نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 27-5-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4286
مقتطف من كتاب:
“مستويات الصحة النفسية” (1)
من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة
هوامش ضرورية
الهامش الثالث:
تطبيقات محتملة لفرض مستويات الصحة النفسية
لقد عمدتُ من أول الأمر وأنا أقدم هذه الأطروحة ألا تكون وظيفتها مجرد بحث نظرى لمشكلة تعريف الصحة النفسية، إذْ أن الهدف منها هو أن نتمكن من استعمال مقاييس معينة ومحددة نقيس بها مستوى الصحة، وأن يخدم هذا التقسيم فهم بعض الظواهر النفسية المرضية والصحية على السواء، وأن يساهم فى تقسيم الأمراض النفسية ودرجاتها وكذلك اتجاهات العلاج والتخطيط له، وأن يتيح فرصة أكبر للدراسات المقارنة ويلقى ضوءا هادفا على وسائل التربية.، ومن ذلك :
1- إن التفرقة بين ” أزمة التطور” وبين “المرض” الذى يقتصر على الهزيمة أمام قوى التدهور، خليقة بأن توجه العلاج توجيها أساسيا منذ البداية: فتسهم فى انتهاء الأزمة المفترقية إلى سلوك طريق إعادة التشكيل، وهذا ما حاولته فى تقديم مستوى ثالث لتشخيص الأمراض بإضافة ما هو “أبعاد” Dimensions وليس فقط محاور Axes (2)
2- كما أنه من خلال هذه الفروض يمكن إعادة تقييم بعض الأعراض التى كانت تعتبر مضاعفات لبعض العلاجات الكيميائية أو النفسية تقييما جديدا، إذ أنها يمكن أن تكون علامة صحة على طريق العلاج، فإن ظهور الاكتئاب مثلا فى مرض الفصام أثناء العلاج يمكن النظر إليه على أنه تقدم وليس مضاعفة، حيث أن الاكتئاب (الحيوى وليس الثانوى أو الموقفى) من صفة الأزمة السابقة للفصام، فيمكننا أن نستغل وجود إيجابيته فى فهم وتطوير العلاج لتجنب الاستسلام للاستقرار المرضى (الأعراض السلبية)، وبديهى أن كل ذلك هو موضوع التطبييقات الكلينيكية الجارية فعلا منذ ظهور هذه الفروض.
3- إن بعض العلاجات التى غلب عليها مفاهيم التحليل النفسى (وخاصة التقليدى منها) قد تقتصر على المستوى المعرفى الذهني للصحة النفسية، وإذا اقتصرت رؤية الإنسان على تفسير سلوكه بالميول الغريزية الجنسية (صريحة أو متسامية)، فإن ذلك لا يتعدى حدود المستوى التفسيرى الذى انتقل من عقل صاحب النظرية أو معتنقها إلى المريض، مهما قام هذه النقلة بما تيسر من تفريغ انفعالى وطرح ومقاومة وما إلى ذلك، على أن النتائج التى قد يصل إليها بعض المرضى أثناء التحليل وبعده وهى التى تنطلق فيها القدرات التطورية فعلا بما يتخطى حدود النظرية ذاتها إنما تدل على أن الانسان إذ يتحرر يتعدى الحدود، وأولها حدود النظرية، وكأن مثل هذا المريض يستعمل العلاج بطريقته الخاصة لمجرد أنه إنسان متطور أساسا (3).
4- إن تقارب هذه الوسائل التوازنية منذ الولادة يعطى تفسيرا لوجود ملكات الخلق عند الطفل أكثر من الناضج، كما أن ترجيح القوى الدفاعية على القوى الخلاقة للحصول على التوازن بالطريقة الدفاعية عند أغلب الراشدين قد يفســِّر كمون هذه القوى الخالقة عند معظم الناس فى سن اليفوع وبعده.
5- ينبغى- بناء على ذلك - أن تتجه الأساليب التربوية فى عصرنا إلى عدم ترجيح مستوى من الصحة أدنى على حساب قدرات الإنسان التطورية، لذلك كانت محاولة تنمية الفكر الخلاق والملكات الإبداعية هى من أهم محاولات تطوير الإنسان، لأنه إذا تحقق التوازن مباشرة وبطريقة آمنة وهادئة ومخططة بتنمية قدرات الخلق أساسا فإن هذا خليق أن يعفى الفرد- وخاصة ذا الطاقة التطورية القوية- من مشاكل معيقة لنموه تعترض حياته فيما بعد، حين يحاول فى تطوره الفردى أن يرفض المستويات الأدنى التى فرضت عليه فرضاً، فيدخل فى أزمات تطور متلاحقة، لانعلم مدى إمكانيات نجاحه فى الانطلاق منها إلى مواصلة سبل النمو، أو احتمال فشله أمامها، ومن ثم التردى فى هوة المرض، أو النكسة إلى مستوى أدنى، وهذه الاحتمالات تكثر فى أقارب المرضى الذهانيين وأقارب المبدعين على السواء، ووضع كل ذلك فى الاعتبار أثناء ممارسة التطبيب والعلاج النفسيين يحمّل الممارس مسئولية توجيه المسار بقدر ما يحمله مهمة إزالة الإعاقة والتخفيف من المعاناة،……..و……..وأكثر.
[1] – يحيى الرخاوى (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) هوامش ضرورية (من ص 103 إلى ص 105) الطبعة الأولى 2017 والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
[2] - Breakthrough the Current Psychiatric Nosology – Arab Journal of Psychiatry (1990) Vol. 1 No. 2 81-92. Part I. & Part II: Multiaxial vis-a-vis Multidimensional Approach to Psychiatric Nosology Arab Journal of Psychiatry (1991) Vol. 2 No1. Page 1-13
[3] – على أنى لا ألوم فرويد بالذات رغم ماترك لنا من معوقات، فقد كان دائم الاعتذار فى تواضع العلماء، وذكاء أصحاب الغرض- عن تصوره، فهو الذى يختم كتابه الذى تناول فيه مشكلة الموت والتطور “فوق مبدأ اللذة” مستشهدا بقول الحريرى فى مقامته الثالثة: “فليس على أعرج من حرج” (مع إغفال لؤم تعارجه وغرضه) وكانت أبيات الحريرى التى اقتطفها من “المقامة الدّينارية” تقول:
تعارَجْتُ لا رَغبَةً في العرَجْ ولكِنْ لأقْرَعَ بابَ الـفـرَجْ
وأُلْقيَ بحبْلي على غـارِبـي وأسلُكَ مسْلَكَ مَن قد مرَجْ
فإنْ لامَني القومُ قلتُ اعذِّرَوا فليسَ على أعْرَجٍ من حرَج