الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (40) ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (3) الحزن والبصيرة والإبداع

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (40) ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (3) الحزن والبصيرة والإبداع

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 10-11-2014    

السنة الثامنة

العدد: 2628

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسيةالفصل الخامس:10-11-2014_1

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (40)

اضطرابات الوجدان (العواطف) (6)

 الاضطرابات الوجدانية: كمِّـيا (4)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (3)

الحزن والبصيرة والإبداع

استهلال:

نحن لا نعرف الحزن، وقد أشاع الناس، من خلال تعاطيهم حبوب ومواثيق  السعادة المستوردة، وشراب الحرية الرخوة  أنه “وِحِشْ قوى”، وساهم النفسيون بغفلة أو بحسن نية فى الترويج لعكسه، مع أن كثيرا منا لا يعرفون عكسه بحقه، لا يعرفون الفرح الحقيقى لأنهم لا يعرفون الحزن الحقيقى، ثم نفخ الإعلام فى كل ذلك باستسهال واختزال، وأكملت الموقف الدراما المسطحة وهى  تدغدع  المتعجلين من روادها، هذه هى الحكاية.

لا بد أن يعود الحزن إلى موقعه الرائع باحترام وترحيب متألم، هذا يواكب استعادة موقفنا من حمل الأمانة وتقبل الحياة بمسئولية تلييق بنا نحن البشر.

العلاج الذى أمارسه، وأدرّب عليه، وأدرسه، اسميته (منذ ثلاثين عاما) علاج “المواجهة، المواكبة، المسئولية”، ولم أعلن عنه حتى فى محفل علمى محلى عام إلا حين دعيت لتقديم ما تيسر عن العلاج المعرفى الأحدث، وكان قد وصلنى ما أفادنى عن الخطوة الثالثة، فى الموجة الثالثة لتطور العلاج المعرفى عند من سبقونا، وكانت باسم “علاج القبول والالتزام” Acceptance Commitment Therapy ، وفوجئت بأن بعض معالمه تتفق مع العلاج الذى نمارسه، وقد قاموا بإعطائه اسم التدليل المختصر كعادتهم ACT therapy  فغامرت أنا أيضا بتدليل علاجنا بحروف م. م. م. ، (مواجهة، مواكبة، مسئولية).

 ثم إنى حين أبحرت فى محيط العواطف – بعد الإدراك- كما أفعل الآن، تكشفت لى أكثر فأكثر العلاقة بين التطور وحركية العواطف فى نقلات النمو، بما يصاحبها من: آلام، ومآزق،فإبداع، فجدل، فنقلة تطورية،

أما ما يوازى ذلك فى مجال الممارسة فى خبرتنا، فقد كان اساسا فى العلاج الجمعى، وصورته الأوسع وهى “علاج الوسط“، حيث تجرى هذه الممارسة دون تنظير متقعر ولا وصاية على  حركية العلاج من منظور نمائى Growth Oriented Therapy،

نعنى بالمواجهة فى علاجنا هذا هو أن نركز على ما هو موجود “هنا والآن” بما ينير لنا معنى الأعراض ووظيفتها وغائيتها فى كثير من الأحيان، كذلك تتضمن المواجهة توعية المريض – بحرفية علاجية – بدوره فى اختيار المرض والثمن الذى يدفعه فيه واحتمال وجود بدائل صحية تحقق نفس غرضه، سواء كان رفضا موضوعيا أو وعدا بإبداع.

أما المواكبة فنقصد بها أن تكون “مع” المريض، أحيانا ونحن نعدو أو نعزق معا، ونصف مثل هذا النشاط أنه يجرى “كتفا لكتف”، نسير أو نجرى أو نعزق بجوار المريض لا نقف على رأسه ولا فى مواجهته وجها لوجه، كما ننتبه إلى أن ما نسميه “نقد النص البشرى” لإعادة تشكيله يسرى عليه كما يسرى علينا فى نفس الوقت.

أما المسئولية فهى تشملنا معه أيضا فنحن معا مسئولون عن ظهور المرض (مع أنه اختار طريقه وحده فى البداية) ثم مسئولون عن احتواء الأعراض، وعن إعادة التشكيل بشرط أن يتحمل نفس المسئولية معنا طول الوقت.

واضح من أن الخطوات الثلاثة تحمل قدرا من الألم النفسى الذى بعض مظاهره الحزن الأصيل، بقدر لا يمكن تجنبه، ولذلك فهو يحتاج إلى ضبط الجرعة وحسن التوقيت طول الوقت، ربما من هذا المنطلق وجدت نفسى ملزما بأن أدافع عن الحزن والألم المصاحب لهذه المسيرة، ولمسيرة النمو بصفة عامة.

 كل ذلك وأنا حذر كل الحذر من الاستسلام للمستورد والمترجم، خاصة بالنسبة للإدراك والعواطف،ثم الوعى والإيمان، وحين تيقنت من الفرق الثقافى الجوهرى بين ما يعنيه تمسكنا باستخدام لغتنا العربية، وبين استسلامنا لهذا الهجين المستورد وكأنه رطان يجثم على وعينا، لجأت إلى تراثنا المعجمى العربى فأسعفنى بعض الشىء، لكن الذى أكد فروضى كان جدل الشعر مع اللغة، ومن هذا المنطلق رحت أدافع عن حقنا فى حزننا الأصيل كما خلقنا الله، ضمن مسئوليتنا عن الدفاع عن هويتنا فى كل تفصيلة منقولة، وكل حوار متاح.

الاستجابة المبدئية لموقفى هنا وأنا أقدم الحزن بوجهه الإيجابى قبل المرضى كانت متوقعة، ذلك أن موقفى بدا وكأنه دفاع عن الحزن بلا قيد ولا شرط، ووصلتنى تعليقات جادة، وأخرى ساخرة، مثل ذلك التعبير المصرى البسيط: “إنت عايز تقلبها مندبة” أو “باين عليك غاوى غم”، وقبلت كل ذلك باحترام وصبر، وربنا يسهل!!

الحزن والبصيرة:

جاء فى المتن الذى نشر نصه أمس تعريف بالاكتئاب (وليس تعريفا للحزن) أنه:

 يعلن‏ ‏ما‏ ‏يسمّى ‏اكتئابا‏ ‏نوعا‏ ‏من الدراية الكاشفة لقدر مفرط من‏ ‏التباين‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ ‏للواقع‏ ‏والطموحات‏ ‏إزاءه‏ ‏فى ‏ناحية‏، ‏وبين‏ ‏مواجهة‏ ‏القصور‏ ‏فى ‏القدرات‏ ‏الخاصة‏ ‏والفرص‏ ‏المتاحة‏ ‏اللازمة‏ ‏للتعامل‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية،‏ ‏بما‏ ‏يستتبع‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏شعور‏ ‏بالعجز، كما قد يعلن أيضا إفراطا فى درجة ما يسمى “الإحباط” فى حالات ما إذا كان السبب خارجيا ومخيبا للآمال.

نلاحظ فى هذا التعرف (لا التعريف) أنه يقرّ ضمنا أن الحزن هو إعلان كشف، أو رؤية للواقع، ثم اكتشاف عدم التناسب، وهذا موقف فيه تبسيط شديد لدرجة الأختزال لحقيقة معنى الحزن ودوره، ذلك أن الحزن فعلا يحمل احتمال شحذ البصيرة، لكن هذه البصيرة لا تقتصر على رؤية صعوبات المواجهة مع الواقع الخارجى، وإنما تمتد لرؤية الواقع الداخلى بكل ما كان قد خفى فيه من قدرات، وجوع، واحتياج، وطموح، وإبداع، المفروض أن الإنسان (ليس بعد مريضا) يفرح بهذا الكنز الذى اكتشف أنه يملكه، جنبا إلى جنب مع رعبه من هذا المخزون الذى لم يكن يعرف عنه شيئا، ومن هنا يحدث تفعيل للألم النفسى الذى كان كامنا وراء ستار العمى التقليدى، يحدث هذا تلقائيا فى حالات المرض ولكنه يقتصر على نوع واحد من الاكتئاب وهو الذى أسميتيه “اكتئاب‏ ‏المواجهة‏ ‏الولافى Confrontation Dialectic Depression‏ وقد وصفته (1)كما يلى:

هذا‏ ‏النوع‏ ‏دورى ‏بيولوجى ‏أيضا‏ ‏كما‏ ‏ألمحت‏، ‏وقد‏ ‏أسميته‏ ‏من قبل‏ ‏ذلك‏ “‏الألم‏ ‏النفسى” ‏كما‏ ‏وصفه‏ ‏سيلفانو‏ ‏أريتى ‏قائلا: ‏أن الاكتئاب هو وعى بالألم النفسى، ثم أردفت:

 “إنه‏ ‏النتاج‏ ‏التطورى ‏على ‏المستوى ‏الرمزى ‏العلاقاتى ‏بين‏ ‏الأشخاص” ‏ كما ‏‏أنه‏ ‏النتاج‏ ‏الطبيعى ‏لمواجهة‏ ‏تناقض‏ ‏الذات‏ ‏من‏ ‏داخل‏، ‏وغموض‏ ‏الواقع‏ ‏خارجنا‏ ‏بكل‏ ‏مكوناتهما‏ ‏معا‏، ‏وهو‏ ‏الدافع‏ ‏لاستيعاب‏ ‏النبض‏ ‏البسطى Systolic Unfolding ‏البيولوجى ‏فى ‏تأليف‏ ‏ولاف‏ ‏يسمح‏ ‏بإنتشار‏ ‏الوعى، ‏وهو‏ ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يقابل‏ ‏إتساع‏ ‏زواية‏ ‏الترابط‏ ‏على ‏مستوى ‏الجهاز‏ ‏العصبى، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏هو‏ ‏يقابل‏ ‏أيضا‏ ‏إستطالة‏ ‏وتنظيم‏ ‏سلسلة‏ ‏ولولب‏ ‏الذاكرة‏ ‏على ‏مستوى ‏الجزيئات‏ ‏العظيمة‏ ،Macromolecules ‏داخل‏ ‏الخلية‏، ‏ونتاج‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏: ‏هو‏ ‏إحتمال‏ ‏خطوات‏ ‏أوسع‏ ‏وأوثق‏ ‏على ‏مسيرة‏ ‏النمو (2).‏

وبعد

هذا فقط هو الحزن الذى أدافع عنه، وأحرص على احتوائه أثناء النمو، وعلى عدم الإسراع بالتخلص منه دون حساب أثناء العلاج، ولا شك أنه إذا لم ينجح فى مهمته النمائية هذه يمكن أن ينقلب مرضا بمعنى فرط الألم المزعج (حتى تهديد الحياة) والإعاقة.

الأنواع الأخرى (3) لن أتطرق إليها هنا الآن، وإن كنت قد أعود إليها بعد أن أن أنتهى من الدفاع عن نفسى فى  تهمة أننى “قلبتها غما”.

 الحزن مرحلة من مراحل النمو، وهو لا يقتصرعلى ما يظهر فيما يسمى “الموقف الاكتئابى” الذى وصف اساسا بلغة مدرسة العلاقة بالموضوع، بل هو موقف متكرر مع كل نبضة نمو، وربما مع كل نبضة من نبضات الإيقاع الحيوى مهما قصرت مدتها،

‏مراحل النمو‏ .. ‏حتى ‏الموقف‏ ‏الاكتئابى (‏ومفهوم‏ ‏السيكوباثوجينى)‏

يبدأ الحديث هنا‏ ‏بلغة‏ ‏المدرسة‏ ‏التحليلية‏ ‏المسماة‏ “العلاقة‏ ‏بالموضوع” Object Relation، ‏إلا أن النظرية الإيقاعية التطورية قد استوعبتها وعملت على امتدادها فى تاريخ التطور السابق والوراثة، فلم تقصرها على علاقة الطفل بأمه إلا استعادةً ونبضاً كما تشير نظرية الاستعادة Recapitulation theory أيضا بعد تعميم خطواتها على نبضات النمو الأقصر فالأقصر..

 ‏وأقدم‏ ‏هنا‏ ‏إبتداء‏ ‏هذه‏ ‏المراحل‏ النمائية المتتالية ‏المتعدة‏ ‏الأبعاد‏، ‏التى ‏سننتهى ‏منها‏ ‏الى ‏التفسير‏ ‏المتعلق‏ ‏بما‏ ‏يبرر تقديم الجانب الإيجابى للحزن كموقف ومرحلة‏:‏

‏(‏أ‏) ‏يمر‏ ‏الطفل‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏بمراحل‏ ثلاث ‏‏متتالية‏، ‏وقد‏ ‏اختلفت‏ ‏المدارس‏ ‏فى ‏بعض تفاصيلها‏، ‏وإن‏ ‏اتفقت‏ – ‏فى ‏عمق‏ ‏معين‏- على ‏تسلسلها،‏ ‏ويعرف‏ ‏هذا‏ ‏النمو‏ ‏الفردى ‏بالتطور‏ ‏الأنتوجينىOntogeny.‏

‏(‏ب‏) ‏يكرر‏ ‏الطفل‏ ‏بذلك‏ ‏تاريخ‏ ‏نوعه‏ (‏الفيولوجينيا‏ Phylogeny) ‏فيحقق‏ ‏القانون‏ ‏الحيوى ‏القائل‏ ‏بأن‏ ‏الأنتوجينينا‏ ‏تعيد‏ ‏الفيلوجينيا‏.‏ (إرنست هيكل: هذه الإضافة من النظرية التطورية الإيقاعية، وكذلك ما سيرد بعدها).

‏(حـ) يكرر‏ ‏الطفل‏ ‏هذه‏ ‏الخطوات‏ ‏فى ‏كل‏ ‏نبضة‏ ‏نمو‏ ‏لاحقة‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، (‏وقد‏ ‏أسميتُ‏ ‏نبضة‏ ‏النمو‏ ‏هذه‏ ‏قبلا‏ ‏باسم‏ ‏الماكروجينيا‏ Macrogeny ‏تمييزا‏ ‏لها‏ ‏عن‏ ‏نبضه‏ ‏أصغر‏ ‏تتعلق‏ ‏بتطور‏ ‏الفكرة‏ ‏أسماها‏ ‏أريتى الماكروجينيا (عن فرنر) Microgenia ‏ ‏.‏

‏(‏د‏) ‏تعتبر‏ ‏أزمة‏ ‏الذهان‏ ‏خاصة‏ (‏والمرض‏ ‏النفسى ‏عامة‏) ‏صورة‏ ‏مكررة‏ ‏وفاشلة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ – ‏للماكروجينيا‏، ‏بما‏ ‏ينتج‏ ‏عنها‏ ‏من‏ ‏آثار‏ ‏سلبية‏ ‏ومعوقة‏ ‏للنمو‏، ومُمْرِضَهْ ‏وقد سميت هذه النبضة المشوِّهة‏ ‏ ‏السيكوباثوجينا‏ Psychopathogeny ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏فشل‏ ‏هذه‏ ‏النبضة‏ ‏‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏عملية‏ ‏عكسية‏ ‏وإن‏ ‏ظَلّت‏ ‏هادفة‏ ‏ومسلسلة نحو التوقف أو التفسخ (غائية المرض)‏.‏

وبعد

فإذا كان الأمر كذلك، وكان المرض لا يظهر إلا فى آخر خطوة بعد فشل نبضة النمو الدورية فى تحقيق أغراضها – مرورا بطور الحزن- فعلينا أن نتعرف على هذا الحزن كمرحلة نمو، سواء فى لحظة بذاتها، ام فى نوبة دورية إبداعية، أم فى نوبة دورية نمائية، أم أثناء مسيرة العلاج، وألا يسمى مرضا أو عرضا (انهباط) إلا إذا أجهضت هذه النبضة فعرقلت وتوقفت عند مرحلة الألم دون فاعلية، أو تمادت إلى أمراض أخطر.

إن كل نبضة نمو (أو إبداع) حسب النظرية التطورية الإيقاعية، تحتوى طور المأزق الذى قد يحتد حتى الدرجة التى تصفه (1) بالحزن أو الألم (2) بالدهشة والمخاطرة مع احتمال الرؤية الأوسع، (3) فالبصيرة الأكثر إيلاما، (4) فالتصادم المواجهى، (5) فاحتمال التناقض، (6) فمحاولة التأليف، (7) فالجدل فالإبداع، سواء كان إبداع المرحلة التالية من مراحل النمو، أو كان ناتجا إبداعيا يتشكل ويسمى حسب أداة الإبداع (شعرا، أو نظرية رياضية، أو تشكيلا، أو غير ذلك)، إن هذا المأزق لا يصل إلى الوعى الظاهر بحدة مع كل نبضة حيث عادةً لا نعرف، ولا يعرف صاحبه إلا آثاره المؤلمة ثم نتاجه الغائر، فإذا احتدت البصيرة بمعناها الأوسع أكثر من قدرة العملية الإبداعية على احتوائها، أعلن ما يسمى الألم النفسى، وهو المرادف فى الأحوال العادية خاصة، لما هو حزن.

معنى خاص للبصيرة:

البصيرة هنا لها معنى خاص جدا، فهى ليست كشفا واعيا معلنا لما تم كشفه فى الداخل أو فى الخارج، وإنما يمكن أن تقتصر على استنتاج حركية داخلية لا تعلن فى ذاتها كرؤية وصفية، ولكننا نرى مصاحباتها ونتائجها: إما معاناة معيقة، أو ناتجا إبداعا (4) أو أو مغامرة مخيفة.

حين اكتشفت أننى استشهدت ببعض شعرى أمس لأمِّجد الحزن قائلا:

يتحفّز‏ ‏حزنٌ‏ ‏أبلجْ‏؛‏

‏ ‏حزن‏ٌٌ ‏أرحب‏ ‏من‏ ‏دائرة‏ ‏الأشياء‏ ‏المنثورة‏ ‏

الأشياء‏ ‏العاصيةِ‏ ‏النافرِة‏ ‏الهيجى،‏

حزن‏ٌٌ ‏أقوى ‏من‏ ‏تشكيل‏ ‏الكلمات،‏

رحت أبحث عن مزيد من محاولاتى التى تشير إلى هذا النوع من البصيرة من خلال ناتجها وليس من خلال الاعتراف المعلقن بمعاناة بذاتها، فعثرت على ما يستحق أن أستشهد به غير قصيدة أمس، وقد حرصت أن أنتقى ما يشمل كلا من الرؤية والألم والانشقاق والاحتياج والمثابرة دون تحديد وإلا فقد الشعر وظيفته وتميزه.

       المقتطفات:

حزنـى ‏كلــِمة‏ْْ..‏

‏-1-‏

حُـزنى ‏كلمَه‏،‏

تمحو‏ ‏صَمت‏ََ ‏الموتْ‏.‏

حزنى ‏أقَوى، ‏أظهرُ‏ ‏من‏ ‏شمس‏ ‏البهجهْ‏. ‏

حُزنى ‏أصل‏ ‏الأشياء‏.‏

‏-2-‏

لا‏ ‏تقتـَربى،‏

لا‏ ‏أحملُ‏ ‏لمسات‏ِِ ‏حنانكْ‏.‏

تقع‏ ‏الكلمة‏ُُ ‏فى ‏غيرالجمله‏ْ، ‏

أتراجعْ‏ْْ.‏

يَلفظنى ‏الرحم‏ ‏الغادرُ‏،‏

فأسارعْ‏ُُ،‏

لا‏ ‏أعبر‏ُُ ‏حدَّ‏ ‏الخوفْ‏.‏

‏ -3-‏

يغمرُنى، ‏يغمرُنى ‏حتىَّ ‏أرنبةَ‏ ‏الأنف‏ْْ،‏

لا‏ ‏أغرقُ‏،‏

لا‏ ‏أسبح‏ْْ.‏

‏ ‏تتباعد‏ ‏ُّّكلُّ ‏الشطآنْ‏.‏

يتكاثرُ‏ ‏خدرالغُربة‏ِ ‏والإنهاكْ‏. ‏

أتمسّك‏ ‏بحبال‏ ‏الأنفاس‏ ‏المقطوعةِ‏،‏

يحتدّ‏ ‏الوعى،‏

فأخاف‏.‏

‏-4-‏

يكفينى ‏حرفٌ‏ ‏ضلَّ‏ ‏طريق‏ ‏الكلمهْ‏.‏

أجمعُ‏ ‏أطراف‏ََ ‏المعنىَ.‏

‏”لا‏ ‏تمضِى، ‏

لا‏ ‏تقتربِى‏”.‏

لأصارع‏ ‏موتى ‏وحدى ‏

‏- ‏دون‏ ‏غيابكْ‏-‏

‏ ‏يصرعُهُ‏ ‏حزنى ‏الأشهبْ‏.‏

    8/12/1982

                                         القصيدة الثانية:

شظايـــا‏ ‏المرايــا

-1-‏

ألمِلمُنى ‏من‏ ‏شظايا‏ََ ‏المرايا‏ََ،‏

وِأقنع‏ ‏بالهمس‏ ‏وسْط‏ ‏الزحامِ‏. ‏

بقايا‏ ‏الحديث‏ِِ، ‏وسقْط‏ ‏اللقاءِ

‏ ‏زوايَا‏ ‏النظر‏ْْ ‏

‏-2-‏

تمــرُّ‏ ‏الرياحُ‏ ‏محملةٌ‏ْْ  ‏باللقاحِ‏. ‏

أدفّئُ‏ ‏بيضى،‏

أرتّبُ‏ ‏عشى،‏

أميل‏ ‏مع‏ ‏الميِل‏ ‏أجرى ‏لَها‏. ‏

‏ ‏أعلّق‏ ‏روحى ‏بمنقارِها

‏-3- ‏

أُعَـدّل‏ ‏وجهى،‏

أعــِدُّ‏ ‏ابتسامهْ‏. ‏

أسوّى ‏رباط‏ ‏العنقْ‏. ‏

ألاحقُ‏ ‏دورى،‏

أعُدُّ‏ ‏الخطى،‏

أرتّب‏ُُ ‏لفظى:‏

‏(‏تُرَاها تَرَانى‏؟‏).‏

فألصق‏ ‏وجَهِىَ ‏بين‏ ‏السياجْ‏ ‏

فتُغْفلْـنى، ‏أسترٍقُّ‏ ‏النظر‏ْْ.‏

وأجمعُنى ‏ضاغطا‏ ‏بالحزام‏ِِ، ‏

لنغفو‏ ‏جياعا‏.‏

‏ -4-‏

أمد‏ُّّ ‏الذراعَ‏ ‏ألامسُ‏ ‏طرْفَ‏ ‏الحــــفيف‏ِِ، ‏

أرتّبنى ‏من‏ ‏جديدْ‏،‏

ألاصقها‏ ‏من‏ ‏بعيد‏ْْ،‏

أكوّر‏ ‏مقطعَ‏ ‏لفظ‏ ‏وليدَ، ‏

أوسِّدُنى ‏عقلة‏َ ‏الإصبعِ‏. ‏

أمصمصها‏ ‏عَلْقما‏ ‏فى ‏دمى ‏

ألـــَمْلِـمنِـــى ‏

أحتلـــــــم‏ْْ.‏

31/7/1982

                                        القصيدة الثالثة:

آلام الرؤية

لو‏ ‏أننى ‏أعمى ‏أعيش‏ ‏الجهلَ‏ ‏زُرْكِش‏ََ ‏بالأمل‏،‏

لو‏ ‏أننى ‏عشقتُها‏ ‏فخِلتها‏ ‏ست‏ ‏الحسان‏،‏

لو‏ ‏أننى ‏أحببت‏ ‏طفلا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أرى ‏نذالَتَه‏،‏

لو‏ ‏أننى ‏حاربِتُ‏ ‏خِصما‏ ‏دونَ‏ ‏أنْ‏ ‏أبكىَ ‏قهْر‏ ‏وحْدَته‏، ‏

ما‏ ‏عدت‏ ‏قادرا‏ ‏أعيُد‏ ‏ما‏ ‏جَرَى، ‏

من‏ ‏قبِل‏ ‏أن‏ ‏يَجْرىَ ‏عند‏ ‏الموِعِد.‏

  ‏-1-‏     

لمَّا‏ ‏روانى ‏نهْرهُا‏،‏

ولقطتُّ‏ ‏حبَّ‏ ‏الحْبِّ‏ ‏من‏ ‏منقارها‏.‏

تحنو‏ ‏تُمَنّى ‏وحدتى ‏تُذيبها‏: ‏

عرَّى ‏الحقيقةََ‏ ‏جائعهْ‏:‏

ففزعت‏ ‏أفقأها‏،‏

‏ ‏فأشْعَلهَا‏ ‏بها‏ ‏

وعشيتُ‏ ‏من‏ ‏بهر‏ ‏الرؤى،‏

وضممت‏ ‏حولى ‏وحدتى.‏

‏-2-‏

لمَّا‏ ‏تمايل‏ ‏جمعُهم‏ ‏مكبِّرا‏، ‏مهللا‏،‏

فى ‏حب‏ ‏أرضنا‏ ‏الوطنْ‏، ‏

أفرغت‏ ‏وعيى ‏من‏ ‏خبايا‏ ‏حكمتى،‏

فأذبت‏ ‏نفسى ‏هاتفا‏:‏

‏”‏يحيا‏ ‏الوطن‏”.‏

فأطلَّ‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏الضلوعْ‏،‏

ابن‏ ‏السفاح‏ ‏الباسم‏ ‏المستهزئِِ‏: ‏

‏”‏لكلِّ‏ ‏من‏ ‏ولدته‏ ‏أمُّه‏ ‏وطن‏،‏

مثل‏ ‏الوطن‏”‏

يـا أرض‏ ‏ربّى ‏قد‏ ‏وسعت‏ ‏الناس‏ ‏والسباع‏ ‏والطيور‏ ‏والحجارة‏، ‏

لكننى ‏أرنو‏ ‏لشبَرٍ‏ ‏واحدٍ‏: ‏أنا‏.‏

يضم‏ُّّ ‏عظمى ‏يحتوينى ‏رحِمَا‏.‏

‏-3-‏

يا‏ ‏صاحبى ‏يا‏ ‏قدرى

ردّ ‏الجهالة‏َ ‏مِقودى،‏

هدَّمْتَ‏ ‏معبدى ‏

يا‏ ‏صاحبى، ‏

أفسح‏ ‏رعاك‏ ‏الله‏،‏

‏(‏من؟‏)‏

‏..‏يأبى ‏عنيدا

قلت‏ ‏أصرعُهْ

لم‏ْْ ‏أستبن‏: ‏

من‏ ‏ذا؟‏، ‏

‏(‏أنـا؟‏)‏

   ؟‏/‏؟‏/1982‏

                                       القصيدة الرابعة:

‏-1-‏

يــاليتنى ‏طفوت‏ ‏دونَ‏ ‏وزنِ

ياليتنى ‏عبرت‏ ‏نهر‏ ‏الحُزنِ

من‏ ‏غير‏ ‏أن‏ ‏يبتل‏ ‏طرفى ‏فَرَقَا‏.‏

ياليت‏ ‏ليلى ‏ما‏  ‏انْجَلي‏،‏

ولا‏ ‏عرفت‏ ‏شفرة‏ ‏الرموز‏ ‏والأجنة‏.‏

إى ‏هجرة‏  ‏الطيور‏ ،‏

فى ‏الشاطئ‏ ‏المهجور‏ .‏

عفوا‏ ‏فعلتـــها‏ …‏

‏-2-‏

المهرب‏ ‏الجبان‏ ،‏

العمر‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏بدا‏ ،‏

المهرب‏ ‏الأمان‏ .‏

فك‏ ‏الحبال‏ ‏صلت‏ ‏السلاسل‏،‏

العمر‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏انقضي‏. ‏

‏-3-‏

أشلاؤها‏: ‏تفجرت‏ ‏مضيئه‏.‏

نرى، ‏ندور‏ ‏ننكفئ‏.‏

تقطعت‏ ‏وشائج‏ ‏الموده‏،‏

‏ ‏تباعدت‏ ‏أذرعنا‏ ‏الممتده‏.‏

تناثرت‏، ‏تخلقت‏، ‏تحدت‏،‏

وماتت‏ ‏التمائم‏ .‏

‏-4-‏

يا‏ ‏بؤسه‏ُ ‏الصراخ‏ ‏دون‏ ‏صوت‏. ‏

يا‏ ‏رعبـها‏ ‏ولادة‏ ‏كموت‏ .‏

‏…‏يا‏ ‏سعد‏ ‏من‏ ‏لم‏ ‏يحمل‏ ‏الأمانه‏ .‏

ياويل‏ ‏من‏ ‏صاحبها‏ : ‏

فى ‏خدرها‏ ،‏

أو‏ ‏عاش‏ ‏ملتفا‏ ‏بها‏، ‏

وحولها‏.‏

‏-5-‏

‏…‏يا‏ ‏مِقْوَد الزمانِ لا تُطْلقْنى

ثقيلة‏ ‏ومرعبة‏:

قولة‏ ‏كن‏.‏

لو‏ “كان” : ‏بــت‏ ‏بائسا‏، ‏

لو‏ “كان‏” ‏طرت‏ ‏نورسا‏،‏

‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏درت‏ ‏حول‏ ‏نفسى ‏عدما‏ .‏

                             القصيدة الخامسة

                              (بالعامية الفصحى)

الدِّمعـة‏ ‏الحيرانة

(1)‏

والعين‏ ‏الواعية‏ ‏الصاحية‏ ‏المليانة‏ ‏حُزْن‏.‏

عمركشِى ‏شفتِ‏ ‏بقرة‏ ‏واقفةْ‏ ‏لوًحْديهَا‏،‏

مربوطة‏ ‏فْ‏ ‏شجرة‏ ‏توتْ‏، ‏جنب‏ ‏الساقية‏،‏

‏ ‏وعْنـِيهَـا‏ ‏الصاحية‏ ‏تحتيها‏ ‏دمعة‏ْْ،‏

‏ ‏لا‏ ‏بتنزلْ‏ ‏ولا‏ ‏بتجفْ‏‏؟

عمّالة‏ ‏تْبُصّ‏ ‏لزميلتْهَا‏ ‏المربوطةَْ‏ ‏فى ‏النـَّافْ‏،‏

والغُمَى ‏محبوك‏ْ ‏عالراسْ‏،‏

والحافِر‏ ‏يُحْفُرْ‏ ‏فى ‏الأرضِ ‏السكة‏ْ ‏اللِّى ‏مالهاش‏ْ ‏أوّل‏ ‏ولا‏ ‏آخـِرْ؟

‏(2)‏

والبقرة‏ ‏الواقفة‏ ‏تقول‏:‏

أنا‏ ‏كنت‏ ‏بالـِفْ‏ْ ‏ومشْ‏ ‏دَاريْـَةْ‏ ‏كان‏ ‏لازْمـِتُه‏ْ ‏إيه؟

بتشيلُوا‏ ‏الغُمَا‏ ‏من‏ ‏عَلََى ‏عينِى ‏وتْفكُّونىِ ‏ليهْ؟

عَلَشانْ‏ ‏أرْتَاحْ؟

هىَّ ‏دى ‏راحَـة‏ْْ ‏إنى ‏أشُـوفْ‏ ‏ده‏ ‏؟

لو‏ ‏حتى ‏لْبِسْت‏ ‏الغُمَى ‏تانى ‏مانـَا‏ ‏برضه‏ ‏حاشُوفْ‏.‏

وساعتها‏ ‏يا‏ ‏ناس‏:‏

مش‏ ‏حاقْـدر‏ ‏ألفّ‏.‏

‏…. ‏ما‏ ‏هو‏ ‏لازمِ ‏الواحدْ‏ ‏ما‏ ‏يشوفشِى،‏

لو‏ ‏كانْ‏ ‏حايلِفْ‏.‏

‏(3)‏10-11-2014_1

الله‏ ‏يسامحكم‏، ‏دلوقتى:‏

لا‏ ‏انا‏ ‏قادرة‏ْْ ‏ارتاحْ‏،‏

ولا‏ ‏قادرة‏ ‏ألفْ‏.‏

لا‏ ‏الدمعه‏ ‏بْتِـنْزلْ‏،‏

ولا‏ ‏راضيةْ‏ ‏تجفْ‏.‏


[1]- ‏وصفته كإحدى ‏خطوات‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى ‏فى ‏كتابى “‏مقدمة‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى” (1976) ص:112.

[2] –  هذا ما كتبته منذ أربعين عاما قبل أن أغوص فى النيوربيولوحيا كما حدث معى هذه الأيام.

[3]-  الاكتئاب العصابى الدفاعى – الاكتئاب التبريرى العدمى  – الاكتئاب الراكد المذنب – الاكتئاب التعودى الطبعى  – الاكتئاب الطفيلى النعـّاب  – الاكتئاب الدورى البيولوجى (دراسة فى علم السيكوباثولوجى  ص:153)

[4] – أعتقد أنها بصيرة تشارلز داروين التى سمحت له أن يرى تطور الأحياء بداخله بقدر ما سمحت له بتقمص عواطف الحيوانات وهو يكتب نظريته وكتبه، وقد اشرت إلى ذلك فى نشرة  “تشارلز داروين لم يأت بالديب من ديله، وإنما من برؤة إيمانه” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *