نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 29-12-2014
السنة الثامنة
العدد: 2677
الأساس فى الطب النفسى
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (54)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (17)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (14)
مقدمة للتعرف على:
الخوف
استهلال:
برغم أننا نتكلم فى اضطرابات الوجدان (العواطف) إلا أنه يبدو أن كل وجدان سوف يتطلب منا أن نبدأ بما هو حتى نصل إلى ماهية اضطرابه ودرجات ذلك وأنواعه، وهذا ما أسميناه ونحن نتحدث عن الحزن “طيف الحزن” والآن نتحدث عن “طيف الخوف” إذن نبدأ من عاطفة الخوف الفطرية الطبيعية حتى نصل إلى ما نصل إليه مارين غالبا بالقلق، والرعب، والهلع، وفزع الترقب، والرُّهابات، والمزاج التوجسى، ومزاج الغرابة.
وجدان الخوف والحق فى الخوف:
الخوف دفاع طبيعى يحفز لدرء أسبابه، فيحمى الكائن الحى، بما فى ذلك الإنسان، من سموم مخدرات الغفلة، والطمأنينة الساكنة، والمثالية الطفلية، والمبالغة فى اعتباره خطر أو مرض، المبالغة فى تصويره وجدانا مرفوضا أصلا هى ضد الطبيعة، وكثيرا ما تستغل هذه المبالغة لأغراض ملتوية مثل الإرعاب من الأمراض ومن العدوى ومن الشارع ومن الاختلاف، ومن التفكير ومن الآخرين، وحتى أننا يمكن أن نطلق على سوء استعمال هذه المبالغة مصطلح “ثقافة التخويف” أو”ثقافة الترويع والترهيب“، ولا يقتصر الأمر على الترهيب الدينى، بل إنه يستعمل فى تجارة الدواء والأمصال والحروب، وغير ذلك لا أعفى نفسى وأهل مهنتى من المشاركة فى ذلك ولو بحسن نية، وليس أشهر من الزعم الشائع أنه “دع القلق” وأيضا التركيز على النصح غير المشروط أنه: “لا تخف!!”
البداية عندى، مثل البداية من سائر الوجدانات (العواطف) وهى التأكيد على “الحق فى الخوف” باعتبار أنه من حقوق الإنسان الأساسية.
دعونا نواجه المسألة بالمنطق البسيط والتساءل المشروع فى مواجهة الحقائق الجارية كما يلى:
* كيف لا نخاف وقد امتلك مقاليد القوة والسلطة فى اغلب بلاد الله عبر العالم أبعد الناس عن حمل مسئولية استمرار النوع البشرى؟
* كيف لا نخاف وقد امتلكت هذه السلطات كل أدوات الدمار التى تصوبها لكل من يقف فى طريقها؟
* كيف لا نخاف وقد انفصل العلم ونتائجه عن الأخلاق والوعى المسئول عن الحفاظ على النوع البشرى واكتفى بالإسراع فى الإنجاز لتوفير الرفاهية والاسترخاء ؟
* كيف لا نخاف وقد عجز العدل بكل مستوياته تقريبا عن تغيير الظلم الشديد جدا، وعن مساندة الحق؟
* كيف لا نخاف ونحن قادمون من تاريخ بقائى تطورى مزدحم بكل تجليات الخوف وأسبابه وفضله ومخاطره ودوره؟
إذن فالمسألة ليست فى أن نخاف أو لا نخاف، وإنما فى: كيف نخاف؟ ومتى؟ ثم ماذا؟
إذا كان الخوف مشروعا إلى هذه الدرجة فعلينا أن نبحث بجد فى كيف نتعامل مع هذه المشروعية بمسئولية حذرة، علينا أن نتساءل:
- كيف نخاف فنستمر أرقى، وننتج أجمل، ونعرف أشمل، ونبدع أكثر أصالة؟
- كيف نخاف فنزداد يقظة وحرصا ليس فقط على جماعتنا الخاصة أو وطننا المحدود؟ وإنما على كرامة البشر جميعا وإرساء العدل.
- كيف يمكن أن “نخاف جميعا معا” حرصا على استمرار هذا الجنس الرائع المسمى “الإنسان”؟
- كيف نخاف على إنجازات هذا الكائن البشرى المجتهد عبر التاريخ حتى لا تظل احتكارا لمن يستعملها ضدنا، وضد نفسه، وضد الحياة؟
الخوف ليس واحدا
يتجلى الخوف على مدى العمر فى تشكيلات مختلفة متكاملة لكلٍّ معالمها ووظيفتها، أو مضاعفاتها ومشاكلها، فى كل من السواء أو المرض
ففى السواء: نقابل تجليات متعددة حتى التناقض فيما بينها مثلا:
والخوف المتحفز،
والخوف اليقظ،
والخوف الحاسب المستبصر،
الخوف الجبان،
والخوف من الفقد،
ومن القرب،
ومن البعد،
ومن الحب،
ومن الآخر،
ومن الحياة،
ومن الموت،
ومن المجهول،
ومن الحرية ..إلخ.
أما فى المرض فنجد:
الخوف الغامض (القلق)،
والخوف المُشِلّ
والخوف المجمّد
الخوف من الجنون
ومن الضياع،
من فقد السيطرة
أنظر بعد
من كل ذلك يمكن أن أنتهى إلى فروض تقول:
(1) الخوف موجود وغالبا مفيد عبر تاريخ التطور كله فهو انفعال بقائى ضرورى مرتبط بدرجة ما - مهما ضؤلت - بإدراك اقتراب أو وقوع خطر ما، بما يستتبع ذلك من استثارة آلية “الكر والفر” الدفاعية الطبيعية.
(2) يتميز الإنسان بدرجة خاصة من الوعى بحيث يصبح الخوف عاطفة مثيرة ومنِّبهة ودافعة حتى لو لم يرتبط بالكر والفر حالا.
(3) يتميز الإنسان أيضا بتعدد مستويات وجوده (وعيه) حتى أنه يمكن أن يعى خطر الداخل (الحقيقى أو المتخيل) بنفس آلية إدراك خطر الخارج، وإن اختلفت الدرجات.
(4) من أبرز تجليات إيجابيات هذا الوجدان (الخوف) فى الإنسان: حدة الانتباه وتحضير الجسد والفكر لمختلف الاحتمالات، وحشد الآليات الدفاعية الآن، ومستقبلا.
(5) إن إنكار هذا الانفعال/الوجدان من حيث المبدأ هو نوع من الكبت الذى إذا زاد قد يؤدى إلى التعامل مع هذه الغريزة بدفاعات وميكانزمات مشوِّهة أو معطـِّلة أو منحرفة.
(6) إنه مع اضطراد النضج والاستغناء تدرجيا عن فرط التعامل بالميكانزمات، تتاح الفرصة للتعامل مع الخوف كما يجرى مع أية غريزة فى مسار نموها، وذلك: بالقبول والاعتراف، فالاحتواء والتخطيط والإبداع، وذلك من خلال ضبط الجرعة (الوعى المناسب)، وتوجيه الطاقة (الفعل المناسب)، وإعادة التنظيم (إبداعا للذات أو إنتاجا خارجها)
(7) كلما كان الخوف منفصلا عن سائر العواطف، وسائر الوظائف النفسية الأخرى وخاصة الوظائف المعرفية، والإرادية (اتخاذ القرار)، كان أقرب إلى اللاسواء (المرض)
(8) تزداد إيجابية الخوف بازدياد مساحة ترابطه مع سائر العواطف والوظائف (خاصة المعرفية) حتى يمكن ألا يعود خوفا بالمعنى الشائع أصلا، إذا تناسق وتكافل مع الوعى المعرفى والفعل الواقى.
تشكيلات من الخوف على متدرج ممتد:
أولا: الخوف الانفعال الجسدى الفج:
حين يتخلى الخوف تماما عن (أو: لو أنه لم يرتبط بعد بـ) وظيفته المعرفية (الدهشة فالإدراك فزيادة أبجدية التعرف)، تقتصر تجلياته فى المصاحبات الجسمية (التى تظهر أساسا من خلال الجهاز العصبى الذاتى مثل خفقان القلب والعرق وارتفاع الضغط واللهاث ..إلخ) وأيضا يظهر فى الوعى المرعوب بأشكاله التى تتجلى فى صورة الهلع حتى التجمد بلا حراك.
ثانيا: الخوف الدهشة (الإدراك):
الدهشة هى الوجدان الذى يستقبل المؤثرات الجديدة بمزيج من الرغبة والحذر والمغامرة جميعا، وهى فى هذه الحدود دافع لحب الاستطلاع والكشف، بل والبحث العلمى، ولكن إذا ما اتسعت المسافة بين جرعة الإدراك، وآلية التشكيل (اعتمال المعلومات (information processing)، لضمها والتعامل معها، صاحبها درجة متزايدة من الخوف بقدر بعد الوجدان عن حركية إعادة التشكيل.
الخوف المعرفة (الإبداع)
حين يتطور الخوف الدهشة إلى الخوف المعرفة فالخوف الفعل الخلاق يولد الإبداع، حيث يتجاوز المبدع خوفه وينتصر عليه بتشكيل المدركات الداخلية والخارجية فينتقل من مرحلة “اعتمال المعلومات” إلى فعل “إعادة تخليقها” ، وهنا تحتوى الإرادة المبدعة طاقة الخوف الدهشة. وكلما كان الإبداع أصيلا كان احتمال خوض غمار بحور الخوف خطيرا (يتحدث كثير من المبدعين، من الشعراء خاصة، عن هذا المأزق المرعب أثناء ممارسة الإبداع وكأنهم بين الموت والحياة قبيل وفى بداية خوض معمعة الخلق)
الخلاصة (مؤقتا)
* طالما أن هناك “مجهول” فالخوف قائم ونحن نطرق باب هذا المجهول أو نخطو فيه أو إليه.
* طالما أن هناك “حركة” فالخوف وارد وعلينا أن نفرق بين الحركة فى المحل (بلا خوف، أو بخوف زائف) والحركة إلى ما لا نعرف (لنكتشف ما نضيف ونحن فى خوف بديع).
* طالما أن هناك “جديد” فالخوف طبيعى حتى نتعرف عليه بأكبر قدر من التحمل.
* طالما أن هناك “وعى” فالخوف يقظة تشحذ هذا الوعى حتى يتعمق ليستوعب أكثر، ويخاف أبدع.
* طالما أن هناك “آخر حقيقى مختلف”، فالخوف مواكب لمحاولة إنشاء علاقة حقيقية مبدعة معه.
* طالما أن لنا داخل لا نعرف أغلبه يهدد بالظهور أو التعرى فالخوف ضرورة مصاحبة لأى كشف له، أو حتى تهديد بكشفه.
* طالما أن هناك “تهديد بالانقراض” فالخوف فريضة حياتية بقائية تطورية معا.