نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 1-4-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5691
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(2) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثانى:
“هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) (4)
الفصل الأول:
عن نمو الكلام وعلاقته بالمعنى واللغة (4)
………………..
………………..
بعض آليات إحياء الألفاظ فى العلاج الجمعى:
فى العلاج النفسى الجمعى، وهو الموضوع الأساسى فى الكتاب الثالث فى هذا العمل، نتدرج فى إحياء الكلام بشكل غير مقصود مباشرة، لكن هذا هو ما يتم من خلال آليات محددة لا نقصد بها فكرة “إحياء الألفاظ” تحديدا، وإنما يكون ذلك بعض نتائجها الهامة.
ويمكن عرض بعض هذه الآليات فى خطوطها العريضة على الوجه التالى:
(1) التركيز شبه المطلق على أن يكون التفاعل فى “هنا والآن”، وهو الأمر الذى يستتبعه الابتعاد عن التعميم والتبرير، والإقلال من التفسير والتأويل، وفى هذا يمارس المعالج نهيا متصاعدا عن استعمال تعبيرات تبدا بألفاظ مثل “الواحد”….، “الناس”….، “الإنسان” ..إلخ.
(2) التنبيه إلى أن النصائح المباشرة، إلا ما يمكن تطبيقه واختباره فى “هنا والآن”، هى أيضا مهرب من احتواء اللفظ لمعناه لصعوبة اختبار تنفيذ فاعليته حالا.
(3) تحديد أسلوب التخاطب بـ “أنا – أنت”، يتبعه تلقائيا تحمل مسئولية الخطاب والتلقى، فلا تستعمل صفات أو ضمائر الجمع مثل “كلكم، كلنا”، وأيضا لا يستعمل ضمير الغائب (هو، هى، هم) ما أمكن، وقد لاحظنا كيف أن ذلك يستتبعه تضييق مساحة الفائض اللفظى بشكل يحيى نبض الألفاظ.
(4) الألعاب العلاجية تتطلب كلا من التمثيل بكل معنى الكلمة، حتى أننى اسميتها المينى دراما minidrama كما تسمح بتأليف بقية النص المحذوف (إبداعا مباشرا) مع ممارسة مبدأ “أنا – أنت” “هنا والآن” فى نفس الوقت، وبالتالى تتيح الفرصة لتكامل وسائل التعبير (الفقرة التالية بند 5)
(5) استعمال وسائل أخرى للتواصل غير اللفظى (ليس اللغة الإشارية، التى هى نوع آخر من الرموز) بما فى ذلك لغة الجسد، ولغة العيون (انظر الكتاب الثالث)[2] وتعبيرات الوجه …إلخ، سواء فى الألعاب أو غير الألعاب، وهذا لا يدل على احتمال الاستغناء عن الألفاظ ، بل قد يكتشف المريض من خلاله إلى أى مدى كان مبتعدا بألفاظه عن ذاته، أو جسده، أو بقية وجوده، وقد يتم ذلك فى نوع من التمثيليات النفسية (السيكودراما): الصامتة، أو الناطقة.
(6) استعمال الاحتمال العكسى للألفاظ والجمل، بتدريب وتمثيل أيضا، وهو وسيلة يتحدد بها كل من الأصل وعكسه، مثلا يقول المريض “أنا مش قادر أعبر”، فتطلب منه أن يقول (ويمثل) “أنا قادر أعبر” – تمثيلا – ثم بالتبادل، فنحول بذلك دون تداخل الشكل مع الأرضية (بالتعبير الجشتالتى)، فيمارس المريض والمعالج نوعا من التحديد الذى يسمح للّفظ أن يستعيد مضمونه الدال.
(7) الإقلال من استعمال ألفاظ التقريب ما أمكن ذلك (مثل “تقريبا” “نص نص” “مش قوى” “يعنى”..إلخ).
(8) الإقلال من استعمال تعبيرات التأجيل مثل: أصلى ناوى “إن شاء الله” (بالمعنى الهروبى)، “حاحاول”، ..إلخ.
(9) تجنب استعمال الحِكَمْ والأمثال ما أمكن ذلك؛ منعا للاستدراج إلى التعميم والإفراط فى التجريد، وأيضا تجنب استعمال ألفاظ التعميم أو الإحالة مثل “الناس” “الواحد” ما هو كلهم”.
(10) التعامل مع الأسئلة باعتبارها مشروع إجابات: يُطلب أحيانا من المريض أن يقلب سؤاله إلى جملة إخبارية برفع علامة الاستفهام، أو يطلب منه أن يجيب هو أولا على سؤاله إجابة محتملة، أو أن يقول مايتصور ان المسئول (معالج أو زميل مريض) سوف يجيبه به
إمراضية الإفراط في تحميل اللفظ معناه:
برغم الحرص الشديد على أن يحتوى اللفظ معناه، لعلنا نتذكر كيف أشرنا إلى أن ذلك هو عبء شديد إذا ما بولغ فيه، وقد لاحظت فى بعض حالات الفصام، خاصة فى نوع الفصام المبتدئ، وأيضا فى بعض حالات الاكتئاب أن المريض يشعر فجأة أنه ينبغى عليه أن يعيش كل لفظ ينطقه بحقه تماما، أى أن يكون اللفظ هو معناه بالضبط وكما ينبغى، فإذا تصورنا أن الجمل تتكون من وحدات متتالية مثل السلسلة المترابطة، فإن الأسهل أن تكون حلقات السلسلة مرنة وخفيفة حتى يتم الترابط والتسلسل بما يحقق تماسكها فوظيفتها الأشمل فالأشمل، فإذا تصورنا أن المبالغة المرضية فى أن تكون كل وحدة (حلقة) مليئة ثقيلة بما تحتويه من مضمون، فإن التسلسل قد ينقطع، وقد فسرت بذلك بعض ما ينتهى إليه المريض مما نسميه “فقد الترابط” Incoherence، الذى هو بهذا التفسير ليس نتيجة أن الألفاظ صارت بلا معنى، ولكنه نتيجة أن الألفاظ لفظا لفظا قد امتلأت بمضامينها مستقلة، فازداد ثقلها لدرجة عجزت معها أن تترابط مع ما قبلها وما بعدها.
الألفاظ الثورة:
حين تـُبعث الألفاظ من جديد، وتنبض بمضمونها، وتحفز إلى غايتها، تصبح ثورة فى ذاتها، ولعل هذا بعض ما كان يعنيه أدونيس وهو يميز بين “شعر الثورة” (الشعر التحريضى)، وبين الشعر الثورة، الذى هو تشكيل مغيّر يُحيى اللغة ويجددها.
والمتن التالى (نهاية المقدمة) يشير إلى توظيف اللفظ للنقد والتحريض، أكثر من تحضيره فى تشكيل جديد (الشعر شعر):
ألفاظ بتهِزّ الكُونْ،
وبتضربْ فى المَلْيَانْ،
وتغــَّير طَعْمِ الضِّحْكَةْ،
وتشع النُّورْ مِا الضَّلمَهْ،
وبتفضَحْ كِدْب السَّاكِتْ،
وبْتِفْقِسْ كل جَبَانْ.
استشهادان ختاميان:
الألفاظ التى تحتوى معناها، فيكون لها كل هذا النبض، وكل هذا الإحياء، ليست هى الألفاظ الجميلة، أو الرنانة أو الجذلة، بل هى “أى لفظ كان”، حالة كونه ينبض بمعناه سلسا منسابا.
وفيما يلى مقتطفان يثبتان ذلك بشكل أو بآخر:
الأول: من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ (1994)، وقيامى بنقدها (يحيى الرخاوى سنة 2006).
والثانى: من قصيدة باكرة لى فى ديوان “البيت الزجاجى والثعبان” (1983) استلهمتها من السعى بين الصفا والمروة، ذات عمرة. (قبل أصداء محفوظ بعشر سنوات).
المقتطف الأول:
الصدى رقم 78 من أصداء السيرة، (محفوظ سنة 1994)
78 – البلاغة
قال الأستاذ “البلاغة سحر” فآمنا على قوله ورحنا نستبق فى ضرب الأمثال. ثم سرح بى الخيال إلى ماض بعيد يهيم فى السذاجة. تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها فى ذاتها مثل: أنت،.. فيم تفكر؟… طيب،. يا لك من ماكر!… ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس،.. وثمل آخرون بسعادة لا توصف،..
النقد: [3]
على صغر هذه الفقرة، فإنها تطرحنا أمام قضية نقدية لأعمال محفوظ، أنا لست متأكدا من أنها نالت حقها من الدراسة، وهى قضية اللغة، وإن كنت قد قرأت أكثر عن علاقة يحيى حقى باللغة مبدعا، وإلى درجة أقل ناقدا، فهنا ينبهنا محفوظ إلى نوع من البلاغة تستأهل الوقوف عندها، وأنها ليست أبدا، ولا أصلا ذلك البريق الذى ينبعث من ظاهر الألفاظ أو زينة الأسلوب، وليست هى أيضا: الحـِكـَم الرصينة المختصرة التى تنطلق من مثل أو بيت شعر، بل إن الحديث بالأمثال والاستشهاد بالشعر قد يصبح ضد البلاغة بالمعنى الذى تتناوله هذه الفقرة، وربما بالمعنى الذى قال فيه صلاح عبد الصبور “يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها” “يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال”[4]، أما البلاغة التى يقدمها لنا هنا محفوظ فهى أن يحمل اللفظ – أى لفظ – معناه تماما، فيصبح سحرا قادرا أن يثمل به الناس فى سعادة لا توصف، وأن يجن آخرون. أية ألفاظ هذه التى تـسكر وتـجن؟ ألفاظ غاية فى السذاجة، هى فى ذاتها كأصوات – أبعد ما تكون عن البلاغة مثل “أنت” هكذا فقط: “أنت”، أو “فيم تفكر”؟ نعم “فيم تفكر” أو “طيب” أكرر: “طيب” ثم “يالك من ماكر”،…… أعنى “يالك من ماكر”.
هل أدعوك – عزيزى القاريء – أن تتوقف عند هذه الألفاظ فتكررها أنت للمرة الثالثة بصوت مرتفع، ثم تترك كل لفظ (أو تعبير) منها يرن فى وعيك شخصيا دون محاولة أن تكمل، ودون محاولة أن تتذكر حوله أو به أو منه شيئا، إذا فعلت ذلك “هكذا”، فسوف تعرف علاقة محفوظ باللغة، فى هذا النصّ، وربما تتصالح عليها، وربما، يصلك كيف يمكن أن تدب الحياة فى الألفاظ فى العلاج الجمعى ونحن نركز على أنا أنت: “هنا والآن” تصورت أننا نكرر ألفاظ محفوظ هذه فى جلسة من العلاج الجمعى وجدتها تجذبنى إلى هنا والآن” بكل ما تعنيه ونمارسه فى هذا العلاج.
المقتطف الثانى:
من قصيدة “أنهار المسعى السبعة”
ديوانى: “البيت الزجاجى والثعبان” (سنة 1983) [5]
………………….
وتقول الناس الأنهار
للناس التيار:
…………….
…………….
قال النهر السادس:
لو أن السعى تناغـَمَ بعد السـَّعـْىِ إلى السـَّعـْىِ
لرجعـْنـَا أطهرَ من طفلٍ لم يولدْ بعدْ
لا نتكاثر بالعُـدّةِ والعدّ
ولعادَ المـعــْـنى
يملأ وجه الكلمهْ
يهتز الكون:
لو يعنى القائل “أهلاً”
أنْ: “أهلاَ“
ولأنى كاتب هذا النص، فاسمحوا لى ألا أعلـّق.
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم
بتقديم الفصل الثانى: (اللوحات: من 1 – 7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (2) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات)”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – يحيى الرخاوى: سلسلة فقه العلاقات البشرية: الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس (خمس عشرة لوحة)” (2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى. القاهرة.
[3] – يحيى الرخاوى “اصداء الأصداء” المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى (2006) والطبعة الثانية (2017): منشورات جمعية الطب النفسى التطورى. القاهرة.
[4] – صلاح عبد الصبور “ليلى والمجنون” مكتبة الأسرة 1999
[5] – تم إصدار الطبعة الثانية للديوان بعنوان: “من باريس إلى الطائف (وبالعكس)” سنة 2017 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى. القاهرة.
استعمال وسائل أخرى للتواصل غير اللفظى (ليس اللغة الإشارية، التى هى نوع آخر من الرموز) بما فى ذلك لغة الجسد، ولغة العيون . وتعبيرات الوجه.
قد يستمر التواصل الغير لفظى دقائق معدوده ولكن لها عظيم الاثر فى الاشخاص داخل وخارج المجموعه. وتحدث تغيرات قد تستمر حتى بعد الانتهاء من الجلسه. الكلام من غير كلام ابلغ الكلام.
دائما الإنسان الصادق لا يلون الكلمات بغير لونها حتى وإن كان لديه قدر كبير من الدبلوماسية وقد كان ديحيى عليه رحمة الله صادق ويعطى كل كلمة حقها في مكانها الصحيح لذلك كانت حواراته وردوده تدخل العقل والقلب حتى ولو كلمات بسيطة مثل عندك حق تعطى احساس بالقبول والاطمئنان وتفتح الباب للتفاهم والمشاركة بارك الله فيكم هذه أول مرة أعلق بعد غياب الونس الجميل ديحيى عليه رحمة الله وشكرا لكم