نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 15-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2725
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس
ملف اضطرابات الإرادة (1)
اضطرابات الإرادة
(والإعتزام واتخاذ القرار والحركة والفعل)
استهلال:
غريب عنوان هذا الفصل:
بالانجليزية توجد كلمة واحدة لكل ذلك هى Conation وقد رجعت إلى الانجليزية، فوجدت أنها كلمة مهمة مفيدة، لكنها متعددة المعانى، من أول المحاولة والرغبة إلى اللهفة إلى الشوق أن تعمل فعلا هادفاً. (1)
لكنها فى القاموس الطبى “دورلاند” هى القوة التى تتطلب جهدا من أى نوع، وهى الميل الشعورى للفعل، وهى متعلقة بالإرادة. (2)
أما الترجمة المباشرة من جوجل مثلا فهى “الاعتزام”.
ومن المورد: الرغبة والإرادة، ومن القاموس العصرى: هى “النزوع”، وبالرجوع لأصل الكلمات العربية: نجد أن “الاعتزام” يحمل معنى المثابرة.
اعتزم الطريق: مضى فيه ولم ينثن، واعتزم الأمر: حمله وصبر عليه.
أما النزوع: فهو حالة شعورية ترمى الى سلوك معين!!
وبعد
بالله عليكم ما هى الكلمة الواحدة المناسبة فى اللغة العربية التى تؤدى الغرض العلمى المحدد الذى يبدأ بتحديد أبعاد الوظيفة التى سوف ندرسها، وهل ما جاء فى الانجليزية هو جامع مانع أم أنه مثل أية لغة يشير ولا يحيط؟
هذه الحيرة اللغوية مفيدة للأسباب التالية:
أولا: هى ترجعنا إلى صعوبة فصل الوظائف النفسية عن بعضها البعض
ثانيا: هى تنبهنا – أو تذكرنا – أن أية كلمة لا ينبغى أن تؤخذ إلا فى سياقها
ثالثا: هى تلقى علينا مسئولية التفرقه بين الرغبة، والميل، والنية، والفعل واستمراره بالمثابرة حتى غايته، لأن التوقف عند أية مرحلة باكرة يفسد المعنى المراد تدعيمه كمفهوم المثابرة الإيجابى للظاهرة قبل أن نُعدد اضطراباتها.
رابعا: هى تذكرنا أيضا بعجز الكلمات فى ذاتها عن تحديد وظائف عقلية أو نفسيه أو وجدانية محددة. (كما لاحظنا مثلا فى فصل الوجدان).
لكل هذا:
فضلت اختيار هذا العنوان الطويل جدا كما ترون
قبل المتن:
تناولنا فى الفصول الأولى من هذا العمل أبعاد “الصحة النفسية” وحركيتها وهى تطرح مسائل وقضايا ومفاهيم شديدة الارتباط بالنشرة الحالية وبالذات ما يتعلق بالإرادة والحرية، وبرغم أنه كان تنظيرا مطولا نوعا ما، إلا أنه يمثل الخلفية الضرورية لمن يريد أن يتعرف على السواء وصعوبة تحديده حتى يستوعب الاضطرابات المرضية فى هذه المنطقة بالذات، وبما أن الفصل كله تقريبا متعلق بهذه المساحة، وبما أننى لا أتوقع أن يرجع إليه القارئ كما أرجو، فسوف أضطر إلى اقتطاف أجزاء محدودة منه كلما لزم الأمر، فوجب الاعتذار عن التكرار مسبقا.
مقدمة:
يغطى هذا الجانب من الوجود الإنسانى مدى واسعا من السلوك البشرى بدءًا من التآزر الفعلى واللوازم الحركية حتى أعقد أشكال السلوك الإرادى، وقد أكد سيلفانو أريتى على تلك الرابطة الوثيقة بين السلوك الحركى وبين الإرادة، وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد الذات بصفتها كيانا متميزا واحدا له معالمه الواحدية الخاصة التى تفصله عن الآخر، وفى نفس الوقت تؤكد علاقته بالآخرين إنما يتطلب ممارسة ما هو “أنا أفعل” بشكل يعمق ما هو “أنا واحد متميز”، وبالتالى فإننى حين “أقرر” أو “أفعل” إنما تتحدد معالمى فيما هو “أنا” “فأكون”، “فأقرر”، “فأفعل”، (وسوف نعود إلى ذلك لاحقا).
على أن وصف الأعراض المرضية فى هذا المجال المترامى لا يمكن الإحاطة به بسهولة فى صورة أعراض محددة المعالم طول الوقت.
وفيما يلى محاولة تقديم اضطرابات هذه المنطقة بعد تقسيمها بالكاد إلى مستويات تقريبية على الوجه التالى:
أما المستوى الأول فسوف يتناول الجانب الوصفى (الحركى أساسا)
فى حين يهتم المستوى الثانى بتجليات خلل الإرادة فى مجالات التعبير خاصة،
أما المستوى الثالث فيتناول أعراض اضطرابات الإرادة على مستوى أعلى مرتبط بالهوية وتحديد أبعاد الذات واتخاذ القرار.
أولا: المستوى الوصفى الحركى: اضطرابات الأداء:
1- فرط الحركة: Hyperactivity: نظرا للاختلافات الفردية لا يمكن أن نحدد ظاهرة فرط الحركة إلا بمقارنتها بالمستوى الذى كان عليه المريض قبل أن يلاحظ – أو يلاحظه آخر – فى هذا المجال، إذ يعتبر المريض مصابا بفرط الحركة إذا ما قورنت حركته بسالف عهده فى هذا المجال، ومظاهر فرط الحركة يمكن تعدادها فيما يلى:
(i) الزعزعة Irritability: وتشير إلى درجة جسيمة من فرط القلق الحركى كما يحدث فى حالات الاكتئاب التزعزعى أو الهوس.
وفرط الزعزعة يصف درجة قصوى من شدة النشاط الحركى غير المستقر، فيذرع المريض المكان جيئة وذهابا بالإضافة إلى عدم الاستقرار فى الجلسة أو الهيئة، فما إن يجلس حتى يقوم، وما إن يقوم حتى يجلس وهكذا، وقد تحدث الزعزعة المفرطة أيضا فى حالات الفصام وخاصةالفصام الوجدانى الهوسى، وأحيانا ما تكون الزعزعة إرهاصات لاقتراب الهياج الكتاتونى الخطر. ومن المألوف أن يحدث الانتحار أو التهيج العدوانى بعد فترة وجيزة من ظهور درجة مفرطة من الزعزعة غير المبررة.
(ii) التهيّج الحركى Motor Excitement: يشير إلى نوع شديد من فرط الحركة، وقد يستمر طويلا، وكثيرا ما يكون خَطِرا ومحطِّما، وبرغم أن الهياج يكاد يشبه بعضه بعضا إلا أنه مع الملاحظة الدقيقة يمكن تمييز ما يلى:
(أ) يتصف التهج الكاتاتونى (التخشبى) بأنه غير موجه من مثيرات الخارج، وكأنه انفجار داخلى يطيح فى أى اتجاه (كسيارة ملغومة).
(ب) التهيج الهوسى يبدو أقرب إلى الثورة التى يمكن أن يثورها الشخص العادى، لكنّها ثورة مبالغ فيها جدا، تتبع فى توجّهها مثيرات الخارج المحيطة كما تكون مشتتة ومتنقلة فى نفس الوقت.
(جـ) أما التهيّج الحركى الصرْعى (كجزء من أو بديلا عن النوبة الصرعية) فإنه يبدو تهيجا أعمى غير موجه من الخارج ومصاحب بدرجة من تغير الوعى.
(ء) وهناك نوع من التهيج الانفجارى المؤذى شبه العادى وهو أقرب إلى العدوان القاسى وقد يكون سمة لاضطراب الشخصية المضادة للمجتمع أو العاصفية ويكون فيه الاعتداء موجها لأشخاص معينيين أكثر من مجرد فرط الحركة.
(هـ) أما التهيج الانشقاقى الذى يشاهد فى بعض حالات الهستيريا فيبدو فيه المريض وكأنه يلعب دورا، إلا أنه يلعبه دون أن يدرى إذ يبدو الدافع والتوجه ذا هدف خاص، برغم أنه يبدو بعيدا عن وعى المريض وإرادته الظاهرة، ويغلب عليه محاولات الإثارة الدرامية، وجذب الانتباه:
(و) ثم يأتى التوتر الحركى النزق = زلز ( أكاسثيزيا) Acasthesia: وهو نوع من فرط الحركة القصيرة المدى والمكررة، وفيها لا يكاد المريض يستقر أبدا، ويتحرك بخطوات سريعة وقصيرة فى المكان، ويحكى -غالبا- كمْ يعانى من التوتر الدائم المزعج، وتعتبر الأكاسثيزيا نوعا من القلق الحركى المبالغ فيه والمتكرر، وعادة ما تحدث هذه الظاهرة كأحد مضاعفات المهدئات الجسيمة (النيوروليتات الكلاسية) لكننا نلقاها أيضا فى بعض حالات القلق الشديد، وقبيل الهياج الكاتاتونى وبعض حالات الاكتئاب عقب الفصام.
(ز) وأخيرا فإن التهيج الهذيانى Delirious Excitement: هو نوع من عدم الاستقرار أكثر منه فرط الحركة التلقائى، وعادة ما تكون الحركة مرتبطة باضطرابات الإدراك المصاحبة (الخداع والهلوسة) وأيضا قد يصبغها السبب المسئول عن الهذيان .
2- وعلى الطرف الأخر قد يظهر الاضطراب الحركى فى همود الحركة،
ويتجلى فى المظاهر التالية:
(أ) تأخر الاستجابة Retardation: ويظهر هذا أساسا فى الاستجابة اللفظية للأسئلة أو الحوار، وإن كان يمتد أيضا للاستجابة الحركية، وبالرغم من أن أغلب حالات تأخر الاستجابة يشير إلى خمود فى النشاط عامّة إلا أنه قد يدل على درجة من التردد فى اختيار الاستجابة المناسبة، وبالتالى يصبح أكثر دلالة على نوع من اضطراب الإرادة وليس مجرد هبوط فى طاقة النشاط.
(ب) السبات Stupor: هنا يصل الهمود الحركى إلى درجة توقف الحركة تماما، وقد تتوقف حركة الأحشاء لدرجة بالغة وتظهر فى شكل إمساك أو انحباس البول أو حتى عجز عن بلع اللعاب، ويحدث مثل ذلك فى حالات الاكتئاب الشديد وما قد يكون مصاحبا له من عدميّة، وقد قل حديثا تواتر السبات مع الاكتئاب وإن ظل واردا فى حالات الكاتاتونيا (بالتبادل مع التهيج الكاتاتونى عادة)، ومن المألوف أن يسبق التهيج الكاتاتونى فترة قصيرة من السبات الهامد.
3- تكرار الحركة: وقد أوردنا هذه الأعراض هنا، وهى أيضا من منطلق اضطرابات الإرادة بشكلها المباشر كما سيأتى فيما بعد، ويظهر هذا البعد فى شكل الأعراض التالية:
(أ) اللوازم Tics: هى حركات معادة غير هادفة، وهى وإن كانت شعورية إلا أنها تلقائية ذات اندفاع مستقل، فلا يمكن مقاومة حدوثها، وتشمل عادة مجموعة صغيرة من العضلات، وهى عادة حركات قصيرة معادة، سريعة لا يملك المريض منعها، ونظراً لسرعتها لا يحاول ذلك أصلا.
(ب) الطقوس Rituals: وهى نوع من الحركات القهرية المركبة التى تصف السلوك الوسواسى فى مجال الحركة، ويدرك المريض أنها بلا معنى ولا مبرر لكنّه إذا منعها بإرادته توتّر حتى يعجز فيكررها فيهدأ مؤقتا لكن سرعان ما يتراكم التوتر حتى يكررها وهكذا، وهى شديدة التنوع من أول غسيل اليدين إلى إعادة قفل الأبواب، إلى تكرار الوضوء مرارا ….الخ.
(جـ) البطء الوسواسى: قد يبدو غريبا أن يوضع البطء كنوع من تكرار الحركة، إلا أن الفرض وراء ذلك هو أن البطء هنا لا يعتبر عدم حركة بقدر ما يعتبر تكرار السكون، أى أن المريض الوسواسى يكرر قرار عدم الحركة، وكأنه بمنعه فهو فى تباطؤه عن الحركة يكرر السكون، وهذا النوع يشبه الطقوس الوسواسية من حيث أن الإسراع بالحركة (محاولة تجاوز البطء الوسواسى) ينتج عنه نفس التوتر المتصاعد الذى يؤدى فى النهاية إلى تكرار السكون (إن صح التعبير).
(ء) القهر الوسواسى المركب: ويشير إلى نوع من تكرار تصرفات أكثر تعقيدا من مجرد تكرار حركة مركبة عادية، وبعضه يندرج أيضا تحت عجز التحكم فى النزوات، وهذا ما سوف نناقشه غدًا مع اضطرابات الإرادة.
4- اضطرابات حركية أخرى: (مما لا يمكن أن يدرج تحت فرط الحركة أو الهمود أو التكرار) ومن ذلك:
(أ) الجُمْدة Cataplexy: وتشير إلى فقد توتر العضلات فجأة حتى الخدل فالتخشب، وينتج هذا أحيانا مع فرط الانفعال (ولعل هذا ما يعنيه القول العربى: استلقى على قفاه من الضحك، ربما لأنه فقد توتر العضلات فجأة).
(ب) السرنمة Somnambulism: وهى ظاهرة تشير إلى “السير نوما” وهى أقرب إلى اضطرابات الوعى منها إلى اضطرابات الحركة، لكنها تُذْكَرْ هنا حيث تفسر بأن الجهاز الحركى يستيقظ (يستعيد وعيه) منفصلا عن الجهاز الحسى والإدراكى.
[1] – Conation = act of attempting – advice a wish or craving – to act purposefully (WEBSITE)
[2] – The power which impels to effort of any kind the conscious tendency to act, also: pertaining to will-power