الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (28) إشكالة “الوقتية” Temporality و”عاطفة” الرعب من الموت

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (28) إشكالة “الوقتية” Temporality و”عاطفة” الرعب من الموت

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 6-10-2014

السنة الثامنة

العدد: 2593

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:    

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (28)

 إشكالة “الوقتية” Temporality

و”عاطفة” الرعب من الموت

ربما هى هدية (أو عيدية) عيد الأضحى المبارك:

أثناء مراجعتى لنشرة أمس، (ظهرت اليوم: الأحد)  فرحت لما أفاء الله علىّ من دعم جديد لأطروحتى عن الأسس البيولوجية للإيمان، وذلك من خلال فرض بلوتشيك عن إشكالة أصل الأنفعالات (فالعواطف) الأولية ، ومن عجب أن جاءنى هذا الدعم مما تحفظتُ عليه، ألا وهو إشكالة الوقتية Temporality  .

 فى هامش محدود، أمس، أشرت  إلى أطروحتى عن “الأسس البيولوجية للإيمان”، ولا أظن أن أحدا رجع إلى الرابط link الذى ألحقته بالهامش، وحين رجعت أنا اليوم إلى هذا الرابط وجدت أننى كنت قد حدثت هذه الأطروحة بدرجة مناسبة لتدخل كفصل أساسى فى كتاب لم أتمه بعنوان “قراءة فى الفطرة البشرية” وكنت قد جمعت له، وفيه، نظرياتى فى ما اعتبرته الغرائز الأساسية التى تتداخل وتتجادل وتنموا فى حركية الأصل بقوانين التطور والإبداع لتمثل الفطرة البشرية، وقد وجدتنى قد غيرت عنوان أطروحتى عن الإيمان إلى “الغريزة الإيقاعية التوازنية” بدلا من “الأسس البيولوجية للإيمان”، تجنبا لاعتراضات معطلة، ولم أكن قد تعرفت على دور الانفعالات وتطورها إلى العواطف فالوجدان على مسار التطور كما عرفتها الآن، حتى حلت، أو كادت تحل، محل ما كنت مهتما به وهو الغرائز، كنت أعامل الغرائز الأساسية الثلاثة: الجنس، والعدوان، والإيمان، باعتبارها طاقات طبيعية تنطلق وتتحاور وتتجادل وتتحور على مسار النمو بقوانين متماثلة تقريبا، مع اختلاف التأثير والتوظيف والأداء، لكنها فى صورتها الأصلية كما خلقها الله تمثل فطرة الله التى فطر الناس عليها، لكننى حين فتحت ملف العواطف، تبينت علاقة أن ما يسمى الغرائز هو أقرب إلى ما نتناوله هنا باسماء العواطف والانفعالات، وخاصة الأولية منها، ثم جاءت هذه الاشارة إلى إشكالة “الوقتية” كعاطفة أولية تفيد بأن الوعى بأن الموت هو نهاية للوجود الفردى” هو من ضمن نشاطات العقل العاطفى الاعتمالى كما أشرنا فى إيجاز فى نشرة أمس، فوجدتنى أتابع تطور هذه العاطفة إلى الإيمان كما تابعت تطور التوطن أو (الإقليمية إلى حب الوطن Territoriality) ، وكيف أنها يمكن أن تكون أساسا لأرقى العواطف باعتبار أن الإيمان هو من مهام العقل العاطفى الاعتمالى، بعيدا عن العقل المنطقى الحسابى ، إلا بما يحتاج منه من تنظيمات سلوكية مساعدة.

انتبهت أمس – ونبهت- إلى ما حل بالإنسان المعاصر  بعد أن تحول الدين إلى أيديولوجيا، وانفصل عن الاصل البيولوجى والعطاء الكونى معا،  وبالتالى لم يربط بلوتشيك هذا النزوع – لو صح الفرض- إلى ترسيخ الإيمان كأرقى عاطفة بقائية إنسانية وهى تحافظ على استمرار الحياة وازدهارها، ذلك أن  الفرد فى أحوال النمو السوية وهو يحافظ على حياته طول الوقت، لا تغيب عنه تماما نهايته كفرد، مع وعى نسبى أن هذه النهاية المحسومة هى لصالح النوع، وفى نفس الوقت هو يمارس جدله الإبداع ليحقق امتداده فى اتساقه مع وعى أكبر ممتد بلا نهاية، فهى حركية الإيمان.

اليوم، وأنا أعد لإكمال حديث أمس رجعت إلى  الكتاب الذى أشرت إليه فى نشرة 29 /9/2014  وهو عن تطور العقل الانفعالى الاعتمالى ، تأليف وتحرير  روبرت لانج (1)  فإذا به قد خصص جزءا مهما ضمن “سيناريو العقل الانفعالى”، بعنوان “حل إشكالتى الموت والعنف” Solving the problem of death and violence، وإذا به يذهب إلى تفسيرات وتأويلات مثل التى أشار إليها بلوتشيك بشكل أو بآخر، دون إشارة إلى بلوتشيك، لكن المهم أنه أقر باحتمال إدراك الكائن الحى نهايته المحتمومة كفرد، وأن العقل الانفعالى يتعامل مع  هذا الإدراك الكامن (والظاهر أحيانا عند الإنسان) بحلول مختلفة، لن أتمادى فى تفصيلها، وأكتفى بالإشارة إلى أن أهم حل ذكره هو الإنكار ثم الكبت على كل المستويات، سواء كان إنكارا دائما، أم مؤقتا أو متذبذبا، وقد رجحت أن الكائن الحى تصله رسالة نشاط هذا النزوع من خلال مشاهدته اختفاء، أو سكون حركة من حوله من أفراد نوعه، أو غير نوعه، خاصة  لو كان سبب هذا الاختفاء هو بسبب الافتراس.

قبل أن أستطرد للاستشهاد بكيفية تعامل الإبداع – بغض النظر عن نوع الإبداع – مع هذه الإشكالية بشكل أعمق وأهم وأكثر تكاملا مع الفكر التطورى، أود أن أقدم كلمة موجزة جدا عن هذا الكتاب الجيد لروبرت لانج:

أفادنى هذا الكتاب كثيرا بموقفه الهادئ الكاشف الناقد المحترم لسيجموند فرويد ونظريته ومدرسته، وهو يكشف ضعف علاقته بعمق مسيرة التطور، وبحذر ومسئولية يحدد النقلة الضرورية اللازمة لتصحيح مسار التحليل النفسى إن كان له أن يساًهم فى الفكر التطورى البيولوجى الأحدث.

فى الجزء الخاص بمحاولة كيف حل، ويحل العقل العاطفى الاعتمالى مشكلة مواجه حتم الموت، التى أعتبرها أنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشكلة العنف البشرى المعاصر وغير المعاصر، أظهر “لانج” بشكل واضح كيف أن الإنكار هو أهم الميكانزمات التى يتعامل بها الكائن الحى فى مواجهة قلق الموت ومواجهة النهاية، وكيف أن العنف المرتبط بالعدوان كرا وفرا هو من بديهيات برامج البقاء فى حدود ظروف المحيط والصراع وفاعلية العواطف الأولية بآليات العقل العاطفى الاعتمالى، ومن أمانة المؤلف أنه أنهى فروضه لمواجهة العنف والموت بأنها فروض عاجزة بشكل حاسم عن تفسير هاتين الظاهرتين (الموت والعنف) أو إيجاد حل لأى منهما (مع أن العنوان كان: حل مشكلتى العنف والموت).

افتقدت، مثلما افتقدت عند بلوتشيك، أية إشارة إلى تطور هذا النزوع “الوقتية” إلى الوعى بتطوير الحرص على الامتدادا إلى دوائر أوسع فأوسع من الوعى المتصاعد فى تناغم مع المحيط المفتوح النهاية، وهو ما يصلنى أنه “الإيمان”، وبالتالى ينقلب الرعب من “الوقتية” إلى عاطفة أرقى، أو العاطفة الأرقى، التى تعلن نجاح الإنسان فى قبول نعمة الله التطورية إليه، أقول افتقدت ذلك، لكننى لم أتردد فى قبول توقفهم عند ما تسمح به ثقافتهم ومناهجهم.

عدت أبحث فى أطروحتى الأولى عن الإيمان كغريزة أساسية فى الوجود البشرى (وغير البشرى غالبا) فوجدتها تحتاج إلى تعديل، تماما مثلما وجدت أطروحتى الباكرة عن تطور العواطف تحتاج إلى تعديل اشرت إليه فى الأسابيع الماضية مباشرة.

قبل أن أشير بإيجاز شديد إلى ما وصل إلىّ من خلال هذه النقلة أود أن أعترف بمفاجأة طيبة أخرى مرتبطة اشد الارتباط بالسبيل  الذى أتبعه وانا أحصل على المعارف التى أستمد منها فروضى وهو تعدد مصادر المعرفة وتكاملها، وأيضا تعدد المناهج واحتمال تفاعلها، المفاجأة هى أنه حضرنى عدد غير قليل من أعمالى النقدية فى أعمال إبداعية، روائية أساسا، تناولت فيها مشكلة مواجهة الرعب من الموت، والوعى به، بمختلف وسائل الإنكار، والتحدى، والاستعداد، والقبول ، والتجاوز، وتذكرت فى نفس الوقت كيف أننى وصلت فى مرحلة ليست باكرة جدا إلى أن ما أمارسه مع مرضاى أثناء العلاج وهو ما أسميته “نقد النص البشرى”  نشرة: 21-7-2014،، نشرة 21-3-2012، وأن ما أتعلمه من مرضاى هو نتيجة السماح بهذا الجدل بين وعيين فأكثر (العلاج الجمعى) من خلال حركية الوعى البين- شخصى، والوعى الجمعى أساسا، والذى أتبين الآن وأنا فى ملف العواطف أنه أكثر ارتباطا بالعقل العاطفى الاعتمالى، منه بالعقل المنطقى الحسابى اللغوى.

لست متأكدا إلى أين سيذهب بنا هذا الاستطراد، حيث أنى أخشى أن نجد أنفسنا فى محيط النقد الأدبى بما يشغلنا عن نقد النص البشرى، مع أننى أجد أنهما متكاملان، وخاصة فى هذه المنطقة بشكل لا مفر منه، فأكتفى الآن بأن أثبت فى الهامش (2) بعض عناوين هذه الأعمال النقدية وكلها تقريبا تتناول كيف تناول الإبداع الأدبى هذه المشكلة بطريقة أعمق وأرسخ من تناول كثير من العلوم النفسية، وإن كان علىّ أن أعترف أن تناول الطب النفسى التطورى، وعلم النفس التطورى، به من الإبداع ما يرقى إلى الإبداع الأدبى دون أن ينقص من علميته شيئا.

كنت أنوى أن أختم اليوم هذه النشرة المقدمة بإعادة النظر فى أطروحتى عن الأسس البيولوجية للإيمان كأرقى عاطفة إنسانية تقع على قمة ما كرم الله به الإنسان من فرص التطور لكننى وجدت أنها ستطول أكثر من الاحتمال فعدلت وقلت أختمها بأن أعرض موقفى الشخصى من هذه المواجهة لرعب الموت، فأعرض مقتطفا محدودا من قصيدة كتبتها رثاء صديق قريب جدا، وكانت بعنوان: “عظة الموت تتسرب” ولعل القارئ يلاحظ فيها من الهرب من مواجهة هذه العاطفة الأولية كما يلاحظ هنا كيف يتمنى الشاعر أن يعمى عن هذه العاطفة الأولية الوعى بالنهاية الحتمية، وأن مواجهة الموت عيانا بيانا مهما ذكّرنا بحتميه النهاية، فإنها لا تكفى لاحضار هذا الرعب إلى واجهة اللاشعور طول الوقت، فترجع الحياة الغانية إلى حيل الإنكار وهى تتمنى مزيدا من العمى.

…………….

……………

….ومن ذا يطوّقُ جِيدَ النمورِ الجياعِ بناقوسِ درء الخطر؟

….وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ  فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها الغانية.

ويرقُصُ رقّاصُها في عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ، تُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ.

….. أخبِّئها فى قوافي المراثي لأُغْمِدَ سَيْفَ دُنُـوّ الأجَلْ.

فياليته ظلَّ طىَّ المحالِ، وياليتَها أخطأتها النبالُ،

وياليتني أستطيبُ العَمَى.

[1] – “The Evolution of the Emotion-Processing Mind  (With an Introuduction to Mental Darwinism)  Copyright: 1996

[2] – 1- “الموت‏ … ‏الحلم‏ … ‏الرؤيا” ‏(‏القبر‏/‏الرحم‏) قراءة فى أفيال فتحى غانم – مجلة “الإنسان والتطور” عدد يوليو 1983.

2- (“القتل‏: ‏بَين‏ ‏مقامى ‏العبادة‏ ‏والدم”‏  ‏فى ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة) مجلة “الإنسان‏ ‏والتطور”‏ عدد يوليو 1984 – كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب سنة 1992.

‏‏3- دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش” مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990 – كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب سنة 1992

4- “الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ “  دورية نجيب محفوظ – العدد الثانى – ديسمبر 2009 – المجلس الأعلى للثقافة

5- تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم” دورية نجيب محفوظ – العدد السادس – ديسمبر 2013 – المجلس الأعلى للثقافة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *