جريدة التحرير
11-8-2012
تعتعة التحرير
من خطر الانفلات والنفخ إلى خطر الجهل والسذاجة
كل ما حدث من نكسات ومضاعفات حتى الآن على مسار إكمال مشروع الثورة ربما كان متوقعا مثل كل الثورات، حيث لا توجد ثورة بلا ثمن، أو ضحايا، لكن ثمة خطرا من نوع آخر يتسحب! أنا أحترم أغلب هؤلاء الفرحين باكتشاف هذا الجيل المجهول من الشباب الذى فاجأنا بشجاعته ونقائه معا، أرجح حسن النية فى معظم هؤلاء الفخورين المادحين، لكن ظل السؤال يلح على: يا ترى لماذا هذا التمادى والإصرار على المضى فى نفس الاتجاه بنفس النغمه؟ هل هؤلاء الشباب، مع عامة الشعب الطيب الصبور، مازالوا يحتاجون لكل هذا المديح المخلوط بالتحريض المعلن أو الخفى طول الوقت هكذا؟ أم أن كثيرا من المادحين قد افتقدوا معايير ومحكات رد فعل الإفراط فى النفخ فى صاحب الفضل دون أن يخشوا التشوية أو الانفجار؟ إن ما حمى الشباب نسبيا من ذلك الإضرار هم الشباب أنفسهم، وبرغم ذلك، قلت “لعله خيرا”، لأنه من غير المقبول وسط كل هذه التضحيات أن نسمح بالإسهام فى اللمز والغمز وأحيانا التهوين والإنكار، لما قام به هؤلاء الشباب والناس.. ونحن نركز على بعض المضاعفات الناتجة عن تحطيم المعبد الزائف الذى تطايرت صخوره هنا وهناك، حتى لو أظلمت الدنيا بعض الوقت!
وبالرغم من تذبذب البندول تواصل السعى نحو محاولات إرساء معالم المؤسسات للدولة الجديدة فلاح لى أن بداية طيبة تظهر فى الأفق، إلا أنه يبدو أن الذى أتى بعد ذلك مما نحن فيه الآن هو خطر من نوع آخر، خطر الجهل، بعد خطر الانفعالات العشوائية، حتى تجسد لى التشكيل الوزارى الجديد، كأننا نعين ناظر مدرسة ابتدائية، مدربا للفريق القومى لكرة اليد.
زاد من همى وتخوفى أن التصريحات الفردية التى صدرت عن معظم الوزاء الجدد تركزت على موقع الاختصاص أكثر مما تركزت على مشروع قومى أو إبداع سياسى أو ثورة انتاجية أو يقظة متسعة تنتبه لما جرى ويجرى فى المخطط العالمى الظاهر والخفى، كل تصريحات المسئولين الجدد جاءت أغلبها محلية تعرض حلولا تسكينية أو تسوياتية أكثر مما تحمل تخطيطا ممنهجا ممتدا إلى طول الوطن وعرضه ثم عبر الحدود.
الذى وصلنى من مجموع هذه الجماعة الجديدة، دون أى تهوين فى قدرات أفرادها كل فى مجاله، هو أن ما يجمعهم هو الجهل بأصول الحكم وماهية الدولة وآليات السياسة نفس هذا الجهل هو الذى حكمنا ثلاثين عاما، وبنفس النص “السكربيت”، تميز حكم مبارك بالبرود الجاهل الجاثم القاهر الذى لم يفلت منه إلا أصحاب المال الذين ساهموا ربما بغير قصد فى دعم الرأسمالية الوطنيه لكن لصالحهم دون سائر الشعب، عاد إلىّ هذا النص مكررا من الرئيس الجديد أنه كالتالى: “دعونى أفكر – إن شاء الله خير– الأهم هم الكادحون المطحونون- الصبر مفتاح الفرج- كله تمام خلال أيام، الصلح خير، كله على كله….الخ”، قلت لعلها طيبة فلاح مصرى لم يضع فى حسابه حجم هذه المسئولية، لكن قفز إلى ذاكرتى موقف مشابه مازال عالقا بذهنى يوم تولى الرئيس السابق مسئوليته فى اكتوبر 1981 وهو يقول للمحيطين به بطيبة مصرية أيضا أن هذا المنصب لم يكن فى حسابى فأعينونى”، صدقته ساعتها والله، وحين جاء وقت اختبار الاستعانة استغنى عن رأى القريب والبعيد، “وتركنا نتسلى!!” ودعوت الله الا يتكرر هذا “السكريبت” أيضا مع الرئيس الجديد.
برغم كل ذلك أملت خيرا فى اختيارات محتمله مختلفة وإذا بى أفاجأ بهذه الوزارة التى بدت لى بلا لون ولا طعم ولا رائحة، هل خلت البلد ممن يعرف أصول لعبة السياسة الصعبة محليا فدوليا. لا ينبغى أن نلقى اللوم على المشاركين فى هذا السيناريو أفرادا حيث يستحيل أن ننتظر من أى منهم شيئا آخر، فقد عاشوا فى بلد حرم من ممارسة السياسة الحقيقية، وما كان يمكن أن يتمخض ذاك النظام فجأة فيلد لنا دهاة سياسيين قادرين على قيادة سفينة على وشك الغرق
أعترف فى النهاية أن الأمور لم تتضح لى تماما، ومازلت آمل مع مرور الوقت، ومزيد من الأخطاء والتراجع والاعتذار وربما التصحيح، أن تقل المضاعفات، لكن عاد يغلبنى سوء الظن: غاية ما استطعته اجتهادا بصفة مبدئية هو أن أتبين بعض الصفات المتنوعة لبعض الأفراد أو الفرق التى كلفت برعاية أمورنا أخيرا والاسهام فى تشكيل دولة لها دور ومعالم واستقلال، لكن ظلت الصفة العامة الغالبة هى “الجهل” ولا مؤاخذه، الجهل بما وصلنا إليه، الجهل بضرورة ترتيب الأولويات: هل تنظيف شوارع القاهرة أهم من إزالة التعديات وفورا، وتماما، على الأراضى الزراعية وإزالة مخالفات تعلية المبانى بدون أساس أو ترخيص، والحكم الفورى بالسجن المشدد لكل مخالف وفورا وحالا وجدا…؟ هل يعلم الرئيس أو رئيس الوزراء الرقم الحقيقى لما جرى ويجرى فى هذا المجال كمثال؟ ومعنى ذلك؟
سيدى الرئيس: واضح أنك يمكن أن تكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونصيحتى لك مادام لا يمكن تدارك ما حدث أن تضع فى الاعتبار فى التشكيل القادم (بعد شهور بإذن الله) تجنب الفئات التالية:
(1) الغاوى: من ركن الهواه الذى “ليس عنده مانع” أن يجرب لعبة السياسة، من باب الاستطلاع وتجربة ضربة الحظ.
(2) المتخصص الأكاديمى: الذى يتصور أن ما ميزه فى تخصصه سوف يميزة فى السياسة، فيقبل المنصب من باب الحماس والوطنية العامة.
(3) فاعل الخير: الذى يقبل أن يلى المنصب برغم علمه بقصوره الشخصى خشية أن يتركة فيملؤه من هو أسوأ منه فيضر البلد باعتذاره هو عن المنصب!!
(4) صديق المسئول: – على مستوى اجتماعى أو عائلى أو عاطفى – الذى ليس عنده مانع أن يشد أزر صديقه رئيس الوزراء فى ورطته الجديدة ناسيا أنها ليست احتفالية اجتماعية، أو إفطارا رمضانيا، بل مسئولية سياسية.
عدلت عن تعداد بقية الصفات التى احذر من اختيارها فى التشكيل القادم ، وأعترف أننى حين لم أجد بديلا واضحا رعبت من فكرة قد تخطر على رئيس الوزارة التالى (أو الحالى) وهى احتمال الاستعانه بالمراكز الأهلية أسوة بالدروس الخصوصية بإنشاء المؤسسات المساعدة والبديلة عن الحكم الرسمى المؤسساتى، مثل اللجان الشعبية وديوان المظالم وما شابه، كما رعبت أكثر، مع فرحة خفية، باحتمال استيراد ساسة سابقى التجهيز من الصين أو ماليزيا، أو حتى قطر، (بلاش أمريكا) لتدريب المبتدئين على العمل السياسى!!!