أحمد منطلقا بلهجته ذات الرائحة الريفية الأصيلة التى لم تتغير، وكأنه لم يغادر قريته إلى المركز فضلا عن القاهرة، فأمريكا، يحكى بتصوير دقيق حتى كدنا نرى حكايته ماثلة أمامنا.

حكى أحمد رشيد ونحن جلوس على الأرض أنه ذات يوم وهو بعد طالب ثانوى، حين كان فى ساقية أبو شعره، وقد اجتمع (مثلما نحن مفترشين الأرض) مع أولاد عم له حول طبلية محدودة المحتوى، راح ابن عمه الأكبر ينهر أخاه هامسا أنه “ماتحـفّش يادسوقى”، ربما إكراما للضيف الذى هو صديقنا، أو توفيرا للطعام حتى يكفى الجميع، لكنّ أخاه ولا هو هنا، فيكرر الأخ الأكبر مغيظا أكثر: “ماتحـفّش يادسوقى”، ودسوقى يمضى فى مهمته بجد أكبر، فيهيج ابن العم الناصح المجامِل، ويهجم على البيض المقلى مشمرا ساعده ممسكا بلقمة طرية تكاد تزيد عن نصف رغيف حالفا أنه “طب علىّ الطلاق لانا حافف”، وتستعـر المنافسة بين دسوقى وإبن العم، أما ثالثهم ـ صديقنا أبو تيريك ـ فقد راح فى الرجلين ضحية هذه المنافسة التى لم يـُـدْعَ للاشتراك فيها، فلم يلحق شيئا مما فى الطبق.

كان أحمد رشيد يحكى لنا الحكاية وكأنه يعيشها الآن بكل تفاصيلها، ياه!! هو أحمد رشيد، مازال هو هو، رغم الزوجة الأمريكية والإبن الطفل “تيريك”، اسمه طارق لكن زوجته الأمريكية لا تسستطيع أن تنطقه إلا هكذا، فحذا حذوها وإلا ارتبك الطفل الذى لايعرف جملة عربية واحدة، وحين قلت له: إذا كان هو مازال هكذا كما هو، فلماذا لا ينزل مصر على مدد متقاربة، فيأخذ جرعات منشطة من هذا الوجدان الأعمق؟ فيضحك احمد ويجيب حاكيا أنه :

حين نزل فى المرة الأخيرة (منذ عدة سنوات) نزل فى بيته، بيت أمه، فى ساقية أبو شعرة (عادى)، وكان قد حضر بجواز السفر الأمريكى، فإذا به يعلم أن عليه أن يبلغ السلطات ، أى رئيس النقطة فى القرية !! (أو شيئا من هذا القبيل) أنه ينزل عند أمه، أو إن شئت الدقة: كان على أمه أن تبلغ السلطات بواقعة “إيواء أجنبى”، ويستمر فى الضحك مشيرا إلى نفسه “… أنا؟ على قبة فرننا؟ أجنبى؟؟!” ويسوى الأمور مع السلطات حتى لا تنزعج أمه، ويظل يحكى ويحكى وكأنه يريد أن يتأكد أنه مازال قادرا على كل هذه الطلاقة بالعربية، أو كأنه يفرغ مخزونا طال حبسه وراء أسوار لغة أخرى، ورموز أخرى (“يا”)…. (“يا”)… بتثقيل الياء وميل الألف قليلا!!)، وأسأله: “وهل تحلم يا أحمد  بالعربية؟، أم بالأنجليزية؟” فيسكت للمفاجأة، ثم لا يجيب، كأنه يدفعنى بعيدا حتى لا أعرّى نومه فى غربته.

يتدخل زميلنا “الاخوانى” شارحا: كيف أن الأنسان منا مهما طالت غربته “يامولانا” فهو معجون بماء النيل من تراب مصر، و (لهذا) فهو يطلب أن نبحث له عن عروس مصرية، وزميلنا الأخوانى فى سننا، (أوائل العقد السادس) ـ ونكتشف أنه لم يتزوج بعد، وما أن يعلننا برغبته فى أن نبحث له عن عروس حتى يضحك الزميلان المتأمركان، فندهش أنا وصديقى السعيد، ونتبين بالسؤال أن “مولانا” هذا لا يقابل مصريا يعرفه فى أمريكا، أو قادما من مصر، إلا ويمارس معه هواية أن يوظفه له خاطبة خاصة، ويا ويل من يأخذ المسألة جدا، لأن “مولانا” هذا لا يتعدى مرحلة نية الخطوبة أبدا، وهو لم يذهب حتى لمشاهدة أية عروس رشحت له، وكأنه لم يستطع بعد أن يزيل آثار العدوان الناصرى على وجدانه، وانتمائه، وأمانه، وآماله، فتقطعت حباله مع الوطن إلا من زيارة (تخفف عبء ضرائبه بادعاء المشاركة فى مؤتمر أو إلقاء محاضرة). كما تقطعت حباله مع أسرته الأصلية الأولى إلا من مساعدات مادية رمزية يرسلها بين الحين والحين، وأيضا تقطعت حباله قبل أن تبدأ مع أسرة مزعومة ينشئها فى خياله بمشاريع الخطوبة المجهضة، ومع كل الضحك والتذكرة بهروبه المتكرر، فقد أصر أن يعطينى عنوان أخيه فى القاهرة، فضلا عن تليفونه شخصيا فى أمريكا، لأتصل به فور عثورى على العروس، وكأنها فرصة ستسنح لتختفى، فأضحك بدورى بعد أن عرفت اللعبة المكررة، ويضحك سعيد وهو فى قمة معاناته ملء تاريخنا معا.

بدا  لى حينذاك كأن هذا اللقاء قد مسح المرض وأوقف زحفه، فضلا عن تخفيف الألم أو محوه، وأتمنى أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظة، وألا نسافر، وألا نعيد الفحص، وألا نعالج، وألا نفكر، وألا نسأل، أتمنى أن نظل فى هذه اللحظة تحت تأثير المسكن الكميائى والذكرياتى معا حتى يأذن الله فى أمرنا جميعا، معاً.

ونتذكّر كيف تطرق الحديث تلك الليلة إلى أحوال زملائنا فى أمريكا، وأنكش أحمد رشيد أن يحكى لنا بطريقته عن نظام العيادات الجماعية التى يشارك فيها، وكيف قلب الأمريكان كل شئ إلى “أعمال” تجارية Business فيقول إن مصر هى أسبق فى شطارة رجال الأعمال بلا منافس.

 ويحكى لنا أحمد وكأنه ما زال فى ساقيه أبو شعـرة مهارة أول رجل أعمال أعجب به فى مصر، وتعلّم منه ما نفعه فى أمريكا. حيث الشطارة فى أمريكا هى رأس المال الحقيقى. يحكى أحمد:

هو بائعٌ طاهٍ عند حاتى الحسين، كان يتحايل بذكائه وحسن تسويقه أن يبيع الزبون (صاحبنا) ما يجعله لا يُرجع له باقيا من البريزة، فمحل “كل كبدة ومخ زين، واقرا الفاتحة للحسين” كان يبيع سندوتش الكبدة بستة قروش، ولكن رجل الأعمال الحسينى يظل يستدرج صاحبنا يغريه بإضافة بعض البطاطس المقلية، والحلويات السمينة، ثم حبة الطماطم هذه بالثوم والشطة التى تفتح نفسه وتستاهل فمه، المهم ألا يرد مليما من البريزة الصحيحة.

وأنبـّه أحمد معابثا أنى كنت أسأله عن رجل الأعمال الذى يدير عيادتهم الجماعية بالقرب من شيكاغو فإذا بنا فى سيدنا الحسين، فيضحك حتى يستلقى، فتهتز سلسلة ذهبية حول رقبته وهى تتدلى بشكل ظاهر من قميصه المفتوح حتى تلامس أثر جرح عملية القلب التى أجريت له منذ بضع سنوات، وأقول له إنى لا أستطيع أن أتصوره ـ وهو الرائق البال، السهل المعاشرة، المتجلى الضحكة ـ وقد أصيب بانسداد فى شرايين القلب (ذبحة صدرية!) لدرجة تستدعى هذه العملية، والا فماذا أبقى لأمثالنا من المهمومين المكتومين الحائرين، فيوافقنى ناظرا إلى صدره ضاحكا مخاطبا قلبه قائلا: “كسفتـِنـِـى الله يخيبك”، ويحكى لنا:

 إن المسألة لم تكن إنسدادا معـلنا، وآلاما وأعراضا مثل خلق الله المذبوحين صدريا، وإنما الأمر قد اكتُـشف بالمصادفة أثناء الكشف الروتينى، ذلك أنه بصفته شريكا فى العيادة الجماعية التى كنا فتحنا الحديث عنها، قد اعتبروه ـ شخصيا ـ جزءًا من رأسمال المؤسسة، وبالتالى عليه أن يتبع نظاما دقيقا للفحص الدورى حتى لو لم يشكُ من شئ، عليه أن يجرى الفحوصات المفروضة مثل أى اختبار لأى جهاز سوف يستعملونه فى العيادة الشاملة، كما أن عليه أن يجرى العمليات الجراحية المناسبة إذا لزم الأمر ليدخل إلى الشركة مضمونٌ عمره الافتراضى وكفاءته حتى لا يتعطّل العمل إذا ماحدث شئ كذا أو كذا، وأشعر ـ ويوافقنى ـ أنهم قد أجروا له هذه العملية من باب أن “الاحتياط واجب”، وأكاد أتصور أنهم قد جددوه، مثلما نغير الإطار الداخلى فى إحدى عجلات السيارة قبل أن ينفجر، مادام قد كاد يـُستهلك حتى لاينفجر فى مكان غير مناسب، فيوافقنى على كل ذلك، وعلى الرغم مما يبدو فى كل هذا الإحتياط من تقدم علمى وطبى، فإنى شعرت بأن المسألة كلها هى من باب “حسابات الجدوى” لصالح المؤسسة التى يعمل بها أولا وقبل كل شئ، وأن عمليات “الصيانة الآدمية” هذه لا تختلف بحال عن عمليات الصيانة لأى جهاز فى نفس المؤسسة، وأكاد أرفض ذلك وكأنى أفضل الموت وسط ود دافئ على أن أصبح هكذا مجرد جزء من آلة كبيرة يحافظون على حياتى لأن ذلك أرخص من وفاتى، التى ستضطرهم إلى شراء آلة طبية بشرية جديدة تملأ الفراغ الذى سأتركه، وأكاد أضبط نفسى متلبسا بهذه الشاعرية البدائية، وأنا أرفض أن يعتنوا بى كمصدر ربح للمؤسسة أساسا، أو تماما، كأنى أفضّل أن أموت بالصدفة على أن يصلحونى دوريا، أو يجددون ما هو معرّض للتلف فىّ قبل الاستعمال، قبل أن أتمادى فى الادعاء حتى أكاد أصدق نفسى ألتفت بإطلالة سريعة فألمح هذا الوغد الزاحف المتربص يطل من عمق عيون صديقى المترنح من الآلام، ألمحه يمتد وسط الضحكة العريضة، فأرفع كلتا يدى معتذرا مستسلما، وكأنى أعلن قبولى أن أكون ـ ويكون ـ قطعة غيار بشرية، نُصان كما تصان الآلة “لعل وعسى”. ترى هل يمنع ذلك من أن يزحف الموت إلينا وغداً يتلمظ؟ همست لنفسى بلا معنى مرة أخرى : لعل وعسى؟! أىُّ لعل وأىُّ عسى؟ إن مرض صدىقى لا ينفع معه احتياط ولا صيانة ولا “لعل”،ولا “عسى”، فالخلايا المغيرة ملتهمة متقدمة لا يوقفها ولا الشديد القوى، لم يكن بالإمكان عمل أى شئ فى أى وقت كان، قالها صديقى منذ عام وبعض عام حين اكتشف تلك الدائرة الغريبة قابعة فى أيسر كبده، اكتشفها بالموجات الصوتية بمحض الصدفة وهو يبحث عن احتمال حصوة ناحية الكلية اليمنى!!، وحينذاك وضع المسألة برمتها فى جملة مفيدة، ظلت للأسف هى الحقيقة الأولى والأخيرة فى كل ما جرى بعد ذلك، قالها بشجاعة الفرسان، وحكمة المؤمنين :

“هذا مكان خطير وتلك علامة دالة، فإن كانت المسألة حميدة فلا داعى للتدخل، وإن كانت غير ذلك فلا فائدة من التدخل”. وأكاد أسمع الخيام يصفه دون غيره:

 فاذا ساقى المنايا أوجبا:

 شربةً غصّت ومرّت مطمعا،

فأحسُ جلدا خمرة الموت الزؤام.

ومع ذلك: ما أن عاوده الألم عقب العيد الصغير الأخير، ثم تبين ما تبين، حتى عدنا نهتاج ونقول ونعيد فى ما لا يفيد، وأنه “لو كان كذا..لكان كيت” كلام فارغ فى فارغ، وتثبت الأيام أن رؤية صديقى الأولى هى الأدق، والأشجع، وأنه بقراره البسيط الشجاع ذلك، قد سرق من الزمن عاما وبعض عام، تهيأ فيه للرحيل، كما أحسن الوداع، لكن الضعف البشرى ينفخ فى العناد أمام عدو متفوق فى العدة والسرعة ووسائل الإبادة، ولا نتعلم من العجز، ولا نتعلم من الموت إلا قليلا، وحتى هذا القليل لا نطمئن إلى مدة بقائه فى وعينا، بما يسمح بتحرير سلوكنا، بما يتضمن هذه الحقيقة الراسخة البسيطة:

“الموت “حتم القدر”.. ونسيانه فى كل لحظة هو حتم البشر.

أفيق لأجد نفسى ما زلتُ جالسا فى عيادة صديقى الخالية فى شارع قصرالعينى، لكن الممرض يدخل معلنا حضور كشف، فأبتسم منصرفا، فيبتسم صديقى فاهما، (أنه: “ولو”، لنضحك على أنفسنا قليلا).

 أنزل على السلام المظلمة مفضلا ألا أنتظر المصعد.

السلالم قذرة. العمارة حديثة شارع قصر العينى.

 أطل علىّ فجأة وأنا نازل، وسط الظلمة والقذارة والرائحة القبيحة، كلٌّ من وجه ريجان الأمريكانى العارى من كل شئ، وكل تعبير، وكل نبض، وحتى كل تمثيل، ثم ماركوس الفلبينى تدفعه زوجته الجميلة فوق كرسى هزاز ملطخ بنزْف وروث، أى والله،  أهلوس أنا  مثل مرضاى!!!

هؤلاء الناس (ريجان وماركوس وأشباههما) ألم يبلغهم نبأ ماهو الموت، مع أنهم ميتون الآن أو بعد باكر، فإن كان بلغهم، فلماذا هذا؟ وإن كان لم يبلغهم، فكيف؟

أسئلة طفلية، وبديهيات ردودها جاهزة والعظة فيها شكلها حسن لكن يبدو أنها ـ من كثرة تكرارها على منابر المساجد والكنائس وفى محفوظات المدارس والدعايات الانتخابية قد أصبحت ديكورات للحياة الدنيا، وليست الوسيلة الأولى لتغيير الحياة كلها وتطوير الوجود،

أى قانون تطورى جديد يحكمنا الآن؟ “البقاء لمن؟”: للأقوى (ذريا)، للأنفع (يهوديا)، للأسبق (استغلالا)؟ البقاء لمن؟ وهاهم: ريجان، وماركوس، وشارون، وديفاليرا يعيشون “جدا”، فى حين أن الموت يقترب من صديقى دون سائر الناس،

أضبط نفسى متلبسا بالنظر فى البديهيات القديمة، مثل طفل يتعرف على الدنيا الماثلة بعيون متجددة، نفس الآفة القديمة. يعاودنى هذا التسأول المزعج:”لماذا يعيشون؟” بالنسبة لأولاد الخنازير  هؤلاء يبدو السؤال معقولا، إلا أنى أذكر أنى عشت نفس التساؤل فى ظروف أخرى، غريبة ومرفوضة.

ذلك أنه مر على حين من الدهر، فى فترة غرور الفتوة وتصور احتمال تحقق الحلم، كنت فيها أسأل نفسى هذا السؤال عن الناس العاديين ممن لا أرى لحياتهم معنى أفهمه أنا بحساباتى الواضحة (التطورية والعياذ بالله!!) وكأنى موكل بدراسة جدوى استمرارهم لصالح أفكارى (هل تذكر راسكولينوف فى الجريمة والعقاب؟)

………….

…………..

ونكمل الأسبوع القادم

[1] –  المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *