نشرت فى الوفد
10-2-2010
من أين نبدأ؟ وإلى أين نمضى؟
فى سنة 1950 كتب خالد محمد خالد كتابة الأشهر “من هنا نبدأ”، ورحّب به من تصوروا أنهم فهموه، كما ثار التقليديون بما تيسر لديهم من خوف، ورفض وحرصٍ، وعلمٍ، وفقه، كنت طالبا فى إعدادى طب، وتابعت أيامها ثورته ومؤيديها، والثورة المضادة وحراسها، كنت مازلت خارجا لتوى من “مرحلة” الإخوان المسلمين بفضل أستاذى محمود محمد شاكر، كانت “مرحلة الإخوان” جزءاً لا يتجزأ من نمو أغلب الشباب تلك الأيام، كان طريق الدخول والخروج مفتوحا، حين كانت الحركة بين التحركات متاحة بالسلامة، كان عمرى 17 عاما، فرحنا بالكتاب، ثم نسيناه حين أنسينا كل شئ إلا المسموح به، لكننى لم أنس صاحبه الذى لم أعرفه آنذاك عن قرب أصلا.
بالصدفة البحتة التقيته منذ حوالى عشر سنوات، فى البنك الأهلى، فرع المقطم، وعرفنى به من بعيد موظف البنك، وفرحت وكأننا مازلنا فى الخمسينيات، وحضر كتابه فى وجدانى بمجرد ذكر اسمه، ياه! نفس الأثر الذى وصلنى فى تلك السن الباكرة، ذهبت أسلم عليه، وعرفته بنفسى هامسا، وانتهت تلك اللحظات بسرعة وأنا عاجز عن عبور تلك السنوات ما بين الكتاب والرجل، كدت أقول لنفسى “ليس هو”، لم يكن هو نفس الشخص الذى ارتسم فى مخيلتى قبل أربعين عاما، تمنيت لو كان هو حتى أقبل يده، كان ينقصه شئ ما، طردت أفكارى، واستعذت بالله، ودعوت له، وتمنيت أن يدعو لى، وانصرفت.
حين هممت أن اكتب هذا المقال الأسبوعى كان فى موضوع آخر هو: “ثم ماذا بعد الفوز” (الكروى)، وخطرت لى عناصر عديدة، ومخاوف أكثر، خفت من التوقف عند هذا الفوز وكأننا فتحنا عكا، وخفت من مزيد من الاندفاع نحو تقديس الأفراد من أول حسن شحاته (شكر الله له) حتى السيد الرئيس (حفظه الله) مرورا بجّدو وزيدان، ولا مانع من أحمد نظيف، ومرشد الاخوان بالمرة، لا يضّر! خفت من سوء استغلال هذا الفوز سياسيا، ومن “الهبوط الاضطرارى” الذى قد يصاب به الفريق أو عامة الناس، ذلك الهبوط الذى تعودناه من كثره ما كررنا نص “النصر – الترييحة”.
نعم خفت من استغلال الفوز سياسيا، وانتخابيا، بل ودينيا (فريق الساجدين) أو تعصبا شوفينيا (فريق الفراعنة) لكننى فى نفس الوقت لم أستطع أن أمنع أن تخطر على بالى آمال مشرقة كاحتمالات واردة، ولم لا؟ لم لا يكون هذا الفوز “بداية” إعادة ثقة بالفرد المصرى مدربا، فلاعبا، ثم بالجماعة المصرية فريقاً وجمهوراً؟ لم لا تكون هذه النبضة “بداية” الانتصار على الخوف، لم لا تكون “بداية” الثقة بالمستقبل؟ لم لا تكون “بداية” التعلم من أن بعد كل هزيمة نصر محتمل.. الخ الخ وجدت نفسى وأنا أتحدث عن الآمال وجدتنى أتحدث عن “بداية”… “بداية”… بداية، لتكن البداية، فنحن لم نعد نعرف بعد “من أين نبدأ” من الكرة؟ أم من السياسة؟ أم من الحرب؟ أم من التعليم؟ أم من الفن؟ أم من الدين؟ أم من الايمان؟ أم من الديمقراطية؟ أم من الإبداع؟ وهنا تذكرت كتاب المرحوم خالد محمد خالد، وقصتى معه شابا ذا سبعة عشر عاما، ومع كاتبه فى ساحة البنك الأهلى فرع المقطم!! وقررت أن أحوّل المقال بعيدا عن ما بدأت به إلى الرد على هذا السؤال: من أين نبدأ؟ بدءًا بمراجعة الكتاب الأصل “من هنا نبدأ”!
شددت الرحال إلى مقام سيدنا “جوجل” اطلب بعض التفاصيل عن الكتاب وصاحبه، تنشيطاً لذاكرتى، وتحديثاً لمعلوماتى، كتبت فى خانة البحث “من هنا نبدأ”، وإذا بى أفاجأ بما هو (حوالى) 684.000 ستمائة وأربع ثمانين ألف وثيقة، أى ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون وثيقة، يا صلاة النبى!! كل هؤلاء يعلموننا “من أين نبدأ”؟!! رحت أتجول بين أسماء الوثائق، فإذا بها تتنوع بين مقال وكتاب وموقع، توقفت كثيرا عند المواقع أكثر، فوجدت أن أغلبها مواقع دينيه تؤكد أن علينا، نحن المسلمين، ونادرا نحن البشر، أن نبدأ من حيث أشار صاحب الموقع أو المقال أو الحديث تحديدا، وليس من أى مكان آخر، وكان يصلنى من أى من هذه المواقع والنداءات أن كل واحد فيها يطرح “الحل” جاهزا بدءًا من بدايته: من أول “الاسلام هو الحل” إلى “الديمقراطية هى الحل” مرورا “بالجان هو الحل” (عنوان مقال كتبته هنا فى الوفد 7 يونيو 2001)
طيب، إذا كانت البداية قد تجلّت لكل هؤلاء الناس (ومثلهم أكثر فأكثر) بكل هذا الوضوح واليقين فهل يا ترى شغلهم “أين ننتهى”.
وجدت أن أغلب المواقع الدينية تطمئننا أننا إذا ما بدأنا البداية التى يوصون لنا بها فإننا سوف “نلتقى” أو “ننتهى” فى الجنة بإذن الله، وتكرر ذلك بشكل متواتر، إذن فكل من هؤلاء يعرف يقينا من أين نبدأ، وهو يكاد يكون واثقا ولو بدرجة أقل “إلى أين ننتهى”، وهى الجنة كما يراها!
لفت نظرى بوجه خاص أن هناك من الوثائق ما حدد مكانا أقرب من الجنة (هو أيضا موصل للجنه) مثل موقع “الطائفة المنصورة” الذى حدد: “من هنا نبدأ” و”فى الأقصى نلتقى”، تصورت أننا بذلك نحدد الواقع أقرب فالأقصى هو مكان محدد المعالم، وتحريره غاية كل مسلم، وحُرّ، فلو أن مائة ألف من هؤلاء البادئين بكل هذا اليقين وليس سبعمائة، بدأوا فعلا من حيث أوصونا أن نبدأ، ولم يتوقفوا أبدا إذن لتحرر الأقصى منذ عشرات السنين.
وقس على ذلك.
ترحمت على شيخنا خالد محمد خالد الذى أقر بنفسه أن كتابه هذا كان عنوانه فى البداية هو “بلاد من؟”، وهو العنوان الذى يليق بحالنا الآن أكثر، ثم إنه ذكر أن الذى اقترح العنوان الذى صدر به الكتاب أى “من هنا نبدأ” كان صديقه عبد الله القصيمى، وقد عرفت المرحوم القصيمى مصادفة معرفة وثيقة، فهو صاحب كتاب “العرب ظاهرة صوتية”، وكان لى فرصة لقائه عدة مرات فى بيته فى الروضة حين كان شابا ثائرا فى الثمانين، فخورا بأن مصر سمحت له أن يلجأ إليها بقرار من برلمان الوفد فى الأربعينيات بعد أن حكم عليه بالإعدام فى السعودية، المهم، عرفت من تحديث معلوماتى عن كتاب “من هنا نبدأ” كيف رد عليه الشيخ محمد الغزالى بكتابه “من هنا نعلم”، ثم عرفت تراجع خالد محمد خالد عن رأيه الأول عام 1981 فى كتابه “الدولة فى الإسلام”.
ما يهمنى من كل هذه المراجعة هو أن أؤكد على معنى حركية الفكر، وضرورة المراجعة، وأنه مهما كانت البداية تبدو لصاحبها واضحة جلية، فهى ليست بالضرورة تضمن إلى أين ننتهى: أو أنها فى ذاتها هى: الحل!!
وبعد
* هل نستطيع أن ننظر لكل الشعارات المطروحة باعتبارها “أنها الحل” على أنها “بدايات تحت الاختبار” لا أكثر.
* وهل يجدر بنا أن نخطط “أين وكيف نلتقى”، وليس “أين حتما سننتهى”.؟
* ثم هل تعدد واختلاف البدايات هكذا يعنى احتمال التقاء البشر ولو بعد آلاف السنين أم أنه ينبهنا إلى استحالة ذلك؟.
* ولماذا يصر أصحاب البدايات وهى بهذا التنوع وهذا التعدد أن تكون النهاية هى جنتهم الخاصة جدا؟ دون غيرها؟
* وهل معنى ذلك أن نيأس، أم أنه يمكن أن يكون فى الإجابة على هذه التساؤلات دعوة لأن نفيق ونحن نقبل كل البدايات، ولكننا نتحرك تحت رحمة ربنا التى هى العامل المشترك الأعظم، الذى يمكن أن يضمنا تحت عباءته، ونحن نكَدح إليه معاً، إلى توجه ضامٍّ يجمعنا إليه بقدرته وعدله؟