الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الثالث: “الخوف من النقد المُعـِـيق، واختراقه”

من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الثالث: “الخوف من النقد المُعـِـيق، واختراقه”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 14-1-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5614

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية” (1)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

العلاج النفسى (مقدمة)

بين الشائع والإعلام والعلم والناس (4)

الفصل الثالث

الخوف من النقد المُعـِـيق، واختراقه

 

تنبيه:

أنبه مرة أخرى أن هذه المقدمة هى مقدمة لسلسلة الكتب جميعها!! وليست لهذا الكتاب الأول وحده!

-2-

بصرَاحَـةْ‏ ‏انا‏ ‏خفْتْ.‏

‏ ‏خـُفتْ‏ ‏منهمْ‏، ‏خفتْ ‏”‏منى‏”، ….‏ خفت‏ ‏منّــا‏.‏

خفتِ ‏مالطوبِ‏، ‏والطماطم‏، ‏والملاَمْ ‏والتريقهْ‏،‏

خفت‏ ‏مالبيض‏ ‏الممشِّــشْ، ‏والنكتْ‏، ‏والبحلقهْ‏.

انطلاقا من المتن:

‏عرّى لى هذا النص أن الخوف من البوْح (كما يقول الصوفية) هو خوف أساسىّ يكمن فى داخلنا، وليس فقط خوفا من الاختلاف مع من هم (أو ما هو) فى خارجنا، البوح هنا ليس بوحا فقط بما يصلنى من داخلى بحسب حدة ومرحلة البصيرة “خفت منى”، بل هو بوح أيضا بما يصلنى من مرضاى، فيحرك ما تيسَّر فىّ وفيهم، يـُظهر المتن هنا أن للخوف مصادر متنوعة، متضفّرة معا:

“خفت منهم”

هذا هو أخف أنواع الخوف، وهو خوف مشروع، ومفيد أيضا، هو نوع من عمل حساب للنقد حتى لو كان نقدا قاسيا حتى احتمال الإعاقة، لو أننا تركنا الحبل على الغارب، ولم نعمل حساب رأى الآخرين، إذن لبلغ الشطح مبلغا لا يمكن التنبؤ بمداه، لأن الإلغاء الكلى لاحتمال الحوار الناقد مع آخر، أيا كان هذا الآخر، قد يسمح لأىّ من كان أن يطلق لفروضه أو نظرياته العنان بشكل يعرضها للتناثر والتجاوز بلا حدود، صحيح أن المبالغة فى عمل حساب الآخرين قد تجهض إبداعا أصيلا نادرا، لكن تظل الحسبة محفوفة بالمخاطر، والمسألة فى نهاية النهاية متروكة لحسابات صاحب الفكرة وعليه أن يعمل حساب الدور الإيجابى لهذا الخوف من النقد من الآخرين، وذلك مهما بلغت أصالة الفكرة، أو عمق الرؤية.

“خفت منى”

لا يقتصر الخوف على عمل حساب الآخر الناقد الخارجى أخطأ أم أصاب، ولكن ثَمَّ خوف أهم من الناقد الداخلى النشط، هذا الناقد الداخلى ليس ببساطة: مرادفا للضمير، لكنه ناقد حقيقى يقوم بدور جيد مثله مثل الناقد الخارجى، وأكثر، هذا الخوف الثانى هو “منى” أساسا، ثم يجتمع هذا الخوف منى، مع الخوف منهم حالة كونهم بداخلى وخارجى معا، فيصبح “الخوف منا”:

“خفت منا”

الآخرون هم أيضا بداخلنا، أو لعلهم أساسا بداخلنا، وهم أحيانا يكونون بداخلنا أكثر مما هم بخارجنا، وهذا أيضا مكسب مهم، وفى نفس الوقت هو إعاقة محتملة، وعلى من يغامر أن يغامر دون أن ينسى.

يـُـعتبر المتن “هكذا” بمثابة لوحة متحركة تُظهر مدى الشجب، والرفض، والسخرية المحتملة، وهو ما يتجاوز ما أسميته نقدا حالا. إن النقد مهما أخطأ هو نشاط بنـَّاء فى نهاية النهاية، أما السخرية والوشم والنفى والترصد، فكل هذا ليس إلا إعاقة خالصة.

خفتِ ‏مالطوبِ‏، ‏والطماطم‏، ‏والملاَمْ ‏والتريقهْ‏،‏

خفت‏ ‏مالبيض‏ ‏الممشِّــشْ، ‏والنكتْ‏، ‏والبحلقهْ‏.

موضوع الإعاقة من خلال تأثير نظرات التركيز (البحلقة) بالعامية = التحديق (بالفصحى) هو موضوع أكثر حساسية من مجرد النقد أو السخرية المعلنه، هذه الظاهرة – تركيز نظرات الآخرين حتى الإعاقة – رُصدت بعناية شديدة باعتبارها متعلقة ببعض فروض وحقائق علم الباراسيكولوجى([2])، وأيضا لها علاقة بالعين الشريرة (الحسد)، وربما هى هى التى حين تتجسد مرضيا تصل إلى ما يسمى “ضلالات الإشارة” Delusion of Reference حتى “ضلالات الاضطهاد” Delusion of persecution.

وكأنى هنا ‏أتقمص‏ ‏المجتمع‏ المسمى بالمجتمع ‏العلمى السلطوى ‏خاصة‏، ‏وهو‏ ‏مجتمع‏ ‏ناقد‏ ‏محافظ‏ ‏بالضرورة‏، ‏وعنده‏ ‏بعض‏ ‏الحق‏، بل كثير من الحق، خاصة حين كان مجتمعا علميا نقيا، بعيدا عن ألعاب سوق الدواء، هذه التعرية كان لها تفاصيل فى وعيى، فرصدت هذا الحوار الداخلى ساخرا حتى الرفض، لكننى فضلت أن أثبته!!

قلت‏ ‏انـَا‏ ‏مِشْ‏ ‏قدّ‏ ‏قـَلـَـمِى‏.‏

قلت‏ ‏انا‏ ‏يكفينىِ ‏أَلـَمـِى‏.‏

قلت‏ ‏أنا‏ ‏ما‏ ‏لى، ‏أنا‏ ‏اسـْترزَقْ‏ ‏واعيشْ‏،‏

والهربْ ‏فى ‏الأسْـَتـذَةْ‏ ‏زيّـُــهْ‏ ‏مافــيشْ،‏

والمراكزْ‏، ‏والجوايزْ‏، ‏والـَّذى ‏ما‏ ‏بـْيـنِـْتـهيشْ

قلت‏ ‏اخبِّى ‏نفسى ‏جُـوَّا‏ ‏كامْ‏ ‏كتابْ‏.‏

قلت‏ ‏أشـْغـِـلْ‏ ‏روحى ‏بالقولْ‏ ‏والحسابْ.‏

والمقابلاتْ‏، ‏والمجالسْ

والجماعةْ‏ ‏مخلَّصـِينـْلـَكْ‏ ‏كل‏ ‏حاجـَةْ،  ‏أَيْـوَهْ‏ ‏خـَالـِصْ. ‏

‏بس‏ ‏بـَرْضـَك‏ ‏وانت‏ “‏جالسْ‏”.‏

شعرت فجأة، وأنا أتعسف لأكتب شرح هذه الفقرة، أن ثمة فقرات، خصوصا فى المقدمة، ينبغى أن تـُتـْرَك متنا دون أن نقترب منها شرحا أصلا، تترك بما هى، كما هى، فهى أكثر وضوحا، ومباشرة من أن تشرح، أكتفى هنا بالإشارة إلى ما يسمى “علم نفس المقعد الوثير” Arm Chair Psychology، ويـُقصد به عادة: التنظير من الوضع متأملا، بأقل قدر من الخبرة المعيشة، ومن التجربة القابلة للاختبار، هذا التعبير، الذى أضفت إليه من عندى وصف “الوثير”، هو ما انتهت به هذه الفقرة “بس برضك وانت جالس“.

أما موقفى من الجوائز، مع كل احترامى لها دون سعى مباشر، فهو معروف ومنشور فى أماكن أخرى (“جوائز وجوائز” مثلا)‏.([3])

تقديس الكلمة المطبوعة

بقيت كلمة هامة، ليست شرحا بالضرورة، لكنها بمثابة هامش دال، فقد نبهت مرارا إلى خطورة تقديسنا للكلمة المطبوعة، حيث ما زال العامة، وكثير من الخاصة، يعتبرون الكلمة المطبوعة مصدرا مـُسـَلـَّما به، لكثير من المعلومات التى قد تضيف إلى المعرفة بقدر ما يحتمل أن تشوهها أو تختزلها.

 بالنسبة للعلماء – وهم فئة من الخاصة – المسألة أصبحت أكثر إشكالية، أما بالنسبة للممارسين لمهن عملية تستعمل العلم والمعلومات فالأمور تصبح أخطر وأعقد، نحن‏ ‏نعيش‏ ‏وسط‏ ‏فيضان‏ ‏من‏ ‏الكتب‏ ‏والمجلات العلمية وشبه العلمية وغير العلمية، يكاد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الطوفان‏، ‏وبقدر‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يثرينا‏ ‏هذا‏ ‏الطوفان‏ ‏إذ‏ ‏يروى ‏ظمأنا‏ ‏للمعرفة‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يغرقنا‏ ‏حين‏ ‏يلهينا‏ ‏عن الخبرة المعيشة، والطبيعة المخترِقة.

الحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الثقافة‏ ‏بالمعنى ‏الحضارى التطورى ‏المغامر‏ ‏المجدد‏، ‏وبين‏ ‏الثقافة‏ ‏بالمعنى ‏الاغترابى ‏المضلل‏ ‏الهارب‏، ‏هو‏ ‏حد‏ ‏دقيق‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يـُرى ‏بأعلى ‏درجة‏ ‏من‏ ‏البصيرة‏ والنقد‏. فى تقديرى أن كثيرا من العلم المنشور (أو ما يسمى كذلك)، وبالذات: الذى له علاقة بحركية القوى المالية التحتية، تمويلا أم نشرا أم تسويقا، أصبح بعضه، إن لم يكن أكثره، خطرا على المعرفة، خصوصا إذا استعملـَـتـْـه السلطات المعلنة أو الخفية لتسويق وتبرير حياة مغتربة تخدم الأغراض التحتية (المالية السلطوية عادة) أكثر مما تخدم المعرفة البقائية التى تصب فى صالح تطور البشر. يمتد خطر تقديس – أو على أحسن الفروض وصاية – الكلمة المطبوعة (علمية وغير علمية للخاصة والعامة) إلى مجالات كثيرة كثيرة، علينا أن نحذر أن نستسلم لها دون وعى مسئول، يمتد تقديس الكلمة المكتوبة إلى قصر ما يسمى مواثيق حقوق الإنسان، ومواثيق حقوق الطفل أيضا، وكل الحقوق الحقيقية والصورية والمزعومة، قصْر هذه القيم جميعا على ما هو مكتوب فى تلك المواثيق، بل إن ألفاظ القانون نفسه فى بعض الأحيان تكون عائقا ضد تطبيق العدالة الأعمق. هذا مأزق لا مخرج منه فى الحياة المعاصرة إلا بتطور جذرى حقيقى قد يصل إلى درجة “الطفرة” وإلى أن يتحقق ذلك فلا مفر من الالتجاء إلى حلول مرحلية أو فردية محفوفة بالمخاطر.

نتيجة لذلك كاد الكثير من الممارسة الطبية النفسية بالذات يصبح ممارسة مكتبية تطبيقية أكثر منها ممارسة فنية عملية (إمبريقية).

المعلومات الحاسمة التى تخرج بواسطة شركات الدواء شرحا لأسباب هذا المرض أو ذاك، بهذا التغير الكيميائى المحدد أو ذاك، كسبب مباشر وحاسم، هى المقصودة غالبا بتعبير([4])

والجماعةْ‏ ‏مخلَّصـِينـْلـَكْ‏ ‏كل‏ ‏حاجـَةْ،  ‏أَيْـوَهْ‏ ‏خـَالـِصْ. ‏

‏بس‏ ‏بـَرْضـَك‏ ‏وانت‏ “‏جالسْ‏”.‏

……

قلت‏ ‏أرسمْ‏ ‏نفسـِى ‏واتْـدَكْـتَـرْ‏ ‏وارُصّ‏.‏

قلت‏ ‏أتـفـرَّجْ‏ ‏وِ‏ ‏أَتـْفلسـِـفْ‏ ‏وابــُـصّ.‏

بس‏ ‏يا‏ ‏عالمْ ‏دا‏ ‏دمْ‏ ‏ولحم‏ ‏حىْ‏.

‏أستخبَّى ‏مــنــُّـه‏ ‏فينْ‏؟ ‏

‏‏هذه مرحلة نظرية لم أستطع أن أركن إليها أبدا، وإن كنت لا أعفى نفسى من أنها لاحت وتلوح لى بين الحين والحين: التمادى فى التخصص، والتباهى بالوظيفة العليا، والتوقف عند أعلى الشهادات مما ‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مهربا‏‏ ‏من‏ ‏نوع آخر، لكنه أبدأ لم يقنعنى.

هذا عن الفـُرْجة مهربا، أما عن التفلسف فقد ساهم الإعلام وجاهزية الزملاء (وأنا منهم أحيانا!!) إلى تصوير الطبيب النفسى المسئول، عارفا فاهما لآليات الحياة وخباياها، وبالتالى قادرا على إصدار الحكم والأحكام، والتفسيرات والتأويلات، بما يختلط عند العامة بما يسمى “فلسفة” بشكل أو بآخر، هذا ما أعنيه بالتفلسف وهو غير “فعل الفلسفة”، وهو الأقرب إلى ممارسة الطب النفسى.

 فعل الفلسفة هو معايشة الأسئلة التى توصف بأنها هى هى التى تدور حول الحياة والموت، والوعى، والكون، والعدم، والوجود، مثلا:  يحضر المريض لنا فنتقمصه لنجد أنفسنا ننتقل:

 بين المهدى المنتظر … وساندريلا.

 بين النورْس المحلـِّق … والطير الملقى فى الطين بلا أجنحة.

 بين الطفل المسخ …. والنبى.

وكل ذلك تعرية صارخة فريدة متنوعة طول الوقت، وهو ما اسميته فعل الفلسفة نفيا لما هو تفلسف.

من هنا تتاح الفرصة لتعلّم من نوع آخر من خلال حدة البصيرة وتحمل المسئولية معا، هذا بعض ما أعنيه دائما حين أصرح المرة تلو الأخرى أن المرضى هم أساتذتى الأوائل بعد أن عرفت كيف أسمح لنفسى بمحاولة فك شفرة مرضهم، ليصححونى، ونكمل معا (ما أمكن ذلك). وهذا هو ما جاء فى الفصل التالى.

………………….

………………….

ونواصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.

[2] – روبرت شلدراك: “سبع تجارب قد تحول العالم”، مؤسسة الانتشار العربى بيروت (2001)، وقد تناول فى أحد فصولى الكتاب دراسة أثر الوعى بمثل هذه النظرات المباشرة.

[3] – يحيى الرخاوى:   مقال “جوائز .. جوائز”  بتاريخ 11/12/1999 – (قضايا وآراء) جريدة الأهرام .

[4] – ظهر مؤخرا ما يسمى الطب النفسى التـَّرْجمى  Translational Psychiatry  وشعاره “من طاولة المعمل إلى سرير المريض” = From Desk to Bed وهو اختزال خطير يؤكد مشروعية ما جاء هنا، ثم بلغنى (يناير 2018) ما اعتبرته مزيد من الاغتراب ، وهو ما سمى Manualzed Psychotherapy وقد فزعت من الاسم، وحين بحثت عن ترجمة حرفية وصلتنى أنه “العلاج النفسى اليدوى“!! (أى والله) ورفضتها طبعا لكننى اكتشفت أن كلمة Manual التى اشتقت منها كلمة Manualzed بمعنى استعمال “دليل” لتقنين العلاجات وكذلك: التدريب والإشراف على الزملاء النفسيين الأصغر” ورفضت كل ذلك فى محاضرة لى فى مؤتمر قصر العينى فبراير 2018 “الطب النفسى: فن “نقد النص البشرى” إبداعا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *