الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (63) المزيد عن التميز البشرى بالتناقض الوجدانى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (63) المزيد عن التميز البشرى بالتناقض الوجدانى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 1-2-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2711

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (63)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (26) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (23)

المزيد عن التميز البشرى بالتناقض الوجدانى

 برغم أننى لا أتحمس كثيرا لإثبات تفوق الإنسان على ما قبله من أحياء، وبرغم أننى أبدأ فى النظر فى كل ظاهرية بشرية من بدايتها قبل المرحلة البشرية إلا أننى أميل – مرة أخرى– لترجيح ما ورد فى النشرة السابقة من أن تناقض الوجدان كظاهرة سوية (مرحلية نابضة مكررة) (1) بالمواصفات التى ذكرناها فى النشرة السابقة هو ظاهرة خاصة بالإنسان بشكل أو بآخر.

كما ذكرت سابقا فإن تشارلز داروين – على حد علمى – لم يرصد تناقض الوجدان عند الحيوان فى كتابه التعبير عن الانفعال، بل إنه أشار إلى أن الانفعالات المتضادة تظهر عكس بعضها وتؤدى كل واحدة منها عكس ما تؤديه الأخرى، وحين أتيحت لنا الفرصة للنظر فى مثل ذلك عند الإنسان وجدنا أن هذا وراد أحيانا لكنه ليس القاعدة، ففى حالة المرض وخاصة الفصام قد يحتد التناقض حتى التجمد أو التصادم فالتناثر، أما فى حالة السواء فهو (التناقض) يثير أصل حركية جدلية على درجة من الوعى تندرج بنا تصعيدا إلى جدل خلاق وإبداع أصيل مرورا بتحمل الغموض مدعوما بالمثابرة.

وحين راجعت نهاية النشرة السابقة شعرت أننى أصف جدل الإيقاع الحيوى بكل تناقضاته وليس فقط تناقض الوجدان، وأنا لا أنفى حركية الجدل عبر طول مسيرة التطور عند الأحياء قبل الإنسان، وأعتقد أن دراسات قادمة سوف تبين أن الطفرات التى تخلـَّق منها الكائن تلو الآخر، – بفضل الله – هى طفرات إبداعية جدلية، ولكن ليست كما نعرفها عند الكائن البشرى ولا فيما يعلن مما يسمى الإبداع البشرى، بل هى تتم بناء عن التوفيق فى الامتثال لبرامج البقاء المتنوعة والمتعددة الجارية عبر الزمن بفضل الله.

وفى الإنسان المفروض أن تكون مسيرته على نفس الوتيرة وبنفس البرامج، ولكن مع درجة ما من مستوياته المختلفة بعد أن اكتسب هذا الكائن الرائع مهارات وأدوات إدراكية رمزية، وتقنية، كما أتيحت له فرصة الكدح بمسئولية تسمح له بالتقدم واعيا إلى ما هو أرقى فأرقى.

من أين تأتى صعوبة عمل علاقة مع آخر؟

من إصرارنا على إنكار الطبيعة البشرة المتصلة بالتطور

فى مراحل النمو عند البشر، يعتبر تناقض الوجدان هو الصفة المميزة لعبور (بل معايشة) الموقف الذى وصفته ميلانى كلاين “بالموقع الاكتئابى” وقصرته على فترة الطفولة وهو الذى أسميته مؤخرا موقف التميز البشرى.

البداية لا بد أن تكون باعترافنا بجهلنا بالنفس البشرية، وبالتالى بآليات ما تطورت إليه البرامج البقائية بعد أن اصبحت وجدانات مع ظهور الوعى البشرى، دون إلغاء مستويات الوعى الأخرى، فقد أصبح لزاما أن يعاد تشكيل كل المستويات معا لعمل علاقة، والمفروض أن يجرى هذا تلقائيا، لكن الذى حدث أن غلبت الميكانزمات على برامج النمو حتى آل الحال إلى معظم مظاهر الاغتراب الجارية حالا.

كيف تحل الصعوبة؟

يبدو أن العلم العصبى المعرفى فى طريقه إلى حل المعضلة، بعد أن تبين أن العلاقات البشرية هى علاقات مستويات وعى ببعضها البعض، وأنها غير قاصرة على مستويات الوعى البشرى الفردى ، ولا حتى الوعى البينشخصى، مع الصعوبة الطبيعية التى تتجلى فى ظهور الألم النفسى لمن يغامر بمحاولة عمل علاقة مع إنسان فرد آخر ومن ثم يسمى الموقف الاكتئابى، لكنه من هذا المنطلق هو الاكئتاب الحيوى الخلاق، وليس المرضى، ثم انتهبنا إلى ضرورة مشاركة كل مستويات الوعى فى المحاولة التى تستثير تناقض الوجدان بشكل مختلف فعال.

الإنسان الفرد المعاصر يمكن أن يقيم علاقة مشتملة أوسع مما يسمح به ظاهر وعيه، وما حضر من وجدانه له، وذلك من خلال تخليق وعى مشترك، يتخلق وحده كلما أقللنا من وصاية الفكر والكلام عليه، بدءًا بما عرف مؤخرا“بالوعى البينشخصى”.

لكن الوعى البينشخصى أعجز من أن يستمر فاعلا وناجحا لضمان استمرارية وإبداعية العلاقة إذا لم يتدعم بوعى آخر فآخر، أعلى فأعلى، أوسع فأوسع أعمق فأعمق، أشمل فأشمل.

هكذ نجد أنفسنا فى رحاب ما يسمى “الوعى الجمعى”

دوائر الوعى الجمعى تعمل بكفاءة أكثر فأكثر كلما امتدت: فاتسعت عرضا لتشمل عددا أكبر فأكبر من البشر، وامتدت عمقا إلى أعرق مراحل التطور تاريخا، وكذلك  امتدت طولا وعرضا لتلتحم بالوعى الكونى عبر الناس وإلى الغيب إبداعا نحو وجه الله.

تحمل الغموض:

تحمل الغموض هو النتيجة الطبيعية لمحاولة احتواء تناقض الوجدان (أو أى غموض آخر)، وبالتالى يمكن تجاوز الاستقطاب، ودفع حركية الجدل الخلاق، إن القبول بفكرة تناقض الوجدان فى حدود التحريك والجدل والإبداع ترتبط ارتباطا جيدا باحترام كل ما خلقنا الله به دون استثناء، فضلا عن حفزنا لاحتوائه والانطلاق منه.

أما إذا توقفت حركية النمو البشرى عند موقف بادئ لا يتكرر، أو تجمدت بالتكرار والاغتراب فإنه لا يتحقق فى مجال العلاقات البشرية إلا الموقف الثنائى المغلق، المهدَّد بانتهاء عمره الافتراضى بأقصر مما نتصور، لكن إذا امتدت حركية النمو البشرى إلى مستويات الوعى الأعلى فالأعلى، فإن الفرص تزداد باستمرار، ويتسع كل من المجال والأفق، ويضطرد الامتداد حتى يحقق الإنسان ما أكرمه به ربه تحت رحمته.

إن مظاهر التناقض الوجدانى الإيجابى يمكن رصدها فى نشاطات إبداعية وإيمانية فائقة من أول تحمل الغموض حتى تحقيق طفرة حضارية إبداعية مما يحمِّل كل إنسان فرد مسئولية أن يحيى الناس جميعا ولو باحياء نفس واحدة، ولو كانت نفسه هو، حالة كونه يحتمل غموض الاختلاف مع كل الآخرين وأن يستمر لصالحه وصالحهم دون الحاجة إلى تسويات مائعة أو تراجع خطر.

إن احتواء تناقض الوجدان الذى يتحقق بالتدريج وباضطراد إلى تحمل الغموض يمكن أن ييسر للإنسان طريقه إلى الإيمان اليقينى بما لم يتحدد نهائيا أمام حواسه الظاهرة، وهو – غالبا–  ما قُصِدَ به “الإيمان بالغيب”، وبالتالى هو يحفز إلى مواصلة السعى بأى قدر من المعلومات المنسقة والمتناقضة معا، مما يفتح المجال لمزيد من الإبداع والتكافل والكدح والإيمان، على مسار تصعيد الوعى حتى الوعى الكونى إلى وجه الله.

هذا علما أن احتواء تناقض الوجدان، ومن ثم تحمل الغموض لا يعنى السماح بالربكة أو الفوضى والتشتت بقدر ما يدعو إلى التحمل والمثابرة .

إن احتواء تناقض الوجدان سوف يساهم فى دعم تخليق الوعى البينشخصى بدلا من الاختناق فى الوعى الشخصى، انطلاقا إلى الوعى الجمعى فالجماعى (2) إلى الوعى الكونى، فالوعى المطلق إلى وجه الله، لأن الاختلافات الغريزية والجماعية تدخل معا فى كل مرحلة إلى المرحلة الأعلى فى جدل خلاق وهى تتشكل تخليقا نوعيا جديدا مع كل نقلة.

وبعد

فى ندوة يناير 2015 التى عقدتها جمعية الطب النفسى التطورى بدار المقطم للصحة النفسية عرضت توضيحا لهذا التصعيد  بأشكال ربما تساعد فى فهم تطور حركية التناقض إلى تحمل الغموض إلى الجدل فالإبداع فالإيمان،

 وقد رأيت أن أعرض بعضها هنا دون تعليق لعلها تساعد فى المراجعة، ولمن شاء أن يرجع لشرائح الندوة كلها فإليك الرابط Link

شرائح الندوة (مع بعض الإضافة والتعديل).

1-2-2015_1 1-2-2015_2 1-2-2015_3 1-2-2015_4 1-2-2015_5 1-2-2015_6 1-2-2015_7 1-2-2015_8 1-2-2015_9 1-2-2015_10 1-2-2015_11

[1] – هذه الصفات إضافة من النظرية الإيقاعية التطورية للمؤلف.

[2] –  فضلت ابتداءً من الآن أن استعمل تعبير الوعى الجمعى لأصف به وعى مجموعة محددة من الناس معا، وأقصر استعمال تعبير الوعى الجماعى لمجموعات أكبر فأكبر تصل حتى كل الناس، وأفضل أن تترجم الوعى الجمعى إلى Group Consciousness  والوعى الجماعى إلى  Collective Consciousness  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *