الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف‏ ‏التفكير‏ (17) : خلفية ظهور الضلالات، وما يقابلها

ملف‏ ‏التفكير‏ (17) : خلفية ظهور الضلالات، وما يقابلها

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 30-3-2014

السنة السابعة

العدد: 2403

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الثالث: ملف‏ ‏التفكير‏ (17)

  خلفية ظهور الضلالات، وما يقابلها

كنت قد عزمت ألا أتطرق لهذا التفصيل المميز ما بين “الخبرة الضلالية” و”الحدس الضلالى” و”الذاكرة الضلالة” و”المزاج الضلالى” وما إلى ذلك، للأسباب التى ذكرتها فى الاسبوع الماضى، حيث تتداخل هذه الظواهر كلها فيما اسميناه “الظاهرة الفكروجدانية”، إلا أننى بمراجعتها فضلت إثباتها واحدة واحدة نظرا لحاجتى إليها فى محاولة توضيح مراحل الإبداع المقابلة، حيث أنه كما سبق أن أوضحنا فإن وجه الشبه بين الظاهرتين (تكوين الضلات وتشكيلات الإبداع) يتضح فى هذه المراحل الأولى أساسيا بالإضافة إلى المقابلة بين الاضطراب الجوهرى فى المرض وبين التفكيك المبدئى فى الإبداع، ثم بعد هذه المراحل، وغالبا بدءًا من الحدس الضلالى فإن المسار يفترق إلى توجه عكسى استقطابى: إما الضلال وإما الإبداع لنجد أنفسنا أمام نقيضين متباعدين إما منظومة ضلالية وإما تشكيلات إبداعية.

وسوف أحاول أن اشير بإيجازأولا بأول إلى ما يقابل كل ظاهرة فى هذه المراحل المرضية من مراحل تطور العملية الإبداعية.

1 – المزاج‏ (‏الوجدان‏) ‏الضلالى: ‏

هذا‏ ‏التعبير‏ ‏ترجمة‏ ‏تقريبية‏ ‏متواضعة‏ (‏سيئة‏ ‏أيضا‏) ‏لكلمة‏ ‏بالألمانية‏ ‏هي‏Wahnstimmung ‏ لم‏ ‏يمكن‏ ‏ترجمتها‏ ‏إلى ‏الإنجليزية‏ ‏أصلا‏ ‏بدقة‏ ‏كافية‏، ‏وهو‏ ‏تعبير‏ ‏يصف:‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏الوجدان‏ ‏الذى ‏يحل‏ ‏‏فى ‏الشخص‏ بشكل مختلف عن ما ألف من وجدان، وقد يحل فجأة، كما قد‏‏ ‏يسبق‏ ‏مباشرة‏ ‏ظهور‏ ‏الضلالات‏ ‏الأولية‏ (أنظر بعد) ‏التى ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏ ‏تأويلا خاصا ‏لهذا‏ ‏المزاج‏ ‏المفاجئ‏، ‏ونادرا‏ ‏ما‏ ‏يُرصد‏ ‏المزاج الضلالى هكذا لذاته‏، ‏فهو‏ ‏غامض‏ ‏عادة‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏متناول‏ ‏الوصف‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏ارتبط‏ ‏بالضلالات‏ ‏الأولية‏، ‏وفى ‏مرحلة‏ ‏لاحقة‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏المزاج‏ ‏الضلالى ‏يتوارى عادة ‏ليترك‏ ‏الساحة‏ ‏للأفكار‏ ‏الخاطئة‏ ‏بغير‏ ‏هذا‏ ‏الوساد‏ ‏الوجداني‏(‏المزاج‏) ‏الضلالى‏، ثم قد تستجلب الأفكار الخاطئة وجدانات أخرى مرتبطة بها ليس لها علاقة مباشرة بهذه الظاهرة المسبقة.

أحيانا لا يصحب هذه الحالة الضلالية يقين جاهز مطلق، وإنما يصاحبها تغير غامض فى المزاج ، عصىُّ على الوصف لأنه ليس المزاج المعتاد ، وأحيانا ما يكون يقينا مترددا مهزوزا يسمى الربكة (1)، وقد ينتهى بظهور ما أسماه أريتى “البصيرة الذهانية”(2)، ومن الأفضل أن يكون اسمها البصيرة الزائفة الذهانية، وهى أقرب إلى ما نسميه هنا الحدس الضلالى (انظر بعد): ويحل هذا التفسير الضلالى محل كل هذه الربكة، بيقين مطلق بفكرة تفسيرية خاطئة تكاد تفسر كل الظواهر المصاحبة وتحل غموضها.

وفى الإبداع: قد يقابل هذه المرحلة ما يسمى إرهاصات الإبداع أو حتى المزاج الإبداعى، وقد ينتج خلالها ما يعتبر التخطيط التقريبى قبل التشكيل النهائى، أما ما يقابل البصيرة الزائفة الذهانية التى تحل الربكة فى المزاج الضلالى فهو شىء أشبه بقرب مرحلة “الإلهام” حين تلوح معالم التشكيل الجديد أكثر تحديدا، لتحل محل هذا المزاج الإبداعى قبل الحدس الذى يكتمل به التشكيل، ثم يبدأ نسيج البناء الإبداعى.

30-3-2014_1

2- الإدراك‏ ‏الضلالىDelusional Perception:

هذا المصطلح له مفهوم تقليدى متعلق بالإدراك الحسى دون غيره، لكننا توسعنا فى تطيبقه ليشمل حضور واضطرابات الإدراك المتجاوز الحواس.

المفهوم الأول:‏يعنى سوء‏ ‏تأويل‏ ‏لمدرك حسى‏ ‏بذاته‏، ‏بمعنى‏ ‏أن‏ ‏مدركا‏ ‏ما‏  قد ‏يكتسب‏ ‏فجأة‏ ‏معنى ‏غير‏ ‏معناه‏ ‏العام‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏مريضا‏ قد ‏يرى ‏سحابة‏ ‏رمادية‏ ‏يقول‏ ‏عنها‏ ‏فورا‏ ‏دون‏ ‏تفكير‏، ‏وبـيقين‏ ‏مطلق‏: ‏إنها‏ ‏نذير‏ ‏حرب‏ ‏كونية‏ ‏بين‏ ‏العوالم‏ .

المفهوم الثانى: هو مفهوم نابع مما وصلنا إليه فى مبحثنا فى الإدراك الذى فتح مجال الإدراك لاستيعاب مؤثرات معرفية يقينية دون اضطرار للإسراع بترجمتها إلى معنى محدد مألوف أو غير مألوف، وهذا النوع من الإدراك الموجود أبعد قليلا عن الوعى الظاهر لا يمكن وصفه بأنه يشابه أو يبتعد عن الإدراك المألوف، لكن الاعتراف به كظاهرة واردة يخفف من غلوائنا فى قصر صحة الإدراك على معرفة ما نعرف، وهو يفتح الآفاق للأسوياء والمرضى أن يقبلوا مستوى من المعرفة بيقين لا يترجم،

وفى الإبداع: تقتصر مراحل تطور العملية الإبداعية على هذا النوع الأخير من الإدراك الذى لا يسمى فى الإبداع الإدراك الضلالى طبعا، وإنما يمكن أن نطلق عليه “الإدراك التجاوزى”، وهو يختلف عن الإدراك العادى، لكنه يتخذ مساراً جدليا قد يتطور إلى التكامل فى عملية إعادة التشكيل، أو هو قد يتوقف عند هذه المرحلة ويتراجع دون أثار سلبية.

 ولا يمكن الجرم إلى أى جانب ينتمى هذا الإدراك، إذْ يصعب التمييز على هذا المستوى بين السواء والمرض إلا بمتابعة آثاره المعيقة وكذلك بالنظر فى مضاعفاته المرضية، وعادة لا يظهر الناتج الإبداعى إلا بعد التراكم والجدل والتشكيل لدرجة تسمح بإعلان ناتجه بما يسمح بالحكم عليه.

وقد ينتمى ما يسمى الجو الضلالى إلى هذه المنطقة.

30-3-2014_2

3- الجو‏ ‏الضلالى:  

‏يطلق‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏على ‏الخبرة‏ ‏الضلالية‏ ‏العامة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏كانت‏ ‏أكثر‏ ‏شمولية‏ ‏وغموضا‏ ‏وإحاطة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏المزاج‏ ‏الضلالى، ‏والحدس‏ ‏الضلالى ‏والخبرة‏ ‏الضلالية‏، ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏الجو‏ ‏الضلالى ‏يحتوى ‏على كل ذلك بدرجات متداخلة مختلفة‏، ‏وقد‏ ‏يعبر‏ ‏المريض‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الجو‏ ‏بقوله‏ “إنه‏ ‏على ‏يقين‏ ‏مطلق‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏تحديده‏” (‏ويصفه‏ ‏بأنه‏ ‏شيء‏ ‏غريب‏، ‏أو‏ ‏مختلف‏، ‏أو‏ ‏خاص‏ ‏جدا‏، ‏أو‏ ‏ذو‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏. .‏إلخ‏)‏،

وفى الإبداع:  قد يستطيع بعض المبدعين أن يرصدوا ‏ ‏هذا‏ ‏الشعور الذى‏ ‏قد‏ ‏يصاحب‏ ‏إرهاصات‏ ‏الابداع‏ ‏أحيانا‏، كما أنه لا يمكن التفرقة مع حضور مثل هذا الشعور اليقينى إذا ما كان هو ضلالى أو مقدمة إبداع،  إلا إذا حصلنا على معلومات عن جوانب حياة الشخص الأخرى مثل الأعراض الأخرى فى حالة المرض أو التماسك الشخصى والإنتاج السابق فى حالة الإبداع.

هذا، وقد أوردنا بعض شهادات المبدعين ]‏(أ) ‏أبو‏ ‏المعاطى ‏أبو‏ ‏النجا،  (ب) إدوار الخراط (د) مجيد طوبيا ‏(‏هـ‏) ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏(‏و‏) ‏يوسف‏ ‏إدريس[‏.

فى نشرة “المعرفة الهشة” بتاريخ 17/2/2014 وكل ما أوردناه تقريبا يمكن التعرف فيه على هذا الشعور نفسه الذى أدرجناه هنا للمقابلة مع الجو الضلالى:

لكننى أستاذن أن أضيف خبرة شخصية، وكانت ضمن ما استشهدت به، أثبتتها أيضا فى أطروحتى عن “جدلية الجنون والإبداع

 ‏من‏ ‏خبرة‏ ‏الإبداع‏ ‏الشخصية

– يحيى الرخاوى: (3)

“…‏بل‏ ‏إنى ‏أشعر‏ ‏أنى ‏أقوم‏ ‏بـ‏ “‏إحياء‏ ‏اللحظة‏”.. ‏وهى ‏عملية‏ ‏إحياء‏ ‏أعيشها‏ ‏كلما‏ ‏أمسكت‏ ‏القلم‏،..‏فكلما‏ ‏جلست‏ ‏لأكتب‏..‏سافرت‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏فعشتها‏ ‏بكل‏ ‏التفاصيل‏ ‏والهمس‏ ‏والاستطراد‏، ‏والرسائل‏ ‏ذات‏ ‏المعنى، ‏والوعود‏، ‏والتنشيط‏، ‏والإحباط‏، ‏والمراجعة‏. ‏وعلمت‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏أقل‏ ‏القليل‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏يكفينى.. ‏فإلى ‏ثقب‏ ‏الإبرة‏ ‏نطلق‏ ‏منه‏ ‏سراح‏ ‏الكمون‏…”.‏

– يحيى الرخاوى:(4)

‏”..‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏أنسحب‏ ‏تماما،‏ ‏لا أنسى ‏أن‏ ‏أترك‏ ‏علامة‏ ‏مميزة‏ ‏بجوار‏ ‏ثقب‏ ‏الإبرة‏ ‏فى ‏مخزون‏ ‏وجدانى، ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏لصقتُ‏ ‏عليه‏ ‏شمعا‏ ‏قابلا‏ ‏للذوبان‏، ‏لعله‏ ‏يستجيب‏ ‏لى ‏تحت‏ ‏حرارة‏ ‏الاستدعاء‏ ‏حين‏ ‏أعود‏ ‏إليه‏ ‏أسحب‏ ‏منه‏ ‏الخيط‏ ‏من‏ ‏جديد‏”.

– يحيى الرخاوى(5)

 ‏” ‏وتتلقانى ‏أوراقي‏- ‏كالعادة‏- ‏بسماح‏ ‏شديد‏، ‏فهى ‏واثقة‏ ‏دائما‏ ‏أنى ‏لاأملك‏ ‏منها‏ ‏فرارا‏، ‏وأنه‏ ‏على ‏عينى ‏هجرى ‏لها‏ ‏هذه‏ ‏الدهور(6)، ‏فأمسح‏ ‏جبهتها‏، ‏وأداعب‏ ‏أطرافها‏، ‏وأنصت‏ ‏إلى ‏همسها‏ ‏وسط‏ ‏هذا‏ ‏الصخب‏ ‏المتداخل‏، ‏وأقول‏، ‏وتقول‏، ‏وأنظر‏، ‏وتوافق‏، ‏وأقترح‏، ‏وتعارض‏، ‏وآمل‏، ‏وتحذر‏، ‏وأبتسم‏، ‏فتتذكر‏، ‏وأتطلع‏ ‏للوجوه‏ ‏من‏ ‏حولنا‏، ‏فتعلق‏، ‏ويمر‏ ‏وقت‏ ‏ليس‏ ‏بقصير‏، ‏ثم‏ ‏أنظر‏ ‏إلى ‏المائدة‏ ‏فإذا‏ ‏الورق‏ ‏خال‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏سوء،….”.

 

[1]  – Perplexity

[2] – Psychotic Insight

[3] –  يحيى الرخاوى: “حركية الوجود وتجليات الإبداع” – شهادات الشعراء.

[4] – يحيى الرخاوى: “الترحال الأول: الناس والطريق” الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة”

[5] –  يحيى الرخاوى: “الترحال الثانى: الموت والحنين” الفصل الثانى: ويا ليتنى أستطيب العمى “

[6] – يومان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *